احمد الحبيشي* -
حوار عبر الأثير مع صحافي معارض (1-2)
قبل ثلاثة أسابيع كرس الزميل عبدالحكيم هلال صفحتين في جريدة «الأهالي» لإبراز دور الأخ علي سالم البيض الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي اليمني في تحقيق الوحدة اليمنية إلى جانب أخيه الرئيس علي عبدالله صالح، وتسليط الضوء على بعض جوانب سيرته الوطنية الوحدوية على نحو ينفي عنه عَلاقته بقرار الانفصال الذي أعلنه بصوته بعد ثلاثة أسابيع من اندلاع حرب صيف 1994م.
كان واضحاً حرص الزميل عبدالحكيم هلال على إيراد بعض الشهادات التي أدلى بها عدد من الشخصيات السياسية في اليمن، وبضمنها كاتب هذه السطور حيث استشهد الزميل هلال بمقاطع طويلة من مقالات مختلفة كنت قد نشرتها في صحف ((26 سبتمبر)) و((الثورة)) و((14 أكتوبر)) وكانت تلك النصوص التي استشهد بها هلال تدعم الرسالة التي أراد إيصالها إلى القراء.
لاشك في أنّ حرص الزميل هلال على الاستعانة ببعض ما كتبته في العام الماضي، وحرصه على (تقويسها) والإشارة إلى تواريخها ومصادرها، كان ينطلق من حاجته للموضوعية بهدف دعم وتسويغ الاستنتاجات التي أراد التوصل إليها. لكن الزميل هلال ابتعد فجأة عن الموضوعية التي يقتضيها أسلوب البحث والتحليل القائم على الاستقراء حين قال: ((والمعروف أنّ الحبيشي كان من كبار منظري الانفصال قبل أن يفر إلى القاهرة بعد حرب صيف 1994م)).
لم يورد هلال أية نصوص تدعم ذلك الاتهام، ناهيك عن أنّه لم يخفِ فيما كتبه على مساحة صفحتين كاملتين قناعته بأنّ قرار الانفصال كان من تداعيات حرب صيف 1994م اتخذه المكتب السياسي في عدن وأعلنه البيض من المكلا بناءً على رسالة تكليف مرفقة بالقرار، ولم يكن مشروعاً جاهز اً للحزب الاشتراكي اليمني وأمينه العام الأسبق علي سالم البيض الذي حرص هلال على إبراز رصيد كفاحه الوطني الوحدوي، الأمر الذي أوقعه في تناقض واضح. لأنّ مجرد القول بأنني كنت من أبرز (منظري الانفصال) يفترض وجود مشروع انفصالي للحزب الاشتراكي اليمني مناقض لمبادئه ومنطلقاته وأهدافه وتاريخه، وهو ما أراد الزميل هلال أن ينفيه من خلال حرصه على تقديم ما يشبه الدفاع عن السيرة الوطنية الوحدوية للأخ علي سالم البيض أمين عام الحزب الاشتراكي اليمني الأسبق مستشهداً بنصوص مطولة من كتاباتي. كما أنّ القول بوجود منظرين للانفصال يعني أنّ قرار الانفصال لم يكن من تداعيات الحرب بل إنّه مشروع متكامل يستند إلى فكر نظري يبرره ويؤصله (منظرو الانفصال) من خلال مقالات وأبحاث ودراسات وكتب، حيث تقتضي الموضوعية إيراد أسماء بعض منظري المشروع الانفصالي الذين شاركوني في التنظير لمشروع الإنفصال والإشارة الى نماذج من أعمالهم النظرية، والاستشهاد ببعض النصوص التي تسلط الضوء على مساهماتهم النظرية في التأصيل الفكري لمشروع الانفصال، وهو ما لم يفعله الزميل عبدالحكيم هلال على النقيض من استشهاده بمقاطع واسعة من مقالاتي التي دافعت فيها عن سيرة علي سالم البيض الوطنية الوحدوية، ودوره ليس فقط في تحقيق الوحدة، بل وفي السعي لإنقاذها من مخاطر الأزمات التي كادت تهددها في الفترة الانتقالية وغداة انتخابات عام 1993م، كتجسيد لحرصه على تعميق عَلاقة الشراكة الوطنية التاريخية بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني اللذين بادرا إلى تحقيق الوحدة والديمقراطية التعددية وإنهاء التشطير واستعادة الوجه الشرعي للوطن اليمني الواحد.
