سام عبدالله الغُـباري -
ملف 13يناير 1986م .. لا يزال مفتوحاً..قابيل .. ماذا فعلت بأخيك ؟
عام 1986م .. كان عمري 6 سنين .. لا أعرف عن الصراع شيئاً في عدن ، فقط مشاهد من التلفاز في شطرنا الشمالي ـ آنذاك ـ توحي بحقيقة ما يحدث .!!
- والمذيع يسأل في حزن ” هل أصبحت عدن ”مثل طيبة“ في تلك المأساة الإنسانية ” أوديب“ لا أحد يدري إلى أين تسير“ ومن الطبيعي أن صبياً في هذا العمر لم يكن يعرف حجم ونوع ما فعله حكام عدن المتصارعين .. وقد كان كاتب يقول في مجلة قديمة لم تسعفني الذاكرة باسمها ( مع جريمة 13 يناير 1986م ) أمواج اليأس تضرب الشواطئ اليمنية بضراوة ” ولم أفهم بالطبع ما الذي كان يعنيه الكاتب في عنوانه الصارخ .
إن عيني تلميذ الإبتدائي ومشاعر الصبي لم يعد لهما مكان الآن ولا مكان أيضاً لإستدعاء صورة الملابس التي أتسخت في ذلك اليوم .. هروباً من عصا مدير المدرسة ، حين تعيد قراءة ما جرى بعد 22 عام كاملة ، وحين نسجل ملامح اللحظة التي توقف فيها الزمن أمام رئيس كان قادراً على أدهاش كل الناس بأختيار الحلول السلمية ولم يفعلها ، لقد أختار علي ناصر محمد الغدر بخصومه في الاجتماع الدوري للمكتب السياسي للحزب في مقر اللجنة المركزية بتواهي عدن ، لم يحضر وأرسل حراسه لقتل خصومه ، فكان أول رئيس ينقلب على نفسه ويجر دماء الناس الأبرياء إلى رصيف قذر (!!).
- وفي 12 ديسمبر 1987م أصدرت المحكمة العليا في اليمن الجنوبي حكماً بالإعدام ضد علي ناصر محمد رئيس اليمن الجنوبي آنذاك ، كما أصدرت أحكاماً بالإعدام بحق 34 من أنصاره ومن بين هؤلاء 19 شخصاً غائباً ، كما حكمة على 17 مسؤولاً وكادراً بعقوبات مختلفة بالسجن .
■ حين أصدرت هذه الأحكام تصدع الحل الأخير في أيجاد حلول سلمية في تفادي مأساة قادمة ، وكان العقيد علي عبد الله صالح أول من تدخل لوقف الأنهيار الحاصل ، أجرى أتصالات مبكرة في يناير 1986م ، ووجه العديد من الرسائل في الشهور التالية وأجرى إتصالات مبكرة أيضاً مع العديد من الرؤساء العرب لتدارك الموقف المتصدع وأجرى مباحثات مع حيدر أبو بكر العطاس وعلي سالم البيض والعديد من حكام عدن السابقين خصوصاً فيما يتعلق بالمحاكمات والأحكام وحين صدرت دفعة الأحكام الأخيرة في 12 ديسمبر أجرى العقيد / صالح أتصالاً هاتفياً بعلي سالم البيض حضه فيه على تأجيل الأحكام قائلاً : أن ذلك سيرمم الأحزان والجراح الناجمة عن أحداث 13 يناير 1986م ، وهو الذي خاض بنجاح تجربة توطيد الوحدة الوطنية في الجمهورية العربية اليمنية - يعرف أن هذه الموجة من الأحكام من شأنها أن تعيق أي خطوة لمصالحة داخلية في الشطر الجنوبي الذي يسعى بدأب لتحقيق الوحدة معه .
■ وهذه الموجة التي تلت إعدامات حكام عدن السابقين لأنصار علي ناصر محمد بالهوية وتجاوز عددهم الآلاف تدمر أي أحلام أو أوهام بمصالحة داخلية ما لم يتم تقديم أصحابها إلى العدالة أو النزول إلى ذوي القتلى الأبرياء لأخذ مساحة خطية يتنازلون فيها عن دماء من أكلتهم الغربان وعملت الدولة على مطاردتها بالبيض المسموم وبالرصاص أيضاً .
- وقد حاولت صنعاء أن تصب الماء على النار لإطفائها ، وأنتظرت أن يعود المنطق من أجازته الطويلة لإجراء مصالحات من أجل مصلحة اليمن بشطريه ، وخدمة لقضايا الإستقرار فيه وفتحت أبوابها للنازحين الجنوبيين الذين صار عددهم مائة ألف على أمل أن تنحسر موجة الأحقاد فيتاح لهم العودة إلى عدن بأمان ، وتجاهل إنقلابيو عدن ( زمرتهم وطغمتهم) مناشدات الأشقاء والأصدقاء بوقف الإقتتال ، وتقدموا نحو أعمال التنكيل والإرهاب ، والمحاكمات الصورية .
