أمين الوائلي -
عن (حرية الصحافة): الخوف منها.. والخوف عليها!
*الصحافة وحرية الصحافة من المواضيع المثارة باستمرار، وأظن أن الجدل المتبادل حول هذه القيمة سوف يظل كذلك، ويستمر إلى ما لا نهاية، فلا يوجد سقف محدد للقيمة التي يراها كل طرف من زاويته، وبحسب قناعاته وموقعه في الانتماء السياسي والحزبي المواجه والضد لانتماء سياسي وحزبي آخر، تستعر بينهما اختلافات طبيعية، كما هو شأن وحال التعددية في كل شيء، إلا أنها سريعاً تخطوا وتتراكض نحو خلافات زائدة لا يبررها الاختلاف.
*وهكذا تحول الاختلاف حول معنى وقيمة (حرية الصحافة)، وأيضاً حول وظيفتها النهائية إلى خلاف متراكم تتوالد عنه خلافات أخرى وتشعبات لا نهائية تتطرق إلى قيم مختلفة ليست هي حرية الصحافة حصراً.
*في أجواء غائمة ومعانٍ عائمة كالتي تجسدها الحالة السابقة، يختلط السياسي بالمهني، والحزبي بالمدني، كما تتداخل المفاهيم بطريقة تجديفية يغيب عن وعيها المباشر ضرورة التمييز في المواضيع وفرز القضايا وتحديد القيم بآلية معرفية مواتية، ووفق منهجية تنظيمية تراعي جانبي العموم والخصوص، وإعادة المسميات إلى أسمائها الحقيقية.
*حين تتحدث الصحافة عن قضية ما، فإنها تستمد الحق والمسئولية –جنباً إلى جنب- من الحرية التي لا خلاف حولها، إنما يبقى الاختلاف ناشباً بين أفراد المهنة والوسط الحقوقي والمدني، وحتى الحزبي والسياسي حول تفسير ومعاني الحرية وتنزيلها على المستويات السلوكية والمهنية، حتى يكاد الخوف من حرية الصحافة يولِّد الخوف عليها.
*فهل يمكن ضبط المصطلح وترشيد المفهُومية القيمية الخاصَّة به؟ أم أنَّ جدل الحرية وحربها الضروس باتا أهم وأكثر شغلاً من الحرية نفسها؟!!
*لا جدال.. فإن حرية الصحافة مكسبٌ جماعي وضرورة وطنية مطلقة ضمن مسلمات التعددية السياسية والمجتمع المدني والنظام الديمقراطي بعموم تفاصيله وتجلياته الداخلية، وهو مكسب لا يزال ناشئاً ومتنامياً.. ولا بد –في أحوال مشابهة- أن يعتور التجربة لغط كثيف وأخطاء محتملة لا سبيل لدفعها أو التخلص منها إلا بالمزاولة اليومية والتعلم المستمر واكتساب خبرات متراكمة تهذِّب القيمة وترشد سلوكيات الممارسة اليومية لها.
*ذلك أنَّ الأخطاء ورادة دائماً.. سيَّما في بدايات تجربة جديدة، وربما كانت الأخطاء هذه حالة إيجابية في طريقة التعلم الذاتي بالتجربة الحية، ولا يوجد حتى اليوم، حتى في بلدان الديمقراطيات الكلاسيكية، حالة واحدة يمكن أن تعصم نفسها من الخطأ، وأن يكف الجدل خلالها حول حرية الصحافة، بمعانٍ متباينة وتفسيرات طارئة بطروء مواضيعها اللاهبة.
*يبدو، بطريقةٍ ما، أن مهنة الصحافة لازمها هذا القدر من الخصوصية والاشتباك الدائم، ويصعب الجزم بإمكانية الخلوص من حالات الشد والجذب الدائمين حول قيمة الحرية واقترانها بالصحافة تحديداً.
*وقد لا يجد المرء بداً من البوح بقناعة خاصة في هذا الخصوص الموضوعي، إذ لا يجب التهويل من شأن مترادفات التفسير الشائك للحرية، ولا التهويل من خطورة محتملة قد تكتنف الحرية الصحافية في عملها أو تولدها أو تجعلها ممكنة التفاحش بالنظر إلى أولويات وحسابات ومصالح يقوم عليها أناس متباينون، سواءٌ في النظام والحكم والسلطة، أو في غيرها من المؤسسات والعلاقات والوظائف التي هي محل مراقبة ونقد من قبل الصحافة بدرجة مباشرة وأولى.
*دعونا نتفق أن الحرية ليست أقل من فظيلة وليست أكبر من سلطة أخلاقية وأدبية ومدنية تشتغل عليها الديمقراطية وتتقوم بها أسس الشراكة مع الأفراد والجماعات في إطار من الرقابة والمتابعة والإشهار وتعميم المعلومات وإشاعتها بحيث تكون متاحة للجميع في إطار من الشفافية والحق والالتزام بالمسئولية في حدود المصلحة العامة.
*وقد ينشأ الخلاف هنا في تفسير وتحديد معانٍ مختلفة لهذه (المصلحة العامة) أو حدودها، ولهذا يعتقد من يطاله نقد وإشهار صحافي، حين يكون في وظيفة عامة أو ما شابه أن المصلحة العامة إنما تعني تجنيبه هو (شخصياً) أو الوظيفة التي يملؤها- تبعات النقد والمراقبة، وهذا يفسِّر كثرة الخوض في نقاشات جانبية تتعلق أحياناً بمسلمات أو ثوابت في الجانب العمومي، منها مثل المصلحة العامة والنقد البناء والسيادة وغيرها من المواضيع الملتهبة على صفيح الصحافة الساخن.
*الأشخاص –ودعونا نقول الوظائف- الذين يعتقدون أن مراقبة وظائفهم، وليس شخوصهم، وإشهار جوانب القصور والتراخي في أعمالهم إنما هو تعريض فج ومباشر بالمصلحة العامة والوظيفة العامة، يساهمون في تعميق الجهل أو التجهيل المعتمد حول المفاهيم والمكتسبات الديمقراطية والمدنية، ولكنهم أيضاً سوف يتعودون ويتعلمون مع التجربة والأيام على التأقلم مع وضع جديد وقيم جديدة لم تعد قابلة للإزاحة والتهميش.
* تماماً كما أن الصحافة وحريتها تكتسب خبرات ودروس متزايدة تجعلها في محل إلزام أخلاقي على إتيان الفضيلة بما لا يسلبها فضلها، أعني حرية الصحافة والتعلم كل يوم من خلال الأخطاء ومن خلال الإيجاب والإجادة، كذلك.
*ليست فضيلة مثل الحرية تدعو إلى الخوف والهلع، فقط يحتاج الأمر إلى تفسير طويل في التعامل معها، وإلى نفسٍ أطول في التعلم منها والصبر عليها..
شكراً لأنكم تبتسمون