في السياق نفسه افترض الأخ / عبدالحكيم هلال إنني كنت قد (فررت) بعد الحرب إلى القاهرة، وهو افتراض ينسف الكثير من كتاباته ومواقفه التي يدعو فيها إلى إزالة آثار حرب صيف 1994م، ويناصر من خلالها مواقف وتوجهات العديد من قيادات الحزب الاشتراكي اليمني في إطار ((اللقاء المشترك))، وجميعهم نزحوا مع كاتب هذه السطور بعد تلك الحرب التي يطالب بإزالة آثارها السلبية، ولم ( يفروا ).. لأنّ ثمة فرقاً كبيراً بين الفرار والنزوح.. فالأول ينطوي على توصيف قانوني لحالة هروب من العدالة التي تقتضي ضرورة ملاحقة الفارين بالوسائل القانونية عبر الشرطة المحلية أو الدولية (الانتربول) لإنفاذ حكم قضائي صدر بحقهم، أو لمحاكمتهم بتهم جنائية جسيمة تستوجب مثولهم أمام العدالة وإخضاعهم لسلطة القانون.
أما النزوح فهو توصيف أكاديمي لحالة إنسانية أو سياسية تندرج ضمن تداعيات الحروب أو الكوارث الطبيعية.. ولو كانت صفة (الفرار) تنطبق على كاتب هذه السطور قبل أن يعود إلى وطنه بحسب ما جاء بقلم الزميل عبدالحكيم هلال، فإنها ستنطبق أيضاً تبعاً لذلك على كل النازحين الذين عادوا الى وطنهم دون أن يتعرضوا لأية مساءلة قانونية من قبل الأجهزة المختصة بإخضاع الفارين من العدالة لسلطة القانون ولو على سبيل الإجراءات الشكلية التي تستوجب إغلاق ملف قضاياهم الجنائية ومن بينهم الدكتور ياسين نعمان، والأستاذ جار الله عمر، والأستاذ أبوبكر باذيب والأستاذ أنيس حسن يحيى، وغيرهم من قادة وأعضاء الحزب الاشتراكي الذين عادوا إلى وطنهم بعد أن زالت عنهم أسباب النزوح. علماً بأنّ هؤلاء الذين يفترض أنهم كانوا ((فارين)) مثل كاتب هذه السطور يحظون بتعاطف وتأييد الزميل عبدالحكيم هلال وغيره من الزملاء العاملين في صحافة أحزاب (اللقاء المشترك).. اعترف بأنني لم أكن راغباً في الرد على تلك الاتهامات التي لا أجد لها أساساً موضوعياً وسنداً قاطعاً. لكن إعجابي بحرص الزميل عبدالحكيم هلال على التحلي بالموضوعية والرصانة والابتعاد عن الشتائم والتجريح في كتاباته وتناولاته السياسية المنشورة في بعض صحف المعارضة، والتي أحتفظ بحقي في الإختلاف مع مضامينها، دفعني إلى التساؤل عن أسباب عدم التزامه بالموضوعية في ذلك المقال عندما أتهمني بأنني كنت من (كبار منظري الانفصال) دون أن يدعم رأيه ولو بنص واحد من مقالاتي وكتاباتي، ودون أن يعني ذلك رغبتي في الرد على مثل هذا الاتهامات والأحكام الجاهزة التي تتعارض مع قيم وأصول النقاش والاختلاف، و تندرج في سياق المكابدات الإعلامية بامتياز.
