الشرق الاوسط - راغدة بهنام - دموع السياسيين بابتسامة عريضة وعينين ضاحكتين، يمشي بقامته الطويلة محاطاً بمرافقيه مرتديا بزة سوداء، يتسامر مع صديق الى يمينه يضحك هو أيضا. يلتفت شمالا ويمينا وكأنه يبحث عن شيء معين والابتسامة لا تفارق شفتيه. لحظات وتلتقط عيناه ما كان يبحث عنه: كاميرا تابعة لإحدى قنوات التلفزة موجهة نحوه. فجأة تتغير أماراته من الفرح الى العبوس. يقطب جبينه ويمحو الابتسامة ويطأطئ رأسه علامة للحزن. ورفيقه لا يزال يتحدث ويضحك. ثم يرفع يده الى عينه ويمسح... دمعة! ورفيقه لا يزال يتحدث ويضحك.. هو بيل كلينتون.
ومشهد اصطناعه البكاء التقط حين كان رئيسا للولايات المتحدة عام 1998، خلال مشاركته في جنازة رون براون، وزير التجارة في عهده الذي قتل بعد أن سقطت طائرته في البوسنة.
لم تكن المرة الاولى التي يبكي أو يصطنع فيها كلينتون البكاء. دموع كثيرة استهلكها خلال فترة رئاسته. بعضها بدا طبيعيا وبعضها كان اصطناعها واضحا لدرجة مضحكة. فهو اعتاد البكاء كطريقة تواصل مع مناصريه. وإن مناصريه أحبوه لذلك، خصوصا النساء. والمرة الاخيرة التي بكى فيها كلينتون علنا، وطبعا لن تكون آخر مرة، ليست أبعد من أسبوعين. فبعد يوم واحد على دموع زوجته هيلاري التي كادت تذرف، وعند فوزها في الانتخابات التمهيدية في ولاية نيوهامبشير يوم الثلاثاء 8 يناير (كانون الثاني) الحالي، بكى كلينتون مجددا! فبعد صدور النتائج وإلقاء زوجته كلمة شكر للناخبين راح يصافح النساء المتجمعات للاحتفال بفوز هيلاري. وبدا في شريط مصور التقطته احدى النساء المشاركات في الحفل، وهو يعصر عينيه ليسقط دمعة، وهو يتحدث عن فرحه بفوز زوجته وفخره بها. اقترب نحو الكاميرا بعد أن أصبحت دمعة التأثر جاهزة.. ومد يده ليمسحها! قصة دموع السياسيين الاميركيين ليست جديدة. فكثيرون بكوا علنا قبل آل كلينتون. ولكن الجديد هو ان الدموع أصبح تلعب دورا ايجابيا لصالح السياسي بدلا من أن تحطمه كما كان يحصل في السابق.
ولعلّ أشهر مثال على سياسي أميركي حطمته دموعه كان ادموند ماسكي، المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية عام 1972 والذي كان في طليعة المرشحين، حتى جاء يوم بكى فيه! حينها انقلبت الامور واصبح في المؤخرة وخرج من السباق باكراً.
فماسكي الذي كان يعرف بقوته وصرامته، أسقط هذه الهالة عنه عندما بكى امام الصحافيين وهو يدافع عن زوجته التي قالت الصحافة انها كانت ثملة في احدى حملاته الانتخابية، وإنها كانت تطلق كلمات نابية أمام الناخبين. إلا ان استياء ماسكي لم يكن فقط بسبب السؤال عن زوجته، بل كان تراكماً لقضية زوجته وإشاعة أخرى كانت أطلقت عنه وتقول إنه تهكم على الاميركيين الكنديين. وكانت صحيفة قد نشرت رسالة مزورة بعث بها مجهول اليها، تقول ان ماسكي يهزأ من الاميركيين الكنديين وتتحدث عن أن لديه أحكاما مسبقة عنهم، وهو ما كان سيضر بجمع اصوات هذه الشريحة من الناخبين. وتم الكشف فيما بعد ومن خلال فضيحة ووترغايت، أن الرسالة ملفقة، وانها كانت ضمن حملات نظمها الرئيس الاميركي الجمهوري ريتشارد نيكسون ضد المرشحين الديمقراطيين. فوقف ماسكي في الساحة الخارجية لمكاتب الجريدة التي نشرت الخبر، وسط عاصفة ثلجية، يتحدث رافضا الاتهامات.. الى ان بكى. فأصبح يعرف بالرجل الذي ألقى «الخطاب الباكي». وعلى الرغم من أنه أصدر بيانا لاحقا نفى فيه أن يكون قد بكى تأثرا، وقال ان الدموع تسببت فيها العاصفة الثلجية، الا ان أسهمه كانت قد انخفضت الى نقطة اللا صعود.
ماسكي لم يكن الوحيد الذي ذبحته دموعه. فهناك مرشحة ديمقراطية أخرى، هي باتريسيا شرودر، المعروفة بـ بات، تعرضت لنقد وهزء كبيرين عندما بكت وهي تعلن انسحابها من خوض الرئاسة الاميركية عام 1988. بات لم تكن سيناتورا يوما، بل عضو في مجلس الكونغرس. وكثير من النقاد ربطوا عدم تقدم شرودر في مهنتها بعد ذلك الى بكائها العلني الذي قالوا إنه أظهرها امرأة ضعيفة غير قادرة على تحمل مسؤوليات كبيرة.
