الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 10:35 ص
ابحث ابحث عن:
دين
السبت, 12-يناير-2008
المؤتمر نت -  محمد مصطفى ناصيف -
الهجرة المباركة إشراقة أمل على وجه التاريخ
في لحظات التأمل تتداعى الخواطر، فكلما رحل عام هجري، وأطل عام جديد، هرعنا إلى المخزون من تاريخنا، نقرع الذاكرة كأنما نستلهم إشراقات الماضي.. تمر بنا دقائق وساعات وسنوات تتساوى في الوقت بعد انقضائها لأنها تعلن بدء الانطلاق إلى زمن آخر جديد، وهي متسارعة مثل دقات الساعة..
نهرول خلف الأيام الهاربة..نتلمس في ضوء مصابيح الذكرى معالم الطريق أن ذكرى الهجرة العطرة في هذا الموضع لا يحتاج لسرد الأحداث والوقائع إذ من الواجب أن يكون جميع المسلمين على دراية تامة وإلمام محيط بمغازيها وعياً وحفظاً وفهماً. ولا رفعة لأمة لا تحفظ وتحافظ على تاريخها، وأي تاريخ أرفع وأنقى وأسمى من ذلك الذي أضاء نوره الإسلام، وزرعه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في صحراء القلوب يتعهده الجيل القرآني الفريد الذي أثمر بهم.. ومنهم نما وترعرع وكمل.

* * *

نحاول إزاحة الغبار عن وجه تلك الأيام التي غطّاها بُعدنا عن ضيائها، نزيح عن القلوب كل الستائر السوداء، لنعيدها مشرقة بآمال نرسمها بأمانينا، ننتشلها من سرابنا، ونقتنصها من الأحلام برسم بسمة على شفاه العام الجديد..نفتح له القلوب، ونجعل الصدور واحة أمان بارتداء ثوب الإيمان ليكون محطة استقرار، تتيح لنا القوة على مواجهة الحياة من جديد.

إن الزمن ليس له قيمة أو مدلول بحد ذاته، ما لم يكن عنصراً من عناصر الفعل الإنساني، إذا لم تملأ ذراته وثوانيه ودقائقه بالجهد النابع من عقل الإنسان وفكره وساعده أيضاً، مناسبة خالدة مميزة ليوم استيقظ لأول مرة في التاريخ أسدل الستار على الأيام المظلمة التي سبقته قبل ألف وأربعمائة وخمسة وعشرين عاماً انقضت على ذلك اليوم، لينير التاريخ مجدداً والذي ارتأته حكمة الفاروق(رضي الله عنه) بنظرته الثاقبة وبصيرته الإيمانية الشامخة الصادقة بأن يكون ذلك اليوم تاريخاً للإسلام والمسلمين لفهمه العميق والدقيق لما ينطوي عليه، وأن يكون ذلك اليوم الخالد بداية لزمن إسلامي جديد توقيتاً للزمان كله، ومنهاج حياة حيث قام النبي الكريم بتأسيس دولة الإسلام فور قدومه.. بعد غرس الإسلام والإيمان في العقول والقلوب المكيّة طيلة ثلاثة عشر عاماً، لتثمر وعلى أساس متين في توأمها المدينة المنورة.. ومن المسجد الذي أسس على التقوى حين كان العمل الأول الذي قام به صلى الله عليه وسلم حال وصوله. لتبقى البشرية مدينة لهذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم بتشكيل نظام جديد، ودولة جديدة تحمل مشعل الإيمان والضياء ورسالة الخير والهدى للإنسانية.. فكانت عنواناً للنصر وبداية لعهد النجاح. وهذا بعد أن أفرغت قريش كل ما في جعبتها من التنكيل والإيلام والأذى والمطاردة في مكان يُحجَر فيه على العقيدة ويحاصر فيه الفكر وتفرض فيه شريعة الوثنية وتعدد الآلهة.

لم يكن هناك بدّ من أن يترك محمد صلى الله عليه وسلم ومن كان معه من المسلمين – المكرمة مكة- رفضاً لمجتمع الخطيئة، ومجتمع الوثنية..مجتمع الإكراه الغارق في أميّة الجهالة الذي يصرّ على ممارسة التخويف والظلم ورفض الدعوة رمزت فيه قريش إلى القوة بالوثنية، والمجد المزعوم بالصنم الأصم، وشكلت فيه الجاهلية كهافة متخلّفة تضيق ذرعاً بالإيمان وأهله، لأنه مجتمع يفترش التراكم الفردي والغرور الأجوف وهنا لا بد من الابتلاء بسبب الصدام مع الجاهلية وأنواعها المتعددة..لأن الحق واحد لا يتعدد في كل زمان ومكان.. ولأن الباطل مهما اختلفت أشكاله وتعددت صوره وتنوعت مشاربه لا يمكن أن يهادن الحق، وليس الواقع المعاصر عنّا ببعيد أو غريب.

جاءت الرسالة الإسلامية استجابة لصرخة الحق، ولأنين الإنسان عبر القرون.. وهو يشكو ظلم الإنسان وصلفه وغروره، حيث كانت مكة تسع جميع الناس من أهلها والوافدين إليها.. ولكنها ضاقت يومذاك برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين التفوا حوله ليصوغهم بالقرآن الكريم صياغة إسلامية، يواجهون بها الباطل اليوم وغداً..على كل أرض...وتحت كل سماء..بعدما أصبح المجتمع كله في جاهلية مطلية بالمكياج وأدوات التجميل كافة.

كان لا بد من الهجرة لتكون بسمة أمل على وجه التاريخ، فكانت الهجرة النبوية تطهيراً للعقول والنفوس مما خلفته الجاهلية، وانعطافة كبرى في دواعي الهجرة بالدعوة، ونقطة التحول الكبرى في تاريخ ونقطة البداية في إقامة الدولة الإسلامية. كانت الهجرة النبوية المشرّفة من أبرز الأحداث ذكراً، وأعمقها معنى، وأبعدها أثراً، والهجرة الروحية غير مرتبطة بزمان ولا مكان..لأنها تتجاوز الواقع التاريخي.

كانت الهجرة الكريمة عبقرية الحدث بإنشاء الدولة والإنسان والزمان والمكان لتتفاعل هذه العناصر وتتمازج جميعها تأثراً وتأثيراً.. أخذاً وعطاء لتشكل نسيج التاريخ والأمة الواعية التي تخطط لمسيرته على أساس من بعد النظر وحسن التقدير وقوة الإعداد وسلامة التهيؤ بحيث يكون لكل خطوة حسابها.

وكانت الهجرة رمزاً إيمانياً للخروج من مجتمع الخطيئة إلى مجتمع الحقيقة.. لتكون الرحلة مساحة تتسع لكل المؤمنين والمضطهدين والمظلومين..وانتصاراً للواقعة الإيمانية، حيث شكلت الهجرة المحمدية احتفاء معرفياً لانتشال الإنسان من هذه الضلالة وذل الوثنية إلى نور الهداية وعزّ الوحدانية وانتقالاً إلى هذا الدين الذي ساوى الجميع عرقاً ولوناً ولغة في مسيرة الهجرة النبوية الطاهرة لم يكن الموكب النبوي مدجّجاً بالسلاح والعتاد وأصناف التقنية البشرية كافة..موكباً لم يحظ بعشرات الحراس، موكباً لم تسبقه حملات الاستطلاع والتفتيش وأجهزة الرصد والاتصال وإنما كان "عبدالله بن أريقط" يقود جملاً وحيداً يقطع به هول الصحراء المترامية..كأنما يغرس بذور الإسلام على طول الطريق، لتكون رحلة. الانتصار لأكرم من أقلته الغبراء..وأظلته الخضراء.

إنّ تعاقب الأيام وتدابر السنين لا يعني شيئاً إلاّ إذا جاءت منسجمة مع نواميس الصراع الحياتي لتحقق الأفضل والأكمل، لأن أجمل شيء في المستقبل إننا لا نعرف عنه شيئاً. وأن أجمل شيء في الغد هو أننا نعيشه بلحظته، وننسى أن الزمان لا يتدحرج إلى الوراء..وأنه لا أحد يستطيع أن يمسك الظل..فسوانا يكون حسابه للعام الجديد بمظاهر الجدة.. وتغيير الأرقام.. آملين أن لا نكون من أمة استعارت أعوام وأزمان الآخرين، وتبات غافية في ظلها..احرص ما تكون على حياة. مضى ذاك العام تاركاً خلفه وعوداً بلا تنفيذ.. وأحلاماً بلا ألوان، وحلّ عام1426هـ واحتفالات تعلن عن قدومه لكنها لا تحفل به. مضى ذاك العام وخلّف وراءه أوراقاً ووروداً عطشى..وحبّات زيتون بلا زيت. مضى ذاك العام دون أن يوصلنا إلى بر الأمان أو يعطينا شعوراً بالاطمئنان،وحل عام1426،على استحياء.. يدخل حياتنا بصمت.

حلّ عام 1426 عاماً جديداً قد لا تستحق هذه الأمة ولادته فيها لأنها لا تزال تعيش خارج سور الزمن، وعلى هامش التاريخ في زمن الآخرين، دون أن تلوّنه بإرادتها وقيادته.ومضى ذاك العام لنقلب بعده الصفحات ؛ وتبدَّل الأرقام ؛ لنكبر عاماً ونزداد هموماً، نخجل لقدومه، ويستحي أن يقترب منها.. حيث مضى العام الذي قبله تاركاً جروحاً نازفة لعلّ العام الجديد يداويها.

قدم العام الجديد1426 هـ ونحن مذهولون بآخر مسلسل النوازل والكوارث الذي يصيب هذه الأمة وهي تنظر إلى مأساة العصر في عالمنا الإسلامي ونحن في أشدّ حالات الاختلاف.. للاتفاق على تحديد موقف ثابت واحد.

نعم ستبقى الهجرة انتصاراً للإنسان المسحوق بالإذلال. وكما تبقى تحدّياً للاستغلال الغاشم لأن الله سبحانه وتعالى قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته بقوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"(الأنبياء:107). فلا بدّ وأن تكون هجرته ورسالته رحمة للعالمين أيضاً منذ بدايتها:"فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ" (الحجر:94) إلى قوله تعالى:"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً" (المائدة:3). فقد بلغت غايتها، وبهذا بلغ فهم السلف الصالح لروح معانيها بقوله تعالى:"الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر"(الحج:41). أما نحن أبناء أمتي فماذا يجب علينا بعدما خطّ لنا قائد المسيرة صلى الله عليه وسلم الطريق وأناره، وتركنا على المحجّة البيضاء لا يزيغ عنها إلا ضال، حيث لا يكفي أن يسمع الناس منا الكلام عن الإسلام فقط؛ بل يجب مشاهدته وتلمسه في أفعالنا..يداً حانية تمسح جراحات المعذبين، ودمعة لاهبة في أعيننا لآلام المصابين، وصرخة مدوية في وجه الظلم والظالمين وعوناً لكل الأخوة المضطهدين والمهجرين، ورحمة واسعة تغمر الإنسانية وجميع إخواننا المسلمين.

فأين يقف المسلمون اليوم من فقه الهجرة ومعطياتها ودوافعها ثم نتائجها؟ وهل يعلمون أن من أهم معانيها التحلي بأخلاق صاحب الهجرة صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً.. فقد جاء حدث الهجرة إنقاذاً لمسيرة الدعوة ممن يتربصون لها، وإخراجها إلى حيز التطبيق العملي، كما وإن أهم دروس الهجرة الثبات على العقيدة والمبدأ. ونقل أمة الإسلام من أمة الدعوة إلى دولة الدعوة، ومن أمّة متفرقة إلى أمة موحدة. فهي بداية أخوة الإيمان الحقيقية. وإن عظمتها تكمن في تأسيس الدولة، ودوامها وسؤددها يتم في الحفاظ والمحافظة على جميع ذلك.

وهكذا ستظل الهجرة الكريمة رمزاً ودرساً لكل الذين يمارسون زراعة الخوف في المجتمع الإنساني، ولكلّ الذين يصادرون الحرية جسداً وقولاً، لأن في غربة الإسلام..اغتراب للروح وابتعاد عن السمو.. وفي غربة الروح نزوح عن منابع الذكرى ومناهل الإيمان.

يجب أن نجعل من ذكرى هجرة رسول البشرية بداية لهجرة المسلمين إلى ربهم.. إلى نبيهم. وإلى كتابهم، كي تعيد أمتنا أمجادها وتسترد ما اغتصب من أرضها، وتقيم حكم ربها على أرضها..وتنبذ وثنية البشر.. لأنها كوثنية الحجر. وتجعل من ذلك اليوم توقيتاً للزمان كله.. ومبشراً بضياء جديد يهدي الإنسانية إلى الطريق الذي ارتضاه الله للبشرية وإصلاحاً للزمان والمكان والإنسان.

عضو رابطة الأدب الإسلامي
*عن الغد الاردنية




أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر