-
تصالح وتسامح في المكان الخطأ والزمان الخطأ
شهدت مدينة عدن يوم أمس أحداثاً مؤسفة تحت شعارات ((التصالح والتسامح)) بين مرتكبي التصفيات الجسدية المتبادلة التي اقترفها جناحان متصارعان في الحزب الاشتراكي اليمني يوم الثالث عشر من يناير المشؤوم، وما رافقها من جرائم ضد الإنسانية غير مسبوقة في تاريخ اليمن الحديث.
لا ريب في أنّ تلك التصفيات الدموية البشعة تمت على خلفية ثقافية سياسية اقصائية ترفض القبول بالاختلاف والمغايرة وتعارض بقسوة مختلف أشكال التعدد والتنوع في الآراء والأفكار داخل الحزب وخارجه، وهو ما أدى إلى غياب الحرية والديمقراطية والعدالة والتضييق على الحريات، ومصادرة حقوق المجتمع أفراداً وجماعات في المشاركة السياسية.
والثابت إنّ شعبنا اليمني دشن منذ تحقيق الوحدة اليمنية والانتقال إلى الديمقراطية التعددية في الثاني والعشرين من مايو 1990م، عهداً تاريخياً جديداً تأسست على تربته ثقافة سياسية جديدة تنزع إلى إغلاق ملفات الصراعات الدامية والحروب الداخلية التي سادت البلاد شمالاً وجنوباً، والانطلاق بالحياة السياسية صوب آفاق التغيير الديمقراطي والنهضة الشاملة على قاعدة المشاركة الوطنية في إدارة ومناقشة شؤون الدولة والمجتمع من خلال هيئات الدولة والمجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني، وضمان حقوق الأحزاب والقوى السياسية في التعبير عن آرائها وبرامجها ومواقفها السياسية بمختلف الوسائل الديمقراطية التي يكفلها الدستور والقوانين النافذة، بما في ذلك حق أحزاب المعارضة في نقد سياسات الحزب الحاكم الذي يصل إلى السلطة عبر صندوق الاقتراع، ومراقبة عمل أجهزة الدولة والحكومة، والمشاركة في رسم السياسات التي تتعلق بمصائر المجتمع وسيادة واستقلال ووحدة أراضي البلاد.
من المفارقات العجيبة أن تحاول قوى سياسية محسوبة على المعارضة القفز على مبادئ وقواعد وقيم الممارسة الديمقراطية من خلال المراهنة على خيار اللجوء إلى الشارع لتغطية فشلها وعجزها عن الوصول إلى السلطة عبر مباريات انتخابية تنافسية. ولما كان الإفراط في المراهنة على مفاعيل الشارع يؤدي في نهاية المطاف إلى أن يصبح الذين يلجأون إليه بشكل مطلق لاعبين في لعبة عمياء مفتوحة على أشباح ورياح ومشاريع وتداعيات غير محسوبة، فقد كان من الطبيعي أن يفقد الذين هددوا باللجوء إلى الشارع قدرتهم على قيادته وتوظيفه لخدمة أهدافهم ومآربهم الضيقة التي عجزوا عن تحقيقها عبر قواعد العملية الديمقراطية وثقافتها السياسية التي تتعارض مع رواسب الثقافة الشمولية بكل ما تنطوي عليه من ممارسات إقصائية وسياسات خاطئة ونزعات أحادية إلغائية، وأوهام باحتكار الحقيقة، وإصرار على اغتصاب السلطة بالقوة والتآمر والمغالطات.