ولكن متى أصبحت الدموع عامل قوة بدل أن تكون عامل ضعف في السياسة الاميركية؟ ومتى أصبح تواصل السياسيين مع ناخبيهم شعاره «البكاء» بعد أن صار اشارة الى القضاء على مستقبل السياسي؟
هل كانت دموع الرئيس الاميركي ريتشارد نيكسون التي تلألأت في عينيه عام 1977 أثناء مقابلة كان يجريها معه الصحافي البريطاني ديفيد فروست، بداية تحول قصة الدموع الى أمر ايجابي؟ ربما. فالاميركيون حينها كانوا بحاجة الى رؤية الجانب الانساني لرئيس خدعهم وورطهم في فضيحة انتخابية قذرة. كانوا بحاجة لسماع اعتذاره وربما رؤية دموعه. فروست استطاع ان يعطيهم ذلك بإلحاحه على الرئيس العنيد وإقناعه بالاعتذار. فكان الاعتذار مصحوباً بصورة انسانية ودموع تبرق في عيني نيكسون أبت أن تنهمر على خديه. اليوم لم يعد البكاء لدى السياسيين الاميركيين عيباً. كلهم يبكون. جورج بوش (الأب) وجورج بوش (الابن) وبيل كلينتون وأخيرا هيلاري كلينتون.
جورج بوش (الأب) بكى أكثر من مرة. ولكنه بكى بعد أن خرج من البيت الابيض. العام الماضي، في الخامس من ديسمبر (كانون الاول)، انهمرت دموعه بغزارة وتوقف عن الكلام وبكى كالطفل أمام مئات الحشود خلال إلقائه كلمة في تالاهاسي. بكى عندما ذكر ابنه جيب، وهو يتحدث عن خسارته الانتخابات عام 1994. وبكى جورج (الأب) بغزارة في مناسبة أخرى، وهو يتحدث الى صحافي وهو يشاهد صورة الجنود الاميركيين في العراق على شاشة كبيرة.
ابنه جورج ذرف دموعاً أيضا منذ بضعة أيام أمام نصب ياد فاشيم لضحايا المحرقة اليهودية في القدس المحتلة. وقف امام النصب معتمرا قلنسوة، مطرقا رأسه علامة للحزن. وضع باقة زهور حملها عنصران من مشاة البحرية الأميركية تكريما لذكرى ضحايا المحرقة من دون ان يتمكن من كبت دموعه. وإذا كانت الدموع لدى السياسيين الاميركيين، وخاصة لدى آل كلينتون، على طريقها كي تصبح موضة، فان السياسيين في باقي البلدان لم يعتمدوا البكاء بعد كأسلوب تخاطب وتقارب من المواطن إلا في حالات متفرقة. ومن أكثر من اشتهر ببكائه المتكرر من السياسيين خارج الولايات المتحدة، كان رئيس الوزراء الاسترالي بوب هاوك الذي فاز برئاسة الوزراء عام 1983، والذي عرف بعبارته الشهيرة «انا من البشر». واحتار الاستراليون عندما بكى رئيس وزرائهم لدى طرح سؤال بسيط عليه يتعلق بالمخدرات. واعترف فيما بعد أنه تأثر لان ابنته كانت مدمنة المخدرات. ومرة أخرى، أجهش هاوك في بكاء عميق خلال مقابلة تلفزيونية لدى اعترافه بخيانته لزوجته التي تطلق منها لاحقا، وتزوج امرأة خرى. واعترف لاحقا أيضا بأنه ذرف دمعة أو دمعتين عندما شاهد جمال زوجته وهي ترتدي فستان العرس الابيض.
وعلى الرغم من نواحه المستمر، يبدو أن الاستراليين أحبوا رئيس وزرائهم وأحبوا دموعه. ذلك ان هاوك الذي ينتمي الى حزب العمال الاسترالي، بقي رئيسا للوزراء لأربع ولايات متتالية ليصبح أول رئيس وزراء من حزب العمال يحكم لأطول فترة.
اما في بريطانيا، فتاريخ البكاء يعود الى زمن بعيد ليس أقربه عام 1828 عندما بكى الفيكونت غوديريك بعد أن قدم استقالته من رئاسة الحكومة عام 1828 بعد أربعة أشهر على تسلمه المنصب. بكى لدرجة أنه اضطر الى استعانة محرمة الملك جورج الرابع الذي كان بلغه انه عليه الاستقالة! حتى أن الفيكونت يوصف في سيرته الرسمية على الموقع الالكتروني الرسمي لداونينغ ستريت انه كان «نوّاحا» وأنه كانت لديه مشكلة في السيطرة على مشاعره. حتى امرأة بريطانيا «الحديدية» بكت مرتين. رئيسة الوزراء السابقة مارغاريت ثاتشر التي يعبر لقبها عنها، لم تستطع كبت دموعها، وهي تتحدث الى الاعلام عن ضياع ابنها مارك في صحراء دكار، وهو يشارك في سباق للسيارات. بقي مارك ضائعا لمدة أسبوع، ارسلت خلاله ثاتشر غارات من القوات المسلحة البريطانية للبحث عنه. وبكت مرة أخرى، وهي تغادر داونينغ ستريت.. إلا ان صورة «المرأة الحديدية» لم تتأثر بدموعها وبقيت «المرأة الحديدية» في الذاكرة البريطانية.
غوردن براون، رئيس وزراء بريطانيا الحالي، هو أيضا بكى لأسباب عائلية، قبل أن يصبح رئيساً للوزراء عندما كان لا يزال وزيرا للخزينة البريطانية. بكى عندما كان يتحدث في مقابلة تلفزيونية في سبتمبر (أيلول) عام 2006 عن وفاة ابنته بعد عشرة أيام من ولادتها بسبب نزف في الرأس عام 2002، وذلك عندما كان يعلن أن ابنه المولود الجديد مصاب بمرض التليف الكيسي، وهو مرض يعرض حياته للخطر.
وان بكاء السياسيين يلاقي رواجا أكثر في الغرب، إلا انه ليس غائبا كليا عند العرب. فبعض الرؤساء العرب لم يخجلوا من ابراز دموعهم، ولعل أشهرهم كان رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات الذي كان يصفه المقربون منه بأنه «بكَّاء». ويروي أحد المقربين من أبي عمار، أنه لم يكن يستطيع الإفراج عن همومه إلا بالبكاء، ولكنه كان يحاول الانفراد بنفسه عندما يريد البكاء حتى لا يراه أحد. ويروي أنه كان غالبا ما يشاهده يدخل الى غرفة العمليات في برج أبي حيدر في لبنان ويمكث فيها يبكي لساعة كاملة. وقال انه صادف أن فتح الباب عليه مرة فوجده جالسا يجهش بالبكاء. ويضيف أنه لما رآه تمالك نفسه وطلب اليه اغلاق باب الغرفة والانضمام اليه، ثم بدآ كلاهما بالبكاء.. الدموع الاخيرة التي شاهدناها لعرفات كانت دموع الوداع. ذرَفَهَا وهو يلوح بيده من مروحية عسكرية أردنية أقلته من مقر الرئاسة الفلسطينية حيث بقيَّ محاصرا لثلاث سنوات، الى باريس للمعالجة.. ولم يعد منها إلا في كفن. أمر واحد مؤكد أن الفلسطينيين عشقوا أبا عمار بدموعه، والعالم لم يتوقف عن أخذه على محمل الجد حتى مع بكائه.
ولم يخجل رئيس وزراء لبنان فؤاد السنيورة أيضا من البكاء أمام الرؤساء العرب والصحافيين والعالم. تهدج صوته، وهو يلقي كلمة في القمة العربية الطارئة التي انعقدت في بيروت على بعد بضعة كيلومترات من حيث اندلعت حرب عجز عن إطفائها. بعد اندلاع حرب تموز عام 2006 بين حزب الله واسرائيل، وقف السنيورة يشاهد بلاده تحترق في حرب لم يكن له لا القرار ولا المشورة فيها. لم يستطع تحمل ألم تدمير ما بنيَّ طوال سنين، فانفجر باكيا وهو يصرخ «لبنان باق باق باق»، فأبكى معه الكثيرين.. وبعد دموعه هذه، فإن مناصريه أحبوه أكثر. شعروا بتواصل معه وتأكدوا من أنه يشعر مثلهم بالغضب والألم. والمجتمع الدولي كذلك. معارضوه طبعا انتقدوه وسخروا من دموعه إلا ان الانتقادات لم تزد مناصريه الا تصميما على التمسك به والدفاع عنه. لعبة الدموع لعبة صعبة وغامضة ومعقدة. فهيلاري التي بكت في نيوهامبشير، ربما بناء على نصيحة زوجها الخبير في البكاء، ربحت أصواتا جديدة لم تكن الى جانبها. إلا انها لم تستطع أن تربح صوت المرأة التي أبكتها، ماريان يونغ، وهي مصورة تبلغ من العمر 64 عاماً. فماريان التي سألتها «كيف تستطيعين فعل ذلك»، وحصلت على اجابة عاطفية مدموجة بدموع، لم تقتنع بما فيه الكفاية فصوتت لباراك أوباما، خصم هيلاري. قالت إن صورة المرأة القاسية التي تطبع هيلاري لم تغب سوى لعشر ثوان، كانت فيها هيلاري امرأة قريبة من القلب، ثم عادت لتبرز صورة المرأة القاسية بعدما أشاحت وجهها لتأخذ السؤال التالي. لا شك ان الدموع نجحت مع بيل كلينتون. فهل تقرر زوجته نسخ نهجه واعتماد البكاء لتحقيق هدفها؟ إن فعلت فهي طريقة غير مضمونة وقد تنقلب عليها.. وبقسوة.
|