أ.د. سيف العسلي* -
العدل والحزم .. الطريق إلى مستقبل أفضل (2)!
في مقال الأسبوع الماضي حاولت أن ألفت انتباه القارئ الكريم الى أهمية العدل في تحقيق النهوض اليمني، وتنبع أهمية ذلك من الخلط الذي قد يحدث بين العدل والظلم عند مناقشة العديد من القضايا المتعلقة بعملية النهوض، ولتجنب الوقوع في هذا الخلط قدر الإمكان فقد حاولت أن أناقش بعض القواعد الهامة في هذا الأمر، ولتوضيح ذلك تم ضرب بعض الأمثلة على هذا الخلط.
ولعل من أهم هذه القواعد أن المساواة والتفاوت ليستا في حد ذاتهما معياراً للعدل او الظلم فالتفاوت قد يكون عدلاً في أمور معينة وقد يكون ظلماً في أمور أخرى، قد يكون معياراً في تلك الأمور التي يتفاوت الناس فيها طبيعياً ويكون معياراً للظلم في تلك الأمور التي يتساوى فيها الناس طبيعياً والمساواة قد تكون معياراً للعدل في تلك الامور التي يتساوى فيها الناس بشكل طبيعي، وتكون معياراً للظلم في تلك الامورالتي يتفاوت فيها الناس طبيعياً.
إن هذه القاعدة هامة وأساسية لأنها تقوم على ظواهر طبيعية وهي الأختلاف والتشابه الطبيعيين بين البشر، فالسماح في التفاوت نتيجة لاختلاف المواهب هو عدل وفرض التساوي في هذه الحالة ظلم، وفي حين أن السماح في التفاوت في الأمور التي يتشابه فيها الناس ظلم والحرص على التساوي عدل.
إنني اعتقد أن الإقرار بهذه القواعد ضروري لتحقيق النهوض اليمني، فالعدل في هذه الحالة لا يصبح خاضعاً للانطباعات الذاتية وإنما يتحدد وفقاً لمعايير موضوعية يمكن للجميع ملاحظتها والتأكد من وجودها وإذا ما تحقق ذلك فإن السير في طريق تحقيق العدل وتجنب منعطفات الظلم التي قد تتفرع عن هذا الطريق يكون سهلاً فإذا ما تم الاختلاف حول أمر ما من أمور حياتنا فإنه يكون بإمكاننا الرجوع الى قواعد العدل هذه لتحديد أي من الأراء اقرب الى العدل وبالتالي التسليم به.
لاشك أن السير في طريق العدل يبدأ في التسليم بعدالة هذه القواعد كمرجعية له، فبدون ذلك فإن التعامل مع العديد من الأمور التي تتداخل فيها جوانب العدل مع جوانب الظلم بحسب الزاوية التي ينظر إليها منها يكون اقرب الى المستحيل فعلى سبيل المثال فقد يكون من الصعب الاتفاق حول عدلية فرض ضريبة ما قد لا يكون ذلك عدلاً إذا ما نظر له من وجهة دافعيها، فغالبية هؤلاء قد ينظرون الى ذلك على أنه ظلم وقد يكون ذلك عدلاً إذا ما نظر إليه من وجهة نظر المستفيدين منها لكن التقييم الموضوعي لذلك وفقاً لقواعد العدل يوضح انه يكون عدلاً في ظروف معينة وظلماً في ظروف أخرى فهو عدل إذا كان مقدار الضريبة معقولاً ومقدوراً عليه ولا يشكل عبئاً كبيراً على دافعها وتم إنفاقها على من يستحقها بحيث يترتب على ذلك فوائد كبيرة لمن انفقت عليهم إنه في هذه الحالة قد اتفق مع قواعد العدل، ذلك أن الانسان فطر على التعاطف مع أخيه الانسان ولكن في حدود معينة وليس بشكل مطلق، وهو ظالم إذا كان عكس ذلك.
إن السير في طريق العدل وتجنب الظلم يتطلب مناقشة المواضيع الهامة وعلى نطاق واسع حتى تتضح مقادير العدل والظلم في كل منهما.
صحيح أن المواضيع التي يتداخل فيها العدل والظلم كثيرة لدرجة تقترب من اللانهائية لكن ينبغي أن يتم التركيز على تلك الأكثر أهمية، وفي هذا الإطار فإنه ينبغي أن نلاحظ أن الموضوعات والقضايا التي يتدخل فيها ما يمكن أن نطلق عليه مكونات العدل مع ما يمكن أن نطلق عليها مكونات الظلم تمثل ما لا يقل عن 90٪ من الأمور والقضايا ذات الأهمية وتكمن أهمية العدل في تحقيق النهوض من هذه الملاحظة، فنحن مضطرون للعمل معاً وللتغلب على خلافاتنا فإننا مضطرون للإتفاق ولا يمكن الإتفاق في حال تحكيم الهوى.
إن ذلك يعني أن طريق العدل طويل وشاق لكن لا بديل عن ذلك إذا ما أردنا تحقيق النهوض ولذلك فإنه لا بد من تلمس بدايته الصحيحة مما يمكنا من البدء في السير في هذا الطريق بسرعة أفضل وبأخطاء أقل، إن هذه البداية هي مناقشة وإقرار القواعد العامة للعدل، إن ذلك يساعدنا على حصر مدى النقاش وعلى الوصول الى إتفاق حول العديد من الموضوعات وذلك للإتفاق على مرجعية مقبولة قبل البدء في النقاش، ولا شك أن تحقيق ذلك يؤدي الى حصر النقاش في ا لقضايا الهامة، وذلك بخلاف ما إذا حدث النقاش بدون الإتفاق مسبقاً على مرجعية مقبولة وذلك فإن الاتفاق على قواعد العدل سيساعدنا على التعامل مع أية عقبات قد تعترضنا إبان النقاش ذاته او فيما إذا أظهرت الوقائع أن النقاش السابق لم يكن كافياً وأن ما تم الاتفاق عليه لم يؤدي الى تحقيق القدر المطلوب من العدل.
ولا شك أن نجاح أية أمة في تحقيق نهوضها لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أصبحت أمة متضامنة ومتكافلة ومتحدة، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا نجحت في الاتفاق على مكونات العدل او الظلم في العديد من الموضوعات الاساسية التي تهمها لا شك أن نجاحها في ذلك يجعلها أكثر تميزاً من الأمم الأخرى التي لا يتوافر لهامثل هذا الاتفاق أو انها لم تستوعب بعد النتائج الهامة لمثل هذاالاتفاق تكون هذه الأمة اكثر توحداً لأنها تتصرف بطريقة متشابة في علاقاتها مع بعضها البعض، ولا شك أن ذلك يخلق وضوحاً كبيراً في الحقوق والواجبات بين الافراد المكونين لهذه الأمة.
وفي هذه الحالة فإن اتجاه الأمة يكون موحداً والحوافز تكون واضحة مما يجعل كل فرد من أفراد الأمة أو على الأقل أغلبية أفرادها ينصرفون الى العمل المنتج بدلاً من الانشغال في النقاشات العقيمة او الانتظار للمجهول واللذين يمثلان إهدار للطاقات وعقبات أمام النهوض.
ولزيادة فعالية النقاش والاتفاقات التي تتولد عنه فإنه لا بد من توثيق ذلك بكل الطرق الممكنة فدساتير العديد من الدول في العصر الحديث تمثل أحد أهم طرق التوثيق لقواعد العامة التي تحدد تلك التصرفات وتلك العلاقات التي تتم بين أفراد المجتمع بعضهم البعض من جانب وبينهم وبين حكامهم من جانب آخر لكن من الملاحظ أن العديد من المجتمعات لا يعطون هذه الدساتير الأهمية المطلوبة فيتم تضمينها بعض القواعد التي تتناقض مع العدالة، وربما يعود ذلك الى قصور النقاش الضروري لتجنب الخلط الواضح بين العدل والظلم وخصوصاً في القضايا الكلية فبعض هذه الدساتير قد تم تبنيها من قبل نخب أنانية سعت فقط لتبرير سيطرتها على مجتمعاتها او أنها كانت انعكاسا الى إعجاب هذه النخب ببعض الأيديولوجيا التي ثبت فشلها.
أما الطريقة الثانية والهامة فهي القوانين والتي تلعب دورا أساسيا في تفصيل القواعد العامة التي تضمنها الدستور. فالقوانين أكثر تفصيلا وتوضيحا للقواعد العامة التي تتضمنها الدساتير. ومن الواضح أن القوانين على الرغم من ذلك تظل عامة نسبيا نظرا لأن عملية سنها وتعديلها عملية صعبة ومكلفة. لذلك يتم في الغالب تدعيم هذه القوانين بلوائح تفصيلية وخصوصا تلك التي تتعلق بتطبيق العدالة في ظروف معينة تستوجب متطلبات خاصة.
وفي الحياة العملية لا يكفي ذلك بل لا بد من ترجمة اللوائح الى تعليمات تفصيلية كافية تحدد قواعد التعامل والصلاحيات في تطبيق هذه القواعد والعلاقة بين المستويات الإدارية المختلفة بحيث يتم ضمان سرعة الإنجاز وكفاءة التنفيذ..فتصادمها معناه يجب أن تنسجم هذه المستويات المتعددة من القواعد وطرق تنفيذها مع قواعد العدل. لأن تصادمها مع بعضها البعض قد يترتب عليه سوء النتائج المترتبة عليها. وذلك يحتم أن تكون قواعد العدل العامة في غاية الوضوح. كما أنه كفيل بحدوث تفسير عادل للقوانين واللوائح والتعليمات.
ولتدعيم هذه الدساتير واللوائح فإنه يجب أن يترافق مع ذلك تعميق لمفهوم العدل في صلب العلمية التعليمية. باعتبار إن ذلك ضروري لإيجاد شرح كاف لقواعد العدل وتوضيح لأهميتها وتبين لمصادرها وكيفية تحقيقها. وهو ما يتطلب تقييم تاريخي وفقا لقواعد العدل.
إن ثقافة المجتمع ينبغي أن تعمل على تشجيع الممارسات التي تقوم على العدل وإدانة الممارسات الضارة التي تقوم على الظلم. وبالإضافة الى ذلك فإن تدعيم ذلك من خلال التركيز على قيم العدل في وسائل الإعلام وفي الكتابات وفي الأمثال والنكت الشعبية.
في هذه الحالة فإن الأمة التي تسير في طريق العدل هذا ستوفر على نفسها المناقشات العقيمة وتوجه جهدها الى الموضوعات الجديدة والموضوعات الأكثر أهمية. وذلك ما يؤدي الى حدوث تراكم في مفاهيم العدل وفي تطبيقاته. ولا شك أن ذلك يمثل جانبا من جوانب الانجازات الحضارية. فالأمم الأخرى سوف تستفيد من تجربة هذه الأمة مما يجعلها شريكة في الحضارة الإنسانية. فما يميز الإنسان هو أنه يقلد أسلافه ويقلد أقرانه في العديد من الموضوعات التي ثبت نجاحها.
وحتى يكون للعدل معنىً فإنه يجب أن يتم الالتزام بقواعده طوعا فإن لم يتم ذلك فكرها. فبدون ذلك فإنه لا يكون لهذه القواعد اي معنى. ولعل ما يميز الإنسان عن الحيوان هو الحسد الذي هو رفض الإذعان للحق إذا كان ذلك سيؤدي الى حصول الغير على منافع مادية ومعنوية. ويترتب على ذلك أن يرى الإنسان نفسه هو الأحق بكل تكريم أما غيره فلا يستحق اي شيء من ذلك حتى لو كان يتميز بخصائص طبيعية او مكتسبة.
ونتيجة لذلك فإن بعض الناس الذين تضخم داء الحسد في نفوسهم ولم تستطع القيم الدينية والإنسانية السيطرة عليها لا يذعنون لقواعد العدل طوعا. ولذا فإن التخفيف من الآثار الضارة لهذا الداء يتطلب معاقبة حامله بإذاقته من نفس الكأس الذي يريد أن يذيقه الآخرين ظلما.
والحزم يعني هنا تحديد عقوبات ضد كل من لايحترم قواعد العدل او النتائج المترتبة عليها طوعا. فعلى سبيل المثال ازا ما رفض اي شخص التفاوت في الدخل الناشئ من التفاوت في المواهب وعمل على السطو على بعض هذا الدخل سرا او علانية فإنه لا بد أن يردع بواسطة العقوبات الفعالة التي تجعل غيره يتجنب مثل هذه التصرفات.
كما يعني الحزم أن كل العقوبات المنبثقة عن قواعد العدل التي تم الاتفاق عليها يجب أن تطبق على كل من يستحقها مهما كان مركزه او تبريره لخرقه هذا. فالتطبيق الصارم للعقوبات بشكل دقيق يعطي للعدالة معنى. لأنه في ظل التهاون سيتضاعف الظلم اي أنه سيكون ظلما مركبا. اي ظلم لعدم تطبيق العدالة وظلم لتطبيق عدالة انتقائية.. إن ما يثير مشكلة الالتزام او ما أطلقت عليه بالصرامة هو أن العدل سلعة عامة وبالتالي فإن تركه للأفراد سيعمل على اختفائه. وذلك مايعني أن تطبيق العدل يخضع للقاعدة الاقتصادية المعروفة بالركوب المجاني. أي أنه إذا ما كانت مصلحة اي شخص متطابقة مع مصلحة الآخرين فإن كل شخص يركن على الآخرين في توفيرها له وللآخرين حتى لا يتحمل تكاليف توفيرها وحيدا. فإذا تصرف الجميع على هذا النحو فإن مصالحهم جميعا سوف تختفي لعدم وجود جهة مسؤولة عن توفيرها وحمايتها. فالعدل لا يمكن منع الآخرين منه. فإما أن يكون عدل للجميع او ظلم للجميع سواء أولئك المستعدين لدفع تكاليفه او غير المستعدين لذلك..
إن ترك العدل للأفراد سيترتب عليه اختفاؤه لأن لا أحد يتطوع لحماية مصالح الجميع دون تقديم حافز معقول له. ومن هنا نجد أن تحقيق العدل يتطلب تضحية. ليس سلعة مجانية مثل الهواء او الشمس ولكنه مثل المأكل والملبس. فإذا لم تكن هناك حوافز معينة لمن يتولى حماية العدل فإن المستفيدين منه سيتهربون من تقديم هذه التضحية على أساس أن هناك مستفيدين آخرين سوف يحصلون عليه بدون ثمن وبدون تحمل لأية تضحية..أما الظلم فإنه سلعة خاصة.
فمن يدفع تكاليفه يستفيد منه ومن لا يدفع ذلك لا يحصل على شيء. كما أن الظلم يمكن أن يمارسه فرد او مجموعة من الأفراد (العصابات). وإذا كان الأمر على هذا النحو فإن الخصائص الاقتصادية للظلم تبدو مختلفة عن الخصائص الاقتصادية للعدل. فالظلم فيه مصلحة للظالم ومفسدة للمظلوم. وفي حالات قليلة جدا يستطيع المظلوم مواجهة الظالم او الظالمين. أما في أغلب الحالات فإن المظلوم يواجه عددا كبيرا من الظالمين منفردا. ومن ثم فإن الظالم يسعى بكل الطرق للحفاظ على مصلحته غير المشروعة. صحيح أن المظلوم قد يحاول أن يدفع عن نفسه الظلم لكنه في حالات كثيرة يكون هو الطرف الضعيف الذي لا يستطيع فعل ذلك. ويرجع ذلك الى أن المظلومين مشتتين وبالتالي فهم ضعفاء أما الظالمون فعادة ما يكونون منظمين وبالتالي فإنهم ينظمون أنفسهم بحيث يقوي بعضهم البعض وبذلك يخفضون تكاليف الظلم مقابل ارتفاع تكاليف دفع الظلم اي تكاليف العدل.. ولتقليل تكاليف دفع الظلم فإنه لا بد أن تكون الحقوق والواجبات معيارية ومترابطة بحيث يكون اي خلل بها يؤدي الى الاخلال بها جميعا والوفاء بها يحتم الوفاء بها جميعا. ومن الممكن في مثل هذه الحالة أن يجتمع أصحاب الحقوق للدفاع عن حقوقهم وواجباتهم وبذلك فإن الضعفاء سيصبحون أقوياء.
*26 سبتمبر