من نافل القول إنّ الأحداث المؤسفة التي شهدتها مدينة عدن صباح يوم أمس تدثرت بغطاء شعارات ((التسامح والتصالح)) بين مرتكبي جرائم أحداث الثالث عشر من يناير، بدءًا بالمجازر الدموية البشعة التي راح ضحيتها عدد كبير من أبرز قيادات ثورة 14 أكتوبر وأبطال الاستقلال وكوادر الحزب والمؤسسات المدنية والعسكرية والأمنية، وانتهاءً بالتصفيات الجسدية الانتقامية التي راح ضحيتها أنصار الجناح الذي بادر إلى سفك الدماء وحفر المقابر الجماعية صباح يوم الثالث عشر من يناير، بالإضافة إلى آلاف الضحايا من المواطنين الأبرياء.. بيد أنّ الذين رفعوا شعار ((التصالح والتسامح في المكان الخطأ والزمان الخطأ)) تناسوا حقائق عديدة أبرزها أنّ قيام الوحدة والانتقال إلى الديمقراطية التعددية في الثاني والعشرين من مايو 1990م، كان وسيظل المنطلق الحقيقي والراسخ لإغلاق ملفات صراعات الماضي، وإطلاق مفاعيل ((التصالح والتسامح)) التي لم تأخذ مداها فقط من خلال التقاء كل الفرقاء من ضحايا الصراعات الدموية السابقة تحت مظلة الوحدة والديمقراطية في إطار الوطن الواحد، بل وفي تمكين الحزب الاشتراكي اليمني نفسه من التصالح مع تاريخه الملطخ بدماء قادته ومؤسسيه وكوادره، حيث عاد إلى صفوف الحزب القيادية والوسطى والقاعدية أعداء الأمس الذين أصبحوا بفضل الوحدة والديمقراطية رفاق درب واحد تحت راية الوحدة اليمنية الظافرة.
ولئن كانت مدينة عدن قد دفعت أثماناً باهظة من حقوق أبنائها ومواطنيها في الحياة والتنمية والتقدم بسبب دورات العنف الدموية التي جرت في شوارعها ومبانيها، وأسفرت عن وقوع السلطة رهينة تحت قبضة وهيمنة النخب المنتصرة بفعل سطوة ثقافة العنف والإلغاء والإقصاء والإدعاء باحتكار الحقيقة، وعدم القبول بالآخر ورفض كل أشكال الاختلاف والتعدد في الآراء والمواقف، فإنّ إصرار مرتكبي أحداث يوم أمس على اختيار مدينة عدن مكاناً لتحقيق ما يسمى ((التصالح والتسامح)) بين قتلة ضحايا 13 يناير 1986م المشؤوم، ينطوي على إنكار لحقيقة ((التصالح والتسامح)) القائمة منذ 22 مايو 1990م، ليس فقط بين ضحايا ورموز الأجنحة التي تصارعت طوال فترة حكم الحزب الاشتراكي اليمني للشطر الجنوبي من الوطن، بل أنّها تنطوي أيضاً على إنكار حقيقة ((التصالح والتسامح)) القائمين بين مختلف القوى السياسية التي تعرضت للإقصاء والظلم في عموم الوطن، الأمر الذي يكشف النقاب عن أنّ الهدف الحقيقي من وراء أحداث ساحة الهاشمي التي حدثت يوم أمس بمدينة عدن لا عَلاقة له بشعارات ((التصالح والتسامح)) التي تشبه شعار الطامحين إلى السلطة والملك العضوض في القرن الهجري الأول عندما رفعوا المصاحف على أسنة الرماح مطالبين بتحكيم القرآن للتغطية على مشروعهم الانقلابي الذي عارضه الخليفة الراشد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بقوله إنّهم يرفعون كلمة حق ويريدون من ورائها باطلاً.
إذا كان الهدف الحقيقي لمنظمي تجمعات وأحداث يوم أمس في عدن ((التصالح والتسامح)) في هذه المدينة، فقد كان حرياً بهم أن يعتذروا لأبناء ومواطني عدن عن جرائمهم التي ارتكبوها في حق هذه المدينة. وأن يلتزموا القيم الإنسانية ((للتصالح والتسامح)) وفي مقدمتها إعلان الحقيقة وتحديد المسؤولية عن أحداث 13 يناير 1986م بكل صراحة ووضوح وصدق، ثم الاعتذار للضحايا والحصول على العفو منهم تمهيداً ((للتصالح والتسامح)) بعيداً عن أي شكل من أشكال المناورات والمغالطات وتزييف الوعي، والوصاية على حقوق الضحايا وأبنائهم.