■ شعارات المصالحة التي تبرز الآن نكاية بالنظام القائم ، لا تقود إلى عقلانية واقعية فالشعار الأجوف أفرغ تماماً من محتواه عندما يتزعم هذا الأمر شخصيات إمتلئ جوفها بدماء الناس ، صادرت رقابهم وهدمت بيوتهم .
■ من يريد فعلاً أن يملك المصالحة ويتحدث عنها هو إبن القتيل .. وشقيقه وقريبه .. من يملك أدوات التسامح هو المغدور في عرضه ولا أحد سواه .. لأن مفاهيم التحول من قاتل بارد إلى كاهن متعبد بحاجة إلى تطهير للآثام وتشريع القصاص كحياة لأولي الألباب ، ولا يملك العفو إلا صاحب العفو .
- ومجرد الهروب إلى كنيسة قديس للإعتراف بالذنوب لا يمحيها كما يظن المتحذلقون ، بل يحيى الثارات المناطقية ويأجج في النفوس ناراً أطفأت الوحدة اليمنية الكبيرة أوارها ، ويدرك أبناء هذا الجيل الذي أنا واحد منه أن الإختلاف مع النظام الحاكم أو الرئيس شخصياً ، لا يلغي رأسك من جسدك كما كانت تفعل عصابات الدم الحاكمة للشطر الجنوبي .. فكل تحالف قادته زمرة منه ضد طغمة أخرى إنتهى بسحق إحداها ، تفرخ التحالف المنتصر إلى قيادات جديدة تأكل نفسها وتنقض على الحلقة الأضعف ، ومن فجروا المأساة في عدن 86م فجروا مأساة حرب صيف 94م وقادوا حملة صورايخ أسكود للإنقضاض على المنازل الآمنة في صنعاء .
وجاء قرار العفو الذي أطلقه صالح بحق جماعة الـ16 - 1 قبل سنوات تأسيساً لثقافة التسامح التي كانت إحدى ميزات هذا الرجل الذي مهما إختلفت معه أو حتى طالبت برحيله عن الحكم في أقصى ما تدعوا إليه لا يفجر أحداثاً مأساوية وينقلب على نظامه ويرسل حراسه لتصفية مـناوئية .
■ لقد تمتع محمد قحطان واليدومي وحميد الأحمر والخيواني وكتاب صحفيون برؤوسهم وكان أقصى ما فعلته السلطة القائمة إستصدار الأحكام المختلفة بحقهم ، أو جرجرتهم بعدوانية إلى النيابة ، وهي تصرفات مرفوضة لكن العمل على تأسيس الحرية لا يؤخذ بالتمني بل ينتزع بالإرادة والإستمرار والصلابة .
■ أنا أفكر الآن وأراجع تاريخ حكام عدن وأرى أن التصفيات المتواصلة كانت فلسفة عميقة لنهجهم الثوري المستبد ، فمن دماء الشهيد قحطان الشعبي وأنصاره إلى دماء الرئيس سالمين وأنصاره يتخللهم ضحايا الطائرات والتصفيات والأحكام الصورية ، وصولاً إلى المجزرة الإنسانية في 13 يناير 86م ، وتطورات القتل بالهوية من التحالف المنتصر والأحكام المرافقة لها بعد عام ، حتى حرب 94م التي قضت عليهم وأنهت حقبة سيئة من الصراعات الدموية وأبعدت تماماً جيلهم المتورم من الدماء ، والآن يدعو الجلادون إلى إستحضار أرواحهم الشريرة لمباركة مبادئ الفزع تحت مسمى التصالح الذي لا يثمر إلا الثأر .
■ في مدينتنا إحتشد الآلاف في منازلهم يشاهدون ضحايا الحرب المدمرة بين الأخوة الأعداء ، وكان الكثير يتصورون أن السلام في تلك المنطقة مستحيل وأن عدن غرقت في وحول الضغينة ، وبأيدي الأبناء الذين كان من المفترض أن يسيروا بها إلى شاطئ الأمان ، وليس إلى حمامات الدم والمنافي الإجبارية ، غير أن الوحدة الخالدة أتاحت لعدن ولليمنيين نسيان تجارب حكام الجنوب الوحشية .
وأتاحت حتى للمتقاعدين الذين يمارسوا شبق المناطقية ويقفزون على مربع الوحدة الجميل الحديث عبر صحف مدعومة بإعلانات وزراء الحكومة والنظام ، وأتاحت أيضاُ للقتلة السابقين الوثوب على حقائق التاريخ ، والدعوة إلى تسامح دون عدالة .
إنهم يحملون المصابيح في يد ، بينما تنكئ اليد الأخرى خاصرة الوطن ، ولهذا لا يجب أن يكونوا دعاة سلام أو محبة حتى تقضي العدالة ما تقض .
والله يتولى الصالحين
*
[email protected]