المؤتمرنت -تأليف: نك ديفيز / عرض وترجمة: عمر عدس * - أحداث ملفقة وتزوير حقائق وشركات علاقات عامة تبيع الوهم ظل الناس فترة طويلة يعتبرون الأرض مسطحة، ويؤمنون بذلك باعتباره الحقيقة التي لا تقبل الجدل . واليوم، يؤمن ملايين من البشر في شتى بقاع الأرض، بما تمطره عليهم وسائل الإعلام في كل لحظة، وكأنه حقائق مطلقة، في حين ان نصيبه من الحقيقة لا يزيد على نصيب فكرة الأرض المسطحة .
هذه هي الفكرة التي تقف وراء عنوان الكتاب، “أخبار الأرض المسطحة”، أي الأخبار الزائفة التي تلبس زي الحقائق، تأليف الصحافي البريطاني نك ديفيز .
الكتاب صورة قاتمة عن واقع الإعلام العالمي، الذي يغلب عليه، في نظر المؤلف، الكذب، والتحريف والدعاية . وهو زاخر بالأمثلة التي توضح خلفيات كثير من الأخبار والتقارير، التي نشرت في العالم، وتكشف الزيف الكامن وراء هذه الأخبار والتقارير، وتفضح التضليل الذي مورس، ويمارس من خلالها .
مؤلف الكتاب، نك ديفيز، كاتب تحقيقات في صحيفة “الجارديان” البريطانية، نال عدة جوائز، وكاتب برامج وثائقية للتلفزيون إلى جانب تأليف عدة كتب .
والكتاب صادر عن دار “تشاتو آند ويندوس”، البريطانية .
يواصل المؤلف الحديث عن تدخّل أصحاب وسائل الإعلام، في ما يُنشر من مواد، ويورد حكاية مارس فيها مردوخ ذلك، وأصرّ على نشر قصة خبرية رغم أنه ثبت له ولصحيفته بطلانها .
كانت ادارة تحرير صحيفة “ناشيونال ستار”، وهي إحدى أولى صحف مردوخ في الولايات المتحدة، قد تلقت رسالة من مجهول، ادعى فيها ان لديه أخباراً موثوقة عن الاختفاء الغامض للزعيم النقابي، جيمي هوفا، الذي اختفت آثاره في 30 يوليو/ تموز 1975 .
وقد طلب ذلك الشخص المجهول من الصحيفة ان تنشر إعلاناً أملاه عليها، في صحيفة “الانترناشيونال هيرالد تريبيون”، ليكون اشارة إلى اهتمامها بمتابعة القصة . وقد فعلت الصحيفة ذلك، فتم الاتصال بها على الفور من قبل شخص عصبي المزاج يدعى السيد جوزيفس، حيث شرح لمحرري الصحيفة، انه كان قد استؤجر لقتل هوفا، وأنه رفض تنفيذ المهمة، ولذلك فهو يخشى الآن ان يُقتَل لإسكاته . وبموافقة مردوخ، دفعت صحيفة “ستار” للسيد جوزيفس ليطير من لندن الى لوس انجلوس، حيث رتّب أحد مراسليها لكي يلتقيه خارج فندق “روكسي ثياتر”، الواقع في شارع صانسيت، ليعطيه بعض النقود لتغطية نفقاته المعيشية: توقفت سيارة فجأة؛ نزل زجاج نافذتها الخلفية؛ سلّم الصحافي النقود؛ أخذ جوزيفس المال، وقال شكراً ومضى . وعلى مدى سلسلة من اللقاءات، قابل جوزيفس صحافيي جريدة ستار، وروى لهم بشيء من التفصيل، كيف جرى تعذيب جيمي هوفا، ثم قُتل في مؤخرة شاحنة صغيرة، قبل ان يُدفن في مكان ما في ولاية نيوجيرسي الأمريكية . وطلبت صحيفة ستار دليلاً على هذا الادعاء . قال جوزيفس، ان ذلك ليس مشكلة: فالدليل لديه، وهو مخبأ في الحرز والصون في مكان بعيد، داخل خزانة للأمتعة في مطار كولونيا . ولكن جوزيفس يحتاج الى المال، لينجو بنفسه من الخطر الذي يتهدده من جانب مغتالي هوفا .
ولأن مردوخ كان متحمساً لأن تنفرد صحيفته بنشر القصة، أرسل أمين سرّه ومعه مغلف يحتوي على 20 ألف دولار نقداً، الى أحد مراسلي الصحيفة، وهو بييرس اكيرمان، الذي طار بالمال الى كولونيا . وبناءً على تعليمات جوزيفس، مضى اكيرمان الى قاعة أحد الفنادق، وسلم المال الى زميل لجوزيفس لا يُعرَف عنه سوى ان لقبه “الألماني”، وقام هذا باصطحابه الى مكتب شركة لوفتهانزا في المطار . وهناك تسلَّم الصحافي مفتاحاً ورقم خزانة للأمتعة . وعندما فتحها وجد بداخلها حذاءً قديماً بني اللون قذراً- وهو الحذاء الذي أكد جوزيفس أن جيمي هوفا كان ينتعله عندما لقي مصيره المشؤوم . وأرسلت الصحيفة الحذاء الى مختبر متخصص لفحصه بالمطياف، فثبت انه لا علاقة له بهوفا . فأخذوا الحذاء الى نجل هوفا، الذي قال انه لا يشبه أحذية والده في شيء .
ولكن مردوخ، نشر القصة في صحيفته، رغم ثبوت بطلانها بصورة قاطعة .
وحقيقة الأمر، كما يقول المؤلف، ان الحذاء لا يمتّ بصلة الى هوفا، وكذلك جوزيفس . فقد جاء الحذاء من جمعية خيرية توزع الأحذية المستعملة؛ أمّا جوزيفس، فهو أفّاك معروف باسم جو فلين، كما كان يُعرف ايضاً بأسماء ادوارد كريستيان، وتشارلس بِنسون، وهاري بانكس، وادوارد بيج، رغم ان اسمه الحقيقي هو باري ادوارد جراي، وهو من مواليد جنوب لندن في 26 يناير/ كانون الثاني 1934 وقد ابتزّ من مردوخ، مقابل بيعه حذاءً قديماً، ما مجموعه 30 ألف دولار . وخلال عشرين عاماً قضاها متخصصاً في النصب على وسائل الإعلام، جنى ألوفاً كثيرة من الدولارات .
وكانت مهارة جراي، كنصّاب متخصص، تتلخص في أنه يفهم ما يريده الصحافيون بالتحديد، ثم يقوم بفبركة ما يحتاجون اليه .وكان يلجأ الى التلفيق لبيع أكاذيبه .
علاقات عامة
ويتحدث المؤلف عن التلفيق الذي تمارسه شركات “العلاقات العامة”، ويقول انه قد يكون محاولة لبيع الحقيقة (أو بيع صيغة محرفة عنها)؛ كما قد يكون محاولة لتأييد قصة حقّها ان تُهمل وتُطوى . ولكن التلفيق هو جوهر العلاقات العامة، أي تلفيق الأخبار المقصود به فتح أبواب وسائل الإعلام . ويقول ادوارد بارنيز، وهو من أوائل من أرسوا قواعد عمل العلاقات العامة، “ان مستشار العلاقات العامة، لا يعرف قيمة الأخبار فحسب، بل يستطيع ان يجعلها تتحقق باستغلال معرفته تلك” .
ومن الأمثلة المشهورة عن بارنيز، انه صنع الأخبار عندما طلبت منه شركة التبغ الأمريكية سنة 1929 ان يساعد على زيادة مبيعات سجائر “لاكي سترايكس” بين النساء . وكانت مشكلة شركة التبغ ان تدخين السجائر كان في ذلك الوقت، ما يزال يعتَبَر غير لائق بالمرأة المحترمة . وتفتّق ذهن بارنيز عن خطة، تقتضي إظهار الموضوع وكأنه قضية حرية، وليس مشكلة مبيعات في شركة تبغ . وقام بتلفيق بعض الأخبار: استأجر ثلاثين عارضة أزياء، وكلفهن بأن يتجولن مستعرضات في وسط مدينة نيويورك سيتي في يوم عيد الفصح، وهنّ يدخّنّ سجائر “لاكي ستراكس”، التي وصفها للصحافيين بأنها “مشاعل الحرية” . وانتشرت هذه القصة التي لفّقها، في جميع أرجاء الولايات المتحدة . فقرأتها النساء الأخريات، وانطلقن من فورهن يُقِمْن مناسبات يحملْن فيها “مشاعل الحرية”، حيث يتعاطين التبغ كتعبير عن الحرية، فتُنشَر أخبار ذلك، وتتعزز مبيعات شركة “لاكي سترايكس” .
يقول المؤلف، ان الصحافيين، في معرض بحثهم عن القصص الإخبارية السريعة السهلة، معرضون للتعاطي مع هذا النوع من الأخبار الزائفة، التي يبتدعها متخصصون يفهمون قواعد الانتاج في مصنع الأخبار .
وينقل عن المؤرخ الأمريكي دانييل بورستين، تحذيره في كتابه “الصورة” الذي نشره سنة ،1962 بعد ان درس سيل القصص الإخبارية الملفقة، الذي كان يتدفق من خلال وسائل الإعلام الأمريكية، إذ قال: “ان الناس في المجتمعات الديمقراطية، يمكن إغراقهم بالأخبار الملفقة، لأن حرية القول والصحافة تنطوي ضمناً على حرية خلق الأحداث الملفقة” .
ويتحدث المؤلف عن المقابلات التي يجريها الصحافيون، فيقول ان كثيراً منها، لا يكون من ابتداع الصحافي الساعي الى كشف الحقيقة، بل من تخطيط مستشار العلاقات العامة، الذي يفعل ذلك ليصنع الأخبار، في سبيل ترويج سياسة أو منتَج ما .
وكذلك الحال مع المؤتمر الصحافي والبيان الصحافي والصورة التذكارية . والقصص الإخبارية التي تنتجها هذه الأنشطة، قد تكون محقة وقد لا تكون، ولكنها جميعاً أحداث ملفقة، اصطُنعت لفتح أبواب وسائل الإعلام . وبعضها يبعث برسائل بارعة .
أحداث مفتعلة
وتقوم مؤسسات العلاقات العامة أيضاً، بتلفيق أحداث زائفة، كما يقول المؤلف . فعندما أعلن الرئيس بوش “انتهاء العمليات الحربية” في العراق في مايو/ أيار ،2003 لم يفعل ذلك من أمام باب مزرعته أو من على منبر البيت الأبيض: بل رتّب له مستشارو العلاقات العامة، ان يرتدي بزة الطيارين الحربية، وان يطير الى حاملة طائرات تغص بالصحافيين راسية على ساحل كاليفورنيا، حيث تم عرضه كمنتصر وكبطل حربي . وعندما أراد ان يدلل على تضامنه مع الجنود الأمريكيين، الذين كانوا ما يزالون غارقين في العمليات الحربية حتى ذقونهم، بعد ذلك التصريح بستة أشهر، لم يكتف بإطلاق بيان صحافي: بل طار الى مطار بغداد يوم عيد الشكر، مجهزاً بسترة عسكرية، وتم تصويره سينمائياً وهو محاط بجنود مبتهجين مع ديك رومي ضخم محمّر بإتقان، تبيّن فيما بعد، كما كشفت صحيفة واشنطن بوست، انه مصنوع من البلاستيك ومزين بالعنب . وبعد ذلك بساعتين، مع انتشار صورته وهو يتضامن مع الجنود عبر وسائل الإعلام العالمية، طار خارجاً من العراق من جديد . (ومع استمرار الانهماك في الحرب في العراق، غيّر البيت الأبيض في نهاية الأمر ما نُشر على موقعه على شبكة الانترنت، وجعله يبدو وكأن الرئيس لم يعلن سوى انتهاء العمليات الحربية “الكبرى”) .
تمثيليات “إسرائيلية”
ويتابع المؤلف قائلاً، ان بعض الصحافيين والمصورين الذين قاموا بتغطية أخبار إخلاء بعض المستوطنين “الاسرائيليين” من قطاع غزة في اغسطس/ آب ،2005 يعتقدون انهم كانوا يشاهدون سلسلة من الأحداث الزائفة المرتّبة بكل عناية . وكانت إزالة المستوطنين بالغة الأهمية في تلبية الحاجة السياسية لارييل شارون، رئيس الوزراء وقتئذٍ، الى الظهور بمظهر الراغب في التنازل من أجل السلام . وعلى مدى ستة أيام، أُغرِقت وسائل الإعلام العالمية بالصور التي تمثل “اسرائيليين” دامعي الأعين، وهم يُجرّون من منازلهم على أيدي الجنود . وكما قال الصحافيون الذين تحدثوا الى صحيفة الجارديان في يناير/ كانون الثاني ،2006 كانت الأحداث التي غطتها وسائل الإعلام مرتبة مسبقاً بين المستوطنين والجيش “الاسرائيلي”، وكان دور المستوطنين يتمثل في رمي مقذوفات غير مؤذية على الجنود مثل الدقيق والطماطم و”المخللات، ما دامت المخللات ليست داخل علب”؛ كما يستخدم الجيش فِرَقاً صغيرة وقوة يسيرة لأخذ المستوطنين بعيداً . وكما جاء في مقالة الجارديان، كان هنالك العديد من التقارير عن حالات هستيرية ودموع غزيرة، تبيَّن فيما بعد انها مجرد تمثيل أمام عدسات آلات التصوير .
هذا، بينما كان الاستيطان غير الشرعي في الضفة الغربية، جارياً على قدم وساق، وبوتيرة مدهشة، ولكن من دون تغطية إعلامية، وبعيداً عن عدسات المصورين، كما تقول صحيفة “الجارديان” . وبالطريقة ذاتها، كان طرد آلاف الفلسطينيين من منازلهم، قصة غير موجودة بالنسبة الى وسائل الإعلام . ويقول محرر الصور في إحدى وكالات الأنباء الكبرى، مستذكراً تغطية إخلاء المستوطنين من غزة، “كان الأمر تحفةً نادرة . . وقد شعرنا جميعاً فيما بعد أننا قد شاركنا في لعبة مدبرة، وأننا قد استُخدِمنا، واشتُرينا بإغرائنا بالتقاط صور مؤثرة” .
ومن الأنشطة الأخرى التي تمارسها شركات العلاقات العامة، في المجال الإعلامي، أنها تخلق مجموعات ومؤسسات بحث وبيوت خبرة، لا همَّ لها سوى الترويج لأفكار معينة تخدم خزائن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى .
عندما وجدت شركات التبغ في خمسينات القرن الماضي، أنها تتعرض للضغط جراء انكشاف العلاقة بين التدخين ومرض السرطان، لجأت الى استئجار شركات علاقات عامة من أجل خلق شبكة من المجموعات الزائفة تقوم بالتلاعب بأفكار الناس نيابة عنها . فقامت شركة هيل اند نولتون، التي كانت أكبر وكالة علاقات عامة في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، بابتداع “مجلس أبحاث التبغ” و”معهد التبغ” كمنظمتين مستقلتين في الظاهر، لإنتاج أبحاث تدافع عن مبيعاتها . وتوضح المذكرات الداخلية ان هدف العلاقات العامة لم يكن أبداً قول الحقيقة بشأن التبغ، بل الانهماك في انتقاء مغرض للحقائق، والتركيز على أي اشارة علمية يمكن ان تشكك في العلاقة بين التبغ ومرض السرطان .
وكما جاء في إحدى المذكرات: “الشك هو منتوجنا لأنه أفضل وسيلة لمنافسة “كتلة الحقائق” الموجودة في أذهان عامة الجماهير” .
وبينما استأجرت المجموعتان الزائفتان المذكورتان، التابعتان لشركة “هيل اند نولتون”، خبراء لإعادة صياغة وعي الجماهير، قامت شركة علاقات عامة أخرى، هي “بيرسون مارستيللر”، بإيجاد تحالف قومي للمدخنين، يقوم بعقد اجتماعات عامة، ومقارعة الساسة، محرِّفاً قصة التبغ من خطر على الصحة الى خطر على الحرية: فكان من شعاراته في هذا المجال: “اذا كان “المناوئون لأمريكا” يضغطون لفرض حظر تمييزي ضد المدخنين في مكان عملك، فاجهر بذلك!” . وقد فتح كل ذلك باب وسائل الإعلام في وجه تغطية كانت مخصصة بالتحديد لتشويه الحقائق .
ولا يقتصر دور العلاقات العامة، على اختلاق الأحداث، وصنع الأخبار، واصطناع المؤسسات البحثية وبيوت الخبرة الزائفة، بل يتعداه الى افتعال الحروب في بعض الأحيان، لخدمة غرض إعلامي معين . أي ان هنالك حروباً زائفة . ففي ذروة فضيحة مونيكا لوينسكي، أمر الرئيس بيل كلينتون بقصف مصنع للأدوية في السودان زاعماً أنه يصنع أسلحة كيماوية . ولم يكن يفعل ذلك، ولكن الغرض من قصفه كان زحزحة مونيكا عن العناوين الرئيسية للأخبار ولو بضعة أيام . ولعل كلينتون قد استوحى ذلك من سابقة فعلها رونالد ريجان، الذي أمر بغزو جرينادا في اكتوبر/ تشرين الأول ،1983 عندما بدأ الرأي العام ينقلب ضده بعد أن نجح أحد رجال المقاومة اللبنانية في قتل 240 جندياً من مشاة البحرية الأمريكية في تفجير في بيروت .
ومن الوسائل التي تتبعها شركات العلاقات العامة، انها تعرض على شاشات شبكات الإعلام، أشرطة مسجلة باعتبارها، أخباراً وتقارير صحافية مباشرة، حول حدث معين او قضية معينة، بينما هي في حقيقة الأمر تمثيليات معدة بعناية، لتخدم أغراضاً مرسومة بدقة .
وقد ظهر ذلك على شكل فضيحة في الولايات المتحدة، فاحت رائحتها سنة ،2004 عندما تبين ان كثيراً من القصص الإخبارية المصورة التي بثتها شبكات التلفزيون الأمريكية، والتي كانت تتوفر فيها كل مواصفات الأخبار التي تبثها وسائل الإعلام السائدة، ما هي الاّ تمثيل معدٌّ من قبل، شاركت في انتاجه فروع مختلفة من الحكومة الفدرالية الأمريكية، باستخدام ممثلين ومحترفين من شركات العلاقات العامة، يلعبون دور المذيعين والمراسلين، بهدف تعزيز السياسات الأمريكية ومن ضمنها غزو أفغانستان والعراق . وقد دان مكتب المحاسبة العامة الأمريكي في يناير/ كانون الثاني 2005 هذه “الأخبار” واعتبرها “دعاية مبطنة” غير شرعية .
وفي أعقاب تقرير المكتب المذكور، اكتشف “مركز وسائل الإعلام والديمقراطية” في مارس/ آذار 2006 ستّاً وثلاثين تمثيلية مصورة أخرى، أُعدّت لعملاء تجاريين من بينهم شركة جنرال موتورز وشركة بفيزر، وقد تمّ بثها من خلال نحو 77 محطة تلفزيونية، وكانت هذه المحطات تموّهها بإضافة بعض اللمسات اليها، وبثّ مقدمة لها يقرؤها مذيع محلّي عن نصّ من إعداد شركة العلاقات العامة، كما كانت المحطات تدّعي انها هي التي أنتجتها .
العلاقات العامة و”التلميع”
ومن نشاطات التلفيق الأخرى التي تمارسها شركات العلاقات العامة من خلال وسائل الإعلام، ما يُسمّى “إدارة السمعة”، اي تحسين سمعة بعض الأشخاص، بعرضهم من خلال وسائل الإعلام بهيئة معينة . ومن الأمثلة المذهلة على ذلك، ما حصل عند انتخاب الكاردينال جوزيف رازينجر، ليكون البابا بينيديكت السادس عشر في ابريل/ نيسان 5002X حين ووجه بسيل من القصص الإخبارية السلبية، التي أعادت الى الذاكرة ماضيه في “شبيبة هتلر”، وعضويته بعد ذلك في القوات المسلحة الألمانية .
وعلى الرغم من ان أنصار البابا كانوا يصرون على انه لم يؤيد القضية النازية بإخلاص أبداً، الاّ ان تلك الحملات كانت تشكل خطراً محتملاً على سمعته، لأنها كانت تحيي الشكوى القديمة من ان الكنيسة الكاثوليكية ظلت على مدى عدة مئات من السنين تدعم اللاسامية، وان البابا بيوس الثاني عشر، بوجه خاص، قد غض الطرف عن قصد خلال الحرب العالمية الثانية عن اضطهاد النازيين لليهود .
وردّ البابا الجديد على ذلك بزيارة معسكر التجميع في اوشفتز، في بولندا، في مايو/ أيار ،2006 والصلاة على أرواح ضحايا المعسكر .
ويقول المؤلف، ان حزن البابا قد يكون صادقاً، ولكن الحدث نفسه كان مرتباً ببراعة، من قِبل آلة العلاقات العامة في الفاتيكان، التي أصرت على معالجة سمعة البابا الجديد، وحقن رسالتها في شرايين وسائل الإعلام العالمية . ومن حيث المبدأ، كان بوسع البابا أن يذهب للصلاة في المعسكر سرّاً، من دون ان يعرف أحد بذلك . ولكن ما حدث، ان الدعوة قد وُجِّهت الى عشرات من المراسلين الصحافيين والمصورين، ليتخذوا مواضعهم في ساحة خصصت لهم عند البوابة الرئيسية، ليشهدوا البابا وهو يترجل من إحدى السيارات، وفق جدول زمني متفق عليه، خارج المعسكر، لكي يستطيع ان يسير الهويناء عبر البوابة، ويداه منعقدتان في وضعية صلاة، برفقة رجال دين، بينما يدق ناقوس في خلفية الصورة .
وأمام آلات التصوير، جثا البابا وصلى عند حائط كان بعض السجناء قد أُعدِموا عنده رمياً بالرصاص، ثم تحدث مع مجموعة تتألف من اثنين وثلاثين شخصاً من الناجين من المعسكر، كان قد تم تجميعهم لهذه المناسبة، وتهيئتهم لكي يجري الصحافيون مقابلات معهم .
ثم سجلت عدسات التصوير دخول البابا زنزانة مظلمة، للتأمل في موت كاهن كاثوليكي، هو ماكسيميليان كولبي، كان قد سُجن هناك من دون طعام بعد ان تطوع ليحل محل رجل مدان . وبينما رأى المشاهدون البابا يدخل الغرفة المظلمة وحيداً، فإن الحقيقة هي ان تلك الصور، كانت قد التُقطت من داخل الزنزانة، وانه كان يسير ضمن صورة تذكارية مفبركة . ثم ظهر البابا ليلقي كلمة مكتوبة بعناية، ولم يتطرق فيها الى عضويته في شبيبة هتلر او الى تاريخ الكنيسة الكاثوليكية واتهامها بمعاداة السامية؛ وصوّر الهولوكوست باعتبارها هجوماً لا على اليهود وحسب، بل على المسيحيين جميعاً، وقال ان منفذيها، لم يكونوا الألمان العاديين، بل نخبة من المجرمين النازيين الذين فرضوا أنفسهم على الشعب الألماني . وقد اعترض المؤرخون فيما بعد على هذا الزعم، واعتبروه مضللاً بقدر كبير . ومع كل ذلك، بثت وسائل الإعلام العالمية هذه القصة .
وقد لفّق فريق العلاقات العامة لدى الرئيس كلينتون، حكاية شديدة الشبه بهذه، في محاولة لإنقاذ سمعته، في صيف ،1998 بعد ان أدين بالكذب بشأن علاقته بمونيكا لوينسكي: حيث عرضوه أثناء “إفطار صلاة” مع مجموعة تتألف من مئة رجل دين، وأدلى باعتراف بخطاياه والدموع في عينيه، ورجا المغفرة، وكل ذلك أمام عدسات المصورين، التي بثته في أرجاء البلاد .
وبعد هذا الحديث عن نشاطات شركات العلاقات العامة، في المجال الإعلامي، يعود المؤلف ليقول، انها ليست الملومة على كل الكذب والتحريف الذي يتخلل وسائل الإعلام العالمية . صحيح انها تنتج كمية كبيرة من التحريف والكذب، ولكن وسائل الإعلام التي تلعب دور مصنع الأخبار، قد اعتراها الضعف البنيوي الى الدرجة التي باتت عندها تخون واجبها، بتمرير منتجات العلاقات العامة الى قرائها ومشاهديها دون تدقيق او تمحيص، كما انها تعمل في اطار قواعد انتاج تمثل في حد ذاتها مصدراً مهماً للكذب والتحريف .
*عن الخليج الاماراتية |