حقاً لقد أخطأ الذين اختاروا ((التصالح والتسامح)) شعاراً للعبتهم العمياء التي درجوا على ممارستها مؤخراً في شوارع عدن وردفان والضالع وحضرموت، لأنّهم لم ينجحوا في إخفاء تماهيهم مع النزعات الانقلابية التي ارتبطت بكل دورات العنف الدموية التي يزعمون أنّهم يغلقون ملفاتها، بينما هم من يعيدون فتحها، بل ويفتحون أمام شعبنا والأجيال القادمة أبواباً خطيرة لمشاريع مشبوهة وغير محسوبة من شأنها أن تهدد وحدة المجتمع بمستقبل مجهول ومفتوح على صراعات وتصفيات لا تاريخية سيكون وَقودها ضحايا جدد من أبناء شعبنا الذي يتطلع إلى تاريخ جديد وإنسان جديد وحياة كريمة ومتطورة في ظل يمن حر وديمقراطية موحدة.
ولعل ما يؤكد هذه الأخطار انبعاث المشاريع الانفصالية القديمة التي هزمها شعبنا بقيام ثورة 14 أكتوبر وتحقيق الاستقلال، حيث كانت تلك المشاريع المقبورة ترفض الهوية الوطنية اليمنية للجنوب، وتتنكر لنضال شعبنا وتضحياته من أجل الحرية والاستقلال والوحدة، وما يرتبط بتلك المشاريع المشبوهة التي يجري إحياؤها اليوم ـ تحت شعارات ((التصالح والتسامح)) ـ من مخاطر تأجيج العصبيات المناطقية وإشعال فتيل الاحتراب الداخلي والتحريض على إشاعة الكراهية بين أبناء الوطن الواحد، على نحو ما حدث في ردفان عندما قام بعض المشاركين في أحداث مشابهة لما حدث يوم أمس في عدن بتمزيق صور الشهيد عبدالفتاح إسماعيل الابن البار لمدينة عدن ومؤسس الحزب الاشتراكي اليمني وأحد قادة الثورة اليمنية وأبرز أبطال الاستقلال، بالإضافة إلى قيامهم برفع هتافات معادية لبعض قيادات الحزب الاشتراكي اليمني وأحزاب ((اللقاء المشترك)) بذريعة أنّ بطاقات هوياتهم الشخصية ولهجاتهم تشير إلى أنّهم من مواليد وسكان المحافظات الشمالية!!!؟
أي تصالح وتسامح، يمكن أن نصدّقه مع من يرفعون تلك الشعارات ويعتدون على رموز وطنية بحجم الشهيد عبدالفتاح إسماعيل .. وأي تصالح وتسامح يمكن أن يقبله العقل بين مدينة عدن التي شارك في تحريرها وبنائها ويعيش ويعمل فيها حالياً مواطنون من كل أنحاء اليمن، شأنها في ذلك شأن مدينة صنعاء والحديدة وتعز وغيرها من المدن اليمنية، وبين من يسعون إلى أن يجعلوا منها مجدداً ساحة جديدة لدورات عنف قادمة تستهدف حق هؤلاء المواطنين في الحياة والمواطنة الحرة والمتساوية، طالما وأنّ الذين يرفعون شعار ((التصالح والتسامح)) لا يخفون مشروعهم الحقيقي الذي لم تسلم من بداياته السوداء صورة الشهيد عبدالفتاح إسماعيل، ولا يمكن أن ينجو من التحريض على كراهيتهم معظم سكانها الذين ولدوا فيها أو جاءوا إليها من محافظات أخرى ثمّ اختاروها مكاناً للحياة والسكن والعمل والاستثمار.
إنّ عدن بحاجةٍ اليوم ـ أكثر من أي وقتٍ مضى ـ للاعتذار عما لحق بها من ركود وما أصابها من جراح وآلام طوال دورات العنف بين الذين اختاروها في سنوات سابقة حقلاً لتجاربهم الفاشلة وميداناً لحروبهم الدامية من أجل السلطة والمصالح الضيقة، ويريدون أن يجعلوا منها في قادم الأيام ساحة مفتوحة لتصفيات مناطقية وسفك دماء ضحايا جدد على أساس بطاقة الهوية واللهجة ومكان ميلاد آبائهم وأجدادهم.
إنّ عدن هي المعنية بالتصالح والتسامح مع الذين يتوجب عليهم الاعتذار لها، وإعادة الاعتبار لتاريخها الوطني الوحدوي الذي تعمد بكفاح وتضحيات ودماء أبنائها
*المحرر السياسيى لـ(14اكتوبر)