محمد حسين العيدروس -
(التسامح).. هذه بضاعتنا ردت إلينا..!
ليس هناك حقيقة أكبر من التاريخ، ومن يعتقد أن الوعي الإنساني قد تزيفه بعض الخطابات وتصبح حقائقه نهجاً لفوضى زمن الحريات الديمقراطية، فلا شك أنه الأبعد عن إدراك جوهر الثقافة الإنسانية التي تمنح الحقائق حصانة أكيدة ضد كل محاولات التزييف والتزوير.
فالذين يتحدثون اليوم عن (التسامح، والتصالح) إنما هم لا يصنعون لأنفسهم حضوراً بقدر ما يعيدون لذاكرتنا جميعاً مفردات تلك الحقبة التاريخية التي رسخت ثقافة التسامح والتصالح والحوار بين مختلف القوى الوطنية، ونجح شعبنا خلالها في استعادة إحساسه بالأمن والسلام، ورص صفوفه مجدداً للانطلاق في مسيرة البناء والتنمية والتي كانت أولى ثمارها أن أعدنا تحقيق وحدتنا المباركة.
فمنذ منتصف سبعينات القرن الماضي وحتى أوائل التسعينات لم يكن في اليمن –بشطريها- من يتحدث بلغة الحوار والتسامح، بل أن السمة الأبرز لساحتنا كانت أسيرة فكر سلطوي شمولي وقوى سياسية لا تؤمن بغير لغة التفجيرات والاغتيالات التي أودت بأرواح ثلاثة رؤساء يمنيين في غضون أقل من عام.
لتكون تلك الأحداث هي الفصل الأخير من ثقافة العنف السياسي التي تحولت في عهد الرئيس علي عبدالله صالح إلى ثقافة الحوار، مناط بها إرساء ثوابت فكر الشعب اليمني مجسدة في (الميثاق الوطني)، ثم إنشاء أول وأوسع مظلة حوارية قائمة على لغة التسامح والتي ترجمها المؤتمر الشعبي العام.
المتحدثون اليوم تحت شعار (التصالح والتسامح) إنما هم يعيدون إلينا بضاعتنا.. ويعيدون ذاكرتنا إلى الفترة التي التقت فيها كل القوى السياسية الوطنية-بمن فيهم أولئك الذين كانوا يعارضون النظام بالبندقية والهاون- ليؤسسوا مع مطلع الثمانينات أكبر مظلة عرفها تاريخنا الحديث للعمل السياسي الوطني، ولولا ذلك النهج الذي تبناه المؤتمر الشعبي العام لما كان بوسع أحد اليوم أن يتحدث عن الوحدة أو أي نوع من الممارسات الديمقراطية والحريات التي يتمتع بها شعبنا اليوم.
لا شك أن ما يعتقده البعض أنه مهرجان (تسامح وتصالح) بين أولئك الخصوم الذين حولوا عدن وما حولها في غضون بضعة أيام إلى أكبر مقابر العالم الجماعية، ما هو إلا استعراض للشخوص ومحاولة للالتفاف على التاريخ من زاوية الجيل الذي لم يشهد الحدث ولم يسبق له رؤية وقائع ذلك اليوم الدامي (13) يناير 1986م، وما تلاه، والذي يفترض اليوم أن نتذكره وقد تصالحنا مع أنفسنا ومع الوطن.. وحددنا قضيتنا، وهويتنا، وحتى الغد الذي نحلم ببنائه لأجيالنا القادمة.
إنه لمن السخرية بمكان أن نجد من يتحدث عن التسامح والتصالح بلغة الإقصاء والتخصيص والانتقاء لأبناء الوطن الذين قرر أن يتسامح معهم في الوقت الذي يتخذ موقفاً أنانياً أو عدائياً مع بعضهم الآخر.. فهل هو تصالح مع المصالح الشخصية والفئوية؟ أم ان الأمر لا يتعدى كونه شعاراً رقيقاً- مجرباً من قبل الساحة الشعبية- يصلح أن يتخذه البعض مظلة للعودة إلى الأضواء السياسية ومسوغاً للإتيان بكل ما هو غير مشروع تحت خيمة الديمقراطية وممارسة الابتزاز السياسي بنفس وجوه يناير 1986م، ولكن بممارسات تعدها الدولة ضمن الحقوق الديمقراطية المكفولة دستورياً للمواطن.
إن من يدعو إلى التسامح والتصالح عليه أولاً أن يتصالح مع القانون والدستور ويحترم النصوص المرتبطة بأصول تنظيم المسيرات والفعاليات المدنية.. وأن يحترم إرادة شعبه وثوابته الوطنية تجاه الوحدة اليمنية، فلا يضع نفسه في موضع الخصومة مع القانون، ومع الملايين اليمنية الحريصة على وحدتها، بدعوى التصالح مع أشخاص أو فئة معينة.
لا بد من الإيمان أن التسامح والتصالح وهي أخلاق ومثل إنسانية نبيلة لا تستقيم فيها دعوة التصالح مع خصوم الماضي مقابل مخاصمة الوطن، والجماهير الوحدوية والإتيان بالممارسة المشبوهة التي من شأنها زعزعة أمن واستقرار الوطن، وجر أبنائه إلى أتون فتن جديدة قد لا تحظى بفرصة التصالح والتسامح كغيرها.
بالتأكيد أن البعض الذي يحاول لبس ثوب الفضيلة سيعجز عن تمرير الخديعة على الآخرين، لأن الفضيلة ممارسة وليست مظهراً أو شعاراً للتسويق. وحينئذ سيعلم الجميع أن بضاعتنا ردت إلينا وأن للتسامح والتصالح (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)..!
*عن الثورة