والحال إنني تعرضت كثيراً لوابل من الاتهامات والإساءات والمكايدات التي كنت ولا زلت أحرص على تجاهلها وعدم الاهتمام بها انطلاقاً من قناعتي بأنّ النقاش الموضوعي الذي يسهم في بناء وعي معرفي نقدي هو الذي نحتاجه لبناء ثقافة سياسية جديدة تقبل الاختلاف والتنوع والمغايرة باتجاه البحث عن الحقيقة التي لا يحتكرها أحد، بينما يؤدي الانجرار وراء هذه المكايدات والإساءات إلى التعاطي معها وبالتالي الابتعاد عن الموضوعية، لأنّ رد الفعل سيأتي من صنف الفعل، ولأنّ الزميل عبدالحكيم هلال افترض إنني من (منظري الانفصال) الذين (فروا) من الوطن بعد الحرب، على نحوٍ يتعارض مع حرصه على الالتزام بالموضوعية سواء في ذلك المقال الذي أشرت إليه آنفاً، أو في غيره من المقالات التي لا أخفي إعجابي بأسلوب كاتبها رغم اختلافي معها، فقد حرصت على البحث عن رقم هاتفه والاتصال به لغرض العتاب لا غير.. لكنني والحق أقول فوجئت بأنّ ذلك الاتصال تحول إلى حوارٍ شائق بين صحافي محسوب على صحافة الحكومة وآخر معارض محسوب على صحافة المعارضة!!.. ولعل ما شجعني على الدخول في حوارٍ مفتوح مع الزميل عبدالحكيم هلال اعترافه بأنه وقع في خطأ ابتعد به عن الموضوعية، واعتذاره عن ذلك الخطأ، مع حرصه على تبرير وقوعه في ذلك الخطأ بأنّه كان نتيجة اعتماده على ( لقطة ) نشرتها صحيفة ((الميثاق)) لسان حال المؤتمر الشعبي العام عام 1998م أثناء وجودي في القاهرة، وصفتني فيها بأنني كنت من (كبار منظري الانفصال ) قبل أن ( أفر إلى القاهرة ) بحسب ما جاء في ( اللقطة ) التي يقول الزميل هلال إنّه اعتمد عليها، وهي ( لقطة ) لا تصلح لأن تكون مرجعاً معتمداً، بدليل أنّ الزميل هلال لم يذكرها، ولم يورد تاريخها كمرجع على نحو ما فعله مع نصوص أخرى أوردها في مقالته المنشورة بصحيفة (الأهالي) وبضمنها نصوص من بعض مقالاتي التي نشرتها في عددٍ من الصحف اليمنية، ناهيك عن أنّ تلك (اللقطة) كانت بحسب قناعتي تعبر عن إشتباك لاوعي كاتبها مع اللحظات السياسية المأزومة التي تأتي مخرجاتها في شكل حملات صحفية مرحلية أو موسمية، تتحول الصحف بفعل وقوعها في منطقة اللاوعي المأزوم، الى لعبة عمياء يتسيدها محترفو الشتم والقدح والردح والتجريح والتحريض والدعاية والمكايدة، وما يترتب على ذلك من إضعاف لقدرة الكلمة على المساهمة في تأسيس ثقافة معرفية تخدم منهج البحث عن الحقيقة، بعيداً عن أي شكلٍ من أشكال الوصاية على العقل والإعتقاد بامتلاك وإحتكار الحقيقة!!
والثابت إنّ مفاعيل العالم الواقعي الحي تتجاوز دائماً قشور اللحظات المأزومة بعد انفراجها، لأنّ الأزمات مؤقتة والمتغيرات دائمة ومستمرة. وفي أزمنة التحولات يفقد الخطاب التحريضي المأزوم فاعليته ومبررات وجوده، ويخفت تبعاً لذلك بريق النافخين في البورزانات وحاملي المباخر والمشتغلين بتجارة الفيد والحالمين بأوهام الفتوحات وغنائمها، وغيرهم من الذين يكثر الطلب عليهم في أسواق الأزمات والحروب، ثمّ يتم الاستغناء عنهم بعد أن تبور تجارتهم.
والحال إنني لم أكسب فقط من الاتصال الذي أجريته مع الزميل عبدالحكيم هلال بهدف العتاب صديقاً بالمعنى الإنساني لعلاقات الصداقة التي تنشأ وتتطور بين الناس بصرف النظر عن اختلافهم في الآراء والمواقف والأفكار والتوجهات، لكنني كسبت أيضا ًمن خلال ذلك اللقاء حواراً التقينا في رحابه معاً على قاعدة الإيمان المتبادل بضرورة الاختلاف والتعدد والتنوع والحرص المشترك على إعلاء دور العقل النقدي التحليلي في مناقشة القضايا التي اختلفنا، ولازلنا نختلف فيها، والاقتناع المتبادل بضرورة تحويل القضايا التي اتفقنا بشأنها، إلى قواسم مشتركة تسهم في تعزيز أواصر الشراكة الوطنية والمهنية بين الصحفيين من مختلف الاتجاهات ،على قاعدة التعدد والتنوع والاختلاف في إطار الوحدة، بما هي نتاج موضوعي لمجموع أعمالنا، الأمر الذي يفترض أن تكون أعمالنا انعكاساً للنشاط الإنساني الواعي والهادف للمجتمع أفراداً وجماعات.. فإذا كان نشاطنا الإنساني غير واعٍ وغير هادف، وحبيس اللحظة العابرة خصوصاً عندما تكون مأزومة ، يكون مجموع أعمالنا عفوياً، ويتسبب في إضعاف الوحدة وتجفيف منابع التنوع وإفقار الحياة وتجريدها من عناصر النماء.. وبقدر حرصنا جميعاً على تنمية القيم الإنسانية المشتركة التي تؤطر نشاطنا كأفراد وجماعات، بقدر نجاحنا في أن يكون نشاطنا واعياً وهادفاً وقادراً على تعظيم مفاعيل التنوع في إطار الوحدة.
يبقى القول: إنّ حواري مع الزميل عبدالحكيم هلال عبر الهاتف لم يكن مرة واحدة.. بل كان عدة مرات.. وفي كل مرة كان اتصالنا طويلاً.. وبلغة الناطقين الرسميين بأسماء الأحزاب التقى صحافي محسوب على الحكومة وآخر محسوب على المعارضة على طاولة حوار عدة مرات ناقشا فيها قضايا عديدة وشائكة ذات صلة بالسياسة، الاقتصاد، العَلاقات الدولية، مصاعب النمو، إشكاليات الديمقراطية، الإصلاح السياسي والاقتصادي، الفساد، حرب صعدة ، سبل معالجة آثار حرب 1994، تداعيات اللجوء الى الشارع، مخاطر انبعاث مشروع الجنوب العربي، التداول السلمي للسلطة، المرأة، الإسلام السياسي، حرية الصحافة، الدين والدولة والمجتمع.
وبعد كل حوار كنا نتفق ونختلف .. لكن النتائج كانت تجعلنا أكثر قرباً من بعض.. فالحوار وحده هو الذي يجعل نشاط الإنسان واعياً وهادفاً بخلاف نشاط الحيوانات والكائنات الحية التي حرمها الله من نعمة العقل لحكمة من لدنه عز وجل .. وقد كان عبدالحكيم هلال رائعاً عندما أعرب عن سعادته بتغيير الصورة التي كان يحملها عني قبل أن نتحاور معاً بقوله : ( الناس وحوش حتى تتعارف ) .
يقيناً أنّ حواري مع هلال كان مشهداً مصغراً لما يجب أن يكون الحال عليه بين كافة أطراف العملية السياسية.. وقد أصبحنا بفضل هذا الحوار صديقين حميمين.. وهذا ما سأتناوله في المقال القادم.
*عن 26 سبتمبر