بقلم -احمد الحسني - حقوق الإنسان بين الضرورة والعولمة
اختلفت مفاهيم حقوق الإنسان على امتداد التاريخ تبعا لمفهوم العدل في العقد الاجتماعي الذي يحكم علاقة الأفراد في المجتمع وعلاقتهم كمجتمع بالمجتمعات التي يتعايشون معها ديناً كان هذا العقد أو نظرية سياسية أو عرفا وغالبا ما كانت القوة والمصلحة هي التي تحدد القرار الأخير بهذه الحقوق من خلال التفسير النفعي للمرجعية النظرية أو استبدالها وإعلان غيرها إن أمكن.
هذه الحقوق التي تفاوتت أصنافا تبعا المفهوم العدل عند هذه الأمة أو تلك في تلك الحضارة أو هذه لم تصنع سلاما اجتماعيا أو تحقق عدلا ما لم تكن قناعة، راعت خصوصيات المجتمع وبناه المعرفية وموروثا ته الفكرية والعقائدية وأنماطه الاجتماعية وحاجياته الأساسية التي تختلف من مجتمع لأخر تبعا لظروفه المعيشية وأنشطته الاقتصادية ودائما كانت تفشل وترفض كقيمة في قيم العدل إذا جاءت فتوى لسيف أو بيانا لمجنزرة عسكرية كحقيقة مطلقة خصوصا إذا غلب على القيمة واقع براجماتي واستغلال.. فكان صراع الحضارات وثورات الشعوب وتنوع النظريات والمعتقدات وتبدل القناعات والمفاهيم تبعا لذلك وتحول الصواب إلى خطأ والتقدمية إلى رجعية والتجديد إلى أصولية والعكس لتهيمن في الأخير ثقافة المنتصر كحقيقة وخلاص مطلقين حتى يظهر منتصر آخر يفرض بثقافته حقيقة وخلاصا جديدين يتحول معهما الماضي إلى ذكرى بغيضة ومعايره للعدل والخير إلى معايير ظلم وشر وبالتالي كل ما أقام عليها من أخلاقيات وقيم ومنها حقوق الإنسان من قديم الزمان حتى شعوب أوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي بعد سقوط المنظومة الشيوعية التي كانت في فترة رمز الخلاص والعدالة الاجتماعية ضد العنصرية والنازية وهيمنة البرجوازية والإقطاع.
لم تكن النازية عقيدة شريرة لشخص واحد اسمه ( أدولف هتلر) وحربا على الأمة الجرمانية، لكنها كانت قبل هزيمته ثقافة قومية أنقذت ألمانيا من حالة البؤس والضعف التي كان تعاني منها بعد الحرب العالمية الأولى وكان اجتياح النمسا وحدةً هتف لها النمساويون مرحبين بجيوش هتلر القومية البطلة ، لقد كانت النازية مجداً وقضيةً عادلة من وجهة نظر عشرات الملايين الذين ماتوا في سبيلها لتتحول بعد الهزيمة إلى جريمة بحق الشعب الألماني أولا والشعوب الأوربية والعالم ثانيا وتحولت القيمة منتصرة إلى جريمة مهزومة.
حقوق الإنسان مفهوم يخضع كغيره ويحدده الموروث الثقافي والاجتماعي للأمم وقبل ذلك الأوضاع المعيشية لها وكل ما سيطرت المادة على وعي وثقافة أصبحت القيمة مرتهنة بالقوة التي تدعمها لا بخطئها وصوابها المستقلين، فحين تصبح مقاليد الأمور بأيدي أصحاب الشركات التجارية فإن الحصار الاقتصادي لن يفرض والجيوش الجرارة لن تسير لتدافع عن حقوق الإنسان الفقير ليس لإنها لا تؤمن بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولكن لأنها- ببساطة- لا تؤمن بأن الفقير إنسان ما لم يمكن استثماره.
حرب الست السنوات لم تكن بين محرري العبيد والطغاة بقدر ما كانت تعبيرا عن التحول في بنية المجتمع الأمريكي حيث وجد المجتمع التجاري الذي قوي في الشمال في قرارا الرئيس ( لنكولن) فرصة لتطويع مجتمع الجنوب الزراعي القائم نشاطه على العبيد وإخضاعه للمرحلة الاقتصادية الجديدة، فكان تجار العبيد الذين أصبحت لهم بدائل أكثر ربحا من هذه التجارة هم محررو العبيد من المزارعين الذين دفعوا لهم الثمن وكانت القوة وليس نبل القيمة هو الذي صنع النصر.
لقد جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان معبرا عن ثقافة الطرف المنتصر غربي سور برلين وخصوصياته وفلسفته السياسية من جهة ومن جهة أخرى كخطاب جماهيري في مواجهة طرف النصر الشيوعي القائم على فلسفة جماهيرية أممية تقاسم الرأسمالية مع برلين الأرض والسماء ،وظل هذا القرار طيلة فترة الغزل الجماهيري والحرب الباردة وتوازن القوى كسائر قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة اختياري التنفيذ يعلن المعسكر الشرقي برمته مخالفته له وعدم الالتزام به وينظر لما يناقضه من حضر الملكية الفردية وحرية المعتقدات الدينية وتكوين الأحزاب إلى غير ذلك.. ولم تكن حقوق الإنسان حينها رسالة أمريكية يتحدد بها الولاء والبراء إنما كانت الرأسمالية كنظام اقتصادي والمصلحة هما نقاط الالتقاء مع الأنظمة الحاكمة ،ملكيات أصولية وجمهوريات وