د.حاتم الصكَر -
الفن والحرب تمثيلات مارس
:الحرب كواقعة فنية في النصوص التشكيلية
الحرب القادمة ليست الحرب الأولى
فقد سبقتها في التاريخ حروب وحروب.
انتهت الحرب السابقة بمنتصرين ومنهزمين
عند المهزومين جاع عامة الناس
وجاع عامة الناس أيضا عند المنتصرين
( برتولت برخت)
من الذي (فعل) الجورنيكا؟
يسأل جنرال فاشي بيكاسو بعد أن رأى جدارية "جورنيكا" بفظاعة تمثيلها لمحرقة سوق القرية الإسبانية التي دكتها الطائرات في الحرب الأهلية: هل أنت الذي عمل جورنيكا؟
يجيب بيكاسو: بل أنتم.
السؤال عن العائدية يحمل الاتهام للفاعل الحقيقي لمجزرة الواقع تحريفا لسؤال الجنرال عن مجزرة الفن.
فالفاعل الحقيقي يسأل الفاعل الفني، وهذا يحيل بدوره إلى المرجع أو المحرّك، فلا عمل فني لولا وجود تلك المجزرة في الواقع.
لقد جرى تمثيل فني للكارثة، وتحولت سوق القرية المحترقة إلى واقعة فنية قد لا يجد فيها أحد من الشهود مفردات حَرفية، لكن الإحساس بالبشاعة والتقزز والألم سيظل يصاحب كل مطالعة بصرية تالية.
تأتي الحرب كحدث طارئ في الحياة البشرية، وكنكوص إلى حياة ما قبل المدنية أو ما يعرف بشريعة الغاب، وحلّ المشكلات بالحرب أو فرض الإرادات بالقوة التي تسحق الآخر وما يتصل به دون تمييز: أرضه وأهله وزرعه وحيواناته... بالأحرى حياته كلها تصبح قابلة للمحو وكل ما يمكن أن تصله أسلحة الخصم.
لذا كانت الحروب إعلانا عن شهوة الموت. وهكذا تصل عبر السك اللساني للكلمة أو المصدر اللغوي لها.
التمثيل البصري للحرب
يبدو تمثال "مارس" –إله الحرب لدى الرومان واليونان– مدرعا من رأسه حتى ساقيه، لا وجه ولا ملامح واضحة –بعكس الآلهة الآخرين– ترميزا لعمومية مهنته وشمول وجوده لقتلة عديدين سيرثونه. الدروع لا يراد منها حماية جسده؛ فهو –بحسب الميثولوجيا السائدة زمن إنجاز تمثاله– يهب القوة للمحاربين ويلهمهم طرق القضاء على أعدائهم؛ لكنه يصوَّر بهذه الهيئة الدرعية لإخافة الآخر المشرع للموت دوما.
في الكهوف التي حفظت رسوم الإنسان الأول يحدث الشيء نفسه: الإنسان يسيطر على الحيوان ليصطاده بمبدأ الاسم المهيمن على تفكيره. الشيء عنده هو صورته، لذا يرسم على جدران الكهوف أجساد الحيوانات يخترقها دوما رمح أو سهم. ولا يغفل في فترات متقدمة لاحقة أن يصور رد فعل الحيوان ذاته: اللبوة الجريحة في الجداريات الرافدينية مثلا، السهام تملأ جسدها، لكنها تصرخ واقفة ولا تسقط، يستطيل جسدها فيصبح خطأ المنظور والأبعاد طولا مضافا لحضورها زاحفة إلى الأمام رغم الموت القادم، إنها تستمد قوة مقاومتها وتعبّر بصرختها عن تشبثها بالحياة.
من أقدم التنظيرات للحرب كان كتاب "فن الحرب" للقائد العسكري الصيني سون –تزو، وفيه يعبر عن المبادئ العامة التي أثرت في صياغة الاستراتيجيات العسكرية وكيفية تجنب الهزيمة وتفادي الخسائر وتحقيق النصر على العدو حتى دون قتال. وقد تحولت منهجية الكتاب إلى عقيدة تلبَّسها محاربو الساموراي ونابليون، حتى الاستراتيجيات الأميركية القائمة. وبفضلها تحول الكر والفر إلى تصدير للقيم والصورة. لكن الصورة ستكون سلاحا معاكسا للحرب (سنرى لاحقا كيف كانت جرائم الحرب ضد العراقيين في سجن "أبو غريب" حربا معاكسة للاحتلال الأميركي عبر الصور المأخوذة للسجناء بأوضاع التعذيب البشعة، وتمثيلاتها التشكيلية التالية لها والمستندة مرجعيا إلى إيحاءاتها ودلالاتها).
الصدى البصري للحرب
لقد عملت الحروب، لا سيما الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين، على إحداث عثرات في حركة الفن الأوربي بسبب اشتراك بعض الفنانين مباشرة فيها أو لتأثرهم الحاد بصور المعاناة البشرية، ولكن ذلك لا يجب أن ينسينا الجانب الأسلوبي والشعوري الذي تغير بفعل تلك الحروب وظهور موجات وتجمعات لم يمنع طابعها الاحتجاجي من بروز نزعة التحديث فيها، بل كان سبا قويا لجنوحها نحو التحديث فكانت الدادائية والسوريالية والتكعيبية والتأثيرية التعبيرية، محاولات لتمثيل حدث الحرب ونتائجه في الضمير والمصير الإنساني. وتفاوت التعبير بين الترميز البليغ (صرخة مونش مثلا باختزالها للهم الإنساني والعذاب الفردي، وصرخة بيكون المقموعة بزاوية الفم)، أو بتمثيل وقائع عريضة ومدوية، كمجزرة جورنيكا التي صاغها بيكاسو بالأبيض والأسود واستخدم المأثور الأسباني(الثور) لنقل هول الفاجعة.
لقد تمثل جويا قبل ذلك حروب إسبانيا واضطراباتها ببشاعتها ودمارها عبر اتجاهين: أسطوري حين رسم لوحته "زحل يلتهم أبناءه" مهيمنا عليها السواد والخراب والخوف والإثارة، ثم بسلسلة رسومه كوارث الحرب، لا سيما لوحة القتال بالهراوات التي تمثل الصراع الهمجي بين الإخوة والدم يغرق أحدهما، بينما التصقت أرجلهما بالمستنقع الذي صنعته الدماء وحال بينهم وبين الهرب والنجاة. فاستمد موضوعاته من التاريخ القريب ووقائعه القائمة، ومن التاريخ الميثولوجي الرامز لشهية الموت.
كان "زحل" يلتهم –بعنف– أبناءه الموكل إليهم بحسب الأسطورة أمور السماء والماء والموت، ويجسد بشاعة العمل الذي يقوم به وهو موضوع تناوله رسامون آخرون أيضا.
ويعمل ديلاكروا على تجسيد بشاعة الحرب عبر تصوير جانب من المجازر التي حصلت في جزيرة ساكس اليونانية في حربها مع الأتراك. وتمادى في تكثيف جو المذبحة والقتل لأهالي الجزيرة حتى قال عنها بعض النقاد إنها مذبحة الفن.
كان بيكاسو وهو يرصد مصير جورنيكا الدموي يزج بالثيران والخيول الميتة تعبيرا عن الألم. وتدل الاسكيتشات الأولية العديدة التي نفذها استعدادا للعمل الجداري الخالد على مدى انفعاله وتأثره وتوتره؛ فالرغبات العنيفة –كما يقول منظرو جماليات الفن– تعبير عن معرفة العالم بكل تعقيداته، حيث لا ننتظر تقنية هادئة مستوية متوازنة وصقيلة؛ وهو ما جعل بيكاسو يترك العمل لمصيره الدلالي بالأسود والأبيض. فالثور يرمز للقصف الوحشي والعنف، حيث دمرت طائرات ألمانية سوق قرية جورنيكا الإسبانية في الباسك في أبريل 1937، مزاوجا بين الثيران والخيول القتيلة وصرخات النسوة من النوافذ.
وكان سلفادور دالي قد استبق الحرب بلوحته الشهيرة (نذير الحرب الأهلية) والتي يتساوق جوها مع لوحات أخرى يظهر فيها ما يدعوه جبرا إبراهيم جبرا "المحتوى الأدبي لا التشكيلي الصرف" رغم بشاعة ما يصوره والتشريح الواضح في وجه العجوز الفزعة واستنادها إلى عظام منخورة طويلة في عراء ممتد بلا أفق.
تجارب عربية
بسبب الحرب توقفت دراسة جواد سليم الفنية في روما، وعاد إلى بغداد منشغلا بالحداثة المستمدة من البيئة البغدادية، ومتنصتا للمدافع التي انتظر صمتها بلهفة ليعاود دراسته في لندن هذه المرة، فكتب عام 1944 في إحدى يومياته متمنيا: "غدا السلام يقترب، وأشباح الموت وآلات الشر تحتضر في بيوتها". ويعلق الناقد أسعد عرابي على صدى الحرب في روح "جواد" وأسلوبه وموضوعاته، بالقول إن "جواد" تبدو حساسيته الشمولية من مصاب العالم بالحرب العالمية الثانية أكبر من خارطة العراق؛ معللا ذلك بأنه أدرك معنى الإنسانية المضحى بقيمتها بسبب ابتلاء مجتمعه بالاستعمار. كما أن حب الحياة كما يقول "جواد" والكفاح في سبيل النظام الطبيعي كان دافعا متمثلا في عمل لخراب الحرب وتدميرها هو منحوتة "البنّاء" أو "الأسطة" الذي يعكف ومساعدوه على تشييد ما يعادل الحياة ورهافتها وكأنها صرخة معاكسة للحرب ومضادة لها.
وتظل انعكاسات الحرب وتمثلاتها تعمل في ضمير جواد سليم ووعيه ويقترب بها من دائرة الذات لينفذ لوحتين في زمن متقارب عام 1947 هما: "الابن المقتول"، و"الطفل الميت"، كجزئيات تعكف الحداثة على انتزاعها من سلسلتها المرجعية كوقائع خارجية أو نتائج لها لتدرجها في وجود جديد هو وجودها النصي.
وتشكل المرأة فاعلا في العملين تندب وتصرخ أو تنتظر حزينة مستلبة، كانت الخطوط الخارجية قوية للغاية تشد البصر كأطر للوجوه والشخوص المتنضدة بفورة عصبية يدل عليها ازدحامها في خلاء السطح التصويري وعفوية الوجود الشخصي في خلفيات العمل وتضاؤل أجساد الضحايا وصغرها، كناية عن براءتها وضعفها. وهي ترسم جوا كابوسيا ينفّر من الحدث ويزيد كراهية الإنسان للحرب وويلاتها المنعكسة هذه المرة على المصير الأسري والعاطفي للناس.
وبقدم الفنان فاتح المدرس شهادة على ما حصل في لبنان، لكنه يكتب ببلاغة عن وعيه البصري وتمثيلاته للحرب فيقول: "هل هذا الخط الممتد من جانب الرأس حتى الفقرات القطنية هو من مشرط جراح أم من سلاح القتل؟ ويختفي القتلة، ربما عادوا إلى قانا أو الخليل أو جنوب لبنان أو إلى مرتفعات الأراضي... إلى أي مكان. وأتساءل: من هو هذا الإنسان الذي رسمته الطبيعة وجئت أنا لأتمم بشاعته؟ هل حقا كان ملاكا؟". ويتحدث عن تحول الدهشة البصرية إلى ذاكرة سمعية كأنما يحلم بلوحة تقترن بالحدث وتجعله مجسماً في التلقي. لقد كان القرن العشرون بحق هو قرن القتل الجمالي، حيث "لا مكان للوردة والفراشة" بعبارة الفنان فاتح المدرس الذي يتساءل بعد رؤية مقابر البوسنة الجماعية: "ماذا يستطيع الفنان التشكيلي أن يفعل أمام حفرة تحوي آلاف جثث الآدميين الذين قتلوا رشّا أمام بعضهم البعض؟!".
لذلك يصف ما حدث في حرب لبنان الأهلية بالقول: "إن في قلب كل ملاك قاتلا". وعلق العبارة في مرسمه، وإلى جانبها لوحته "بيروت: ليل الحرب الأهلية" كانت المرأة تحتل الجانب الأيمن من اللوحة بابتسامة سائلة زرقاء وجسد لا يتبين منه المتلقي إلا الوجه، بينما تتلاشى أبعاد الجسد السفلى في هيولى وفراغ وإلى جانبها يبدو مدفع دبابة جاثما فوق بيت ربما كان بيتها.
إن السرد يلبي هنا حاجة الفنان للبقاء في منطقة وسطى بين الترميز والبوح المباشر. ووجود المرأة في هذا النص عن بيروت هو جزء من الخطاب الحداثي الذي لا يرى في المرأة كائنا مزدوجا أو منقسماً: "مارس" و"كيوبيد"، أو الحب والقتل، بل يجعل وجود المرأة، كقيمة جمالية عليا، مناسَبَةً لإدانة القتل ومبررا للحياة والدفاع عنها.
كما أن ذلك يؤكد المواجهة الفردية العزلاء للإنسان بوجه الشر الذي تمثله الحرب، وهو ما يبدو في تماثيل سامي محمد، التي يصر على طابعها الكوني لا المحلي لتجسد آثار العنف والحروب على الإنسان، وهي فكرته التي يشرحها لزوار معارضه أو محترفه. إنه يريد تلقيا معرفيا لصدى العنف الذي تضج به منحوتاته والعناء الفردي الذي يتحمله البشر جراء ذلك (والصورة المرفقة لأحد تماثيله تمثل ذلك المنظور المتسع للمعاناة) فالحرب ليست بشاعتها محصورة في كونها قدرا جماعيا فحسب بل بما تمثله من معاناة فردية يمثلها الشخص الممدد بلا قوة وعلى صدره صخرة ضخمة تسحقه وتستدعي جزءا من معاناة سيزيف الأسطورية.
في فلسطين التي تمسرحت على أرضها أكثر الحروب ظلما ووحشية، وطال أمدها حتى تعدى القرن الذي حدثت فيه، تبدو رسوم إسماعيل شموط متمثلة للحدث بطريقة مباشرة، تحضر فيها مفردات الشهادة خاصة. ولعل النكبة التي تمثلت بالعنصرية الصهيونية وحربها على البشر وتهجيرهم قد وجدت تمثلاتها في الحداثة الفنية اللاحقة. لكن الموضوع الفلسطيني ظل ذا أثر الْتهامي، أي أن الأعمال تتصاغر إزاءه وتعمل على أخذ موتيفات مجتزأة منه، تتمثل في المجازر المتكررة، بمقابل الروح الكفاحية للفلسطينيين ودفاعهم عن هويتهم.
وفي هذا الجو العاطفي المتوتر تتأخر وتائر التحديث؛ لأن الفن نشأ في حاضنة الحدث ولحق به على المستوى التمثيلي.
وا ويلتاه على بابل!!
الوصول إلى الموضوع العراقي المؤجل هو في أحد جوانبه –لا شعوريا– تأجيل للتأمل في التراجيديا العراقية القائمة؛ إذ كيف يمكن لعراقي مثلي، شهد الكوارث وعاش تداعياتها ونالته تشظياتها، أن يتأمل جرحه ليراقب تمثيلاته اللونية أو الورقية!؟
وكم سيكفي من الألوان ليوصل الإحساس بأنهار الدماء التي ينزفها –هذه اللحظة، كما في تاريخه كله– جرح عراقي مفتوح على الآخرة التي تبدو أحيانا جحيما يلتهم أخضر الحياة ويابسها!؟
كم من جورنيكا نحتاج لنجسد آلام القتلى بالمجان وصرخات المفقودين في حروب العراق المتلاحقة وأنّات أمهاتهم وآبائهم المتعلقة أبصارهم بوعد كالسراب بعودتهم المؤملة كالحلم!؟
كم جورنيكا تستوعب احتراق مئات الحيوات تحت السمع والبصر داخل ملجأ العامرية فجر 13/2/1991 بقذائف المقاتلتين الأميركيتين اللتين أغلق عصفهما أبواب الملجأ وامتلاء المكان بمياه شديدة الحرارة واختناق النائمين في الملجأ أو احتراقهم وخفوت أصواتهم، الطالبة للنجدة، شيئا فشيئا!؟
وكم يكفي من السطوح التصويرية ومواد النحت والحفر لتجسيد مأساة تعذيب سجناء "أبوغريب" على أيدي الجنود والجنديات الأميركان وهم يلهون –بساديّة عجيبة– بأجساد المحتجزين ويصنعون منها دمى وطرائف لالتقاط الصور... جرائم مروعة صورت حية فاهتز لها ضمير العالم كله!!؟
كم من الحبر والورق والألوان يكفي لبسط عناء الأرواح التي أزهقها العنف الأعمى والإرهاب، وفقد الناس في ظلامها وجهلها بنيهم وبناتهم وأحبتهم مجهولي المصير مغيّبين بلمحة بصر!!!؟
في العراق القديم ثمة مقاطع شعرية في قصيدة "إيرا وإيشوم" تتأوه على المدينة التي صارت خرابا:
وا ويلتاه على بابل التي صنعتُها ساميةً
كتاج شجرة النخيل لكن الريح أذبلتها!!
وا ويلتاه على بابل التي ملأتُها بالبذور ككوز صنوبر
ولكنني لم أتمكن من جعلها تثمر!!
وا ويلتاه على بابل التي زرعتُها كبستان خصيب
ولكنني لم أذق أبدا طعم ثمره!!
يكون الدمار في الأساطير العراقية والأدب الرافديني عامة ملازما للحياة ثم ينعكس في الرسم الجداري والألواح والتماثيل.
في القرن الثامن قبل الميلاد يتوعد الطغاة بهدم المدن وقتل الأبرياء:
سأجْهز على الأراضي وأحسبها في عداد الآثار
سأعيث خرابا في مدن وأجعلها قفارا
سأدمر جبالا وأجعلها خرابا
سأثير محيطات وأقضي عليها
سأنقب أرض القصب وأنبش القبور
كما يتوعد الأعداء بأن تسيل دماؤهم أنهارا كما الماء. ويوصي القائد العسكري بأن يقتل البشر والآلهة على السواء، والشيخ والشاب، وألاَّ تظل حكمةٌ ما تمنع من فعل الحرب الشنيع. وربما لذلك كانت طقوس تماثيل الخشب عند صناعتها تقترن بطقس غسل الفم لكي لا يظل للكلمة من معنى. وتنطلق قوة اليد فقط وما تحمله من سلاح.
أما الفن فقد كان تسجيلا لتلك الانتصارات الحربية، وباعثا لتدوينها صوريا؛ امتثالا لرغبة الحكام في تأكيد ذواتهم. وصار ذلك مبعثا للابتكار. فحين لا تكفي الأفاريز والمصاطب الحجرية والألواح لسرد قصة النصر، فإن الفنان يلجأ إلى ابتكار الرفوف التصاعدية لتدوين ملحمة النصر، وسنقف عند لوحة "أور" ذات الجهتين أو الوجهين التي تعرض جانبا من حروب السومريين وفي الجانب أو الوجه الآخر تسجل الاحتفال بالنصر واستعراض الأسرى أمام الحاكم والقادة. وهي منفذة بالمادة التي انفردت بها الفنون السومرية، حيث يستخدم القار على اللوح الخشبي ثم تثبت الأشكال عليه، وفي كل وجه ثلاثة صفوف من الأشكال الأفقية المتناظرة، وبين الأعلى والأسفل (أي في الفراغ الأوسط) تتكرر شخوص الحاشية والحاكم أو تبين المناسبة المحتفل بها، وبذا يتم سرد قصة النصر بستة أجزاء، وتظهر كذلك المغنية التي تحتفل بالمناسبة وكذلك غنائم المعركة.
هذا الميل السردي على الجداريات والأعمال الكبيرة سيظهر لاحقا في أعمال فنانين عراقيين في مقدمتهم جواد سليم في عمله الخالد "نصب الحرية" ذي المقاطع المترابطة سرديا.
يلاحظ الباحثون أن التصميم في لوحة "أور" أعطى الفنان القديم فرصة أكبر في توزيع شخصياته على اللوحة. كما أن خامة الصدف تطلبت دقة من الفنان في نحت أشكاله.
لقد دفعت روح السرد الملحمي فناني هذا النوع من الأعمال لتسجيل مفردات دقيقة ومهمة في الحياة الحربية آنذاك، كالعربة التي تفوَّق السومريون في استخدامها في الحروب وكواسطة نقل مميزة للحاكم الذي يظهر عادة بحجم أكبر من حاشيته وقُوّاده، أما الأسرى فهم خافضون رؤوسهم والقتلى تدوس عليهم أرجل المحاربين.
وأما في "أكد"، مملكة سرجون، إلى الشمال من "سومر"، فقد كانت الفنون الآشورية تحتفي بالحروب كمادة رئيسة لها تفوق عدديا النقوش والألواح التعبدية. ويمكن معاينة لوح النصر الذي يدون انتصارات نارام سن، حفيد سرجون الأكدي، على أعدائه. ويلاحظ الحس الملحمي في بنية اللوح حيث تسجل القطعة النادرة حدث الحرب، فيعتلي نارام سن الجبل منفردا متقدما الجيش وبحجم كبير، كما في الملاحم السومرية، على قمة الجبل، قريبا من الكواكب، ترميزا لهيبته ومكانته وتسلطه.
إن انشغال الفن العراقي في عواصمه الكبرى في بلاد الرافدين بالحرب ومفرداتها لا يعني إغفال الجوانب الإنسانية والموضوعات الجمالية؛ ولكن الحرب كانت المركز البؤري للأعمال الفنية ومناسبة ظهورها أو وجودها ، تماما كالمديح بالنسبة للشعر القديم، حيث لا موضوع يتقدم عليه ولا يعمّد الشاعر شاعرا إلا من خلاله، ولا تُعد القصيدة نصا مصرحا به أو معترفا بفنيته إلا بمروره من بوابة المدح.
لعل هذا الميراث الحربي المستعاد في الملاحم العصرية المنفذة بعد أو خلال حروب العراق المتكررة تعيد رسيّا أو اجترارا تلك التقاليد القديمة في الفن الرافديني المنهمك في تصوير الحروب وتخليدها عبر صانعيها المتخيلين وقادتها الميدانيين وجنودها السائرين على جثث الأعداء في عودتهم منتصرين.
وتعزز الروح الغنائية ما ينقص الملحمية من وجدانيات ورؤى، لكن الفنان يتضاءل كذات بموازاة الموضوع الأكبر الذي ينقله. ولا شك أن الغريزة المزدوجة في الحروب: بشريّة/ حيوانية، توقظ ذلك الإحساس بالتشفي وسحق العدو تحت جنازير الدبابات، مع إضافات وتعديلات موضوعاتية كتمجيد الشهداء وبسالتهم وفرح الأهل بتشييعهم أو هكذا يجب أن يظهروا في الفن الجماهيري الممجد للحرب.
ولكن في عمق المأساة وفقدان أعزاء وتهدم بيوت وحقول، يبرز الترميز ليسجل ضيق الإنسان وخوفه وحزنه وخساراته، انطلاقا من ملامسته ومعايشته للحدث.
لحظتان دراميتان في ذروة الألم العراقي
كي لا يظل الحديث عن العراق وحروبه واحتلاله حديثا عاما سأتوقف عند لحظتين هامتين في سيرورة ألمه المزمن والأبدي، هما: حادثة تدمير ملجـأ العامرية، وتعذيب سجناء "أبو غريب".
الفعلين لهما فاعل واحد. كان "مارس" يركب في جريمة العامرية طائرة مقاتلة تتبعها أخرى لتوسعا فتحات منافذ التهوية وتلقيا القنابل الثقيلة التي بسبب الحرارة التي صنعتها أغلقت مخارج الملجأ الغاص بالهاربين من القصف الليلي على المدن عام 1991. كانت تلك تحية الصباح من العسكر الأميركان لهؤلاء الحالمين بليلة لا يسمعون فيها صفارات الإنذار وهدير الطائرات ودوي القنابل التي يتوقعون أن تسقط على بيوتهم، لكن حدسهم خذلهم هذه المرة؛ ومن حيث ظنوا الأمن جاءتهم المقتلة التي حصدت أرواحهم بطريقة بشعة. كنا نتجمهر خارج الملجأ صباحا بعد أن سمعنا بالضربة الجوية على ملجأ مدني لسكان العامرية غرب بغداد، القريب من مركز الكرخ. هرعنا إلى هناك. كان المنقذون الأوائل من الإطفائيين قد ماتوا احتراقا أو اختناقا، ولا تزال صيحات المحاصرين من النسوة والأطفال والشباب تُسمع طالبةً النجدة! بعد ساعات ستتوقف صرخات الاستغاثة؛ لأن أصحابها لم يعودوا يطلقونها؛ لقد ماتوا جميعا!!
تمثّل الرسامون والنحاتون العراقيون، كما الأدباء والشعراء، عناصر تلك المجزرة التي شبهها الشهود بجورنيكا ضخمة وعصرية. ولكن الملجأ الذي صار متحفا يُري الزائرين صور الضحايا وقطع الشعر واللحم الملتصقة بالجدران، والجدران –أو ما تبقى منها– مسودة بهباب الأجساد التي تفحمت وشبح الموت يتبختر بإرشاد "مارس" الذي كان يتدرع بحديد إضافي وينظر بشماتة ولذة، ويشد على أيدي رسله من الطيارين الأميركان وقادتهم القتلة الذين أبدوا اعتذارا دبلوماسيا لم يخْلُ من اتهام للضحايا بالتقصير(!!).
ليست نصوص العامرية التشكيلية تحت يديّ الآن للأسف؛ ولكن الذاكرة تحتفظ بملاحظة نقدية مفادها ألاَّ عمل ارتقى إلى رتبة الواقعة وأثرها الشعوري والإنساني. هنا يتفوق الخارج وواقعته على نسخة الفن التي تحتاج إلى زمن لاستيعاب الحدث، وابتكار زاوية النظر التي تخلده في وعي الأجيال وضمير الإنسانية وسنن المدنية ونواميس الحضارة.
نحن لا نطالب هنا بعمل أيقوني ينقل مفردات مرجعه الخارجي؛ لأننا –بحسب ملاحظة جوليا كريستيفا بالغة الاختصار والدقة– نكون قد قسنا الموضوع المصوّر (المرسوم ) كصورة لمرجع موجود خارج نظام اللوحة ما دمنا نقيس لموضوع واقعي، وبذا نقضي على اللغة التصويرية باختزال مكوناتها في مكونات مشهد خارج اللوحة، تتصل به بطريق المماثلة التامة (المطابقة). وسنكون بانتظار عمل يستوعب ويتمثل ما حصل في الملجأ ذلك الفجر ويتأمل المصائر التي واجهها المدنيون النائمون، ثم يعيد تمثيلها فنيا، لا بتجويق الضحايا أو درج الجريمة في تحديات الحرب المعلنة، بل في دلالتها الإنسانية والقدر الفردي الذي واجهه كضحية.
في حالة سجن "أبو غريب" كانت الصور الفوتوغرافية ذات وقع استباقي، فكان العجز الفني بسبب ذلك الوقع المدوي للصور، لا بسبب التعجيز الذي تنطوي عليه الواقعة الخارجية (واقعة التعذيب المفرط في الوحشية للسجناء والمحتجزين وإشراك الكلاب في ترويعهم ونهش أبدانهم، والسخرية منهم وتعليقهم عراة بطرق مهينة وتصويرهم مع الجلادين، وسحبهم على أرضيات جرداء في البرد دون ثياب، وتكديسهم فوق بعضهم معصوبي الأعين، وربط أعضاء من أجسادهم بآلات كهربائية وسوى ذلك مما عرضته –ويا للمفارقة!– كاميرات شخصية استخدمها الجلادون من المجندين والمجندات في جيش الاحتلال الأميركي، وعرضوها في حمّى صفاقتهم واستعراضهم والتبجح بالهيمنة على عزّل مأسورين).
مؤخرا هزت الأوساط الفنية في العالم أعمال قدّمها الرسام الكولومبي فرناندو بوتيرو وتضم عشرات اللوحات من وحي فضيحة تعذيب السجناء والأسرى والمحتجزين المدنيين العراقيين في "أبو غريب". وسيكون لقراءة تلك الأعمال صلة قوية بمرجعها دون شك، حيث يتحدد عمل المخيلة بفعل الضخ الصوري وقوة المرجع ودويّه. لكن براعة الفنان تكمن في تعميق تلقي الضحايا لحدث التعذيب منفردين؛ إنهم يتلقون معاناتهم كقدر لا تخفف منه جماعية العقاب، وهذا الفهم يغير صورة البطل في اللوحة المستمدة من تداعيات الحرب، هنا نرى السجين قوي البدن رغم التعذيب، يتجه إلى المشاهد –ضمنا إلى الجلاد– ويناشده، لا باستعطاف، بل بقوة الحجة وإشارة القيد المضخمة ببلاغة، وكأنه يصنع صورة داخل اللوحة، وسيخرج المتلقي لهذه النصوص البصرية بأسئلة عن حق الجلاد في إهانة ضحيته وإذلاله والتلاعب بحياته وكرامته ووجوده، فضلا عن حريته، وحرية وطنه في المقام الأول.
إن الجريمة تشتد وطأتها حين يتذكر المشاهد، عراقيا أم غيره، أن حرب أميركا كانت تحت شعارات معاقبة نظام دكتاتوري لا قانون يسود علاقته بمواطنيه ولا قضاء ولا حرية تعبير أو رأي، ولكن كل هذه الشعارات صارت بسبب جريمة "أبو غريب" موضع شك وتساؤل معاكس ومضاعف؛ فأي من تلك الأفعال الشنعاء لمحتل تجاه مواطني البلد المحتل تتوافق مع تلك الدعاوى التي فضحتها النصوص التشكيلية المستمدة من الوقائع الخارجية والمعدلة لها في إطار الفن، لتغدو ذات أثر على المتلقي ونفوذ في ذاكرة البشرية التي تطهرها الأعمال الفنية من درن الحروب وجرائم صانعيها وبذرات نزواتهم الدموية!!؟
كما تحرر الذاكرة البشرية من شهوة الموت التي يشيعها "مارس" من وراء دروعه وعبر رسله القساة إلى ضعفاء العالم الذين –كما يثبت بريخت في مقطوعة استهلالنا للدراسة– يظلون جياعا سواء أكانوا في صف المنتصر أم المهزوم، ببساطة لأن المنتصر منهزم كذلك لأنه خسر الحجاج والقناعة وسبل العدل الممكنة.
*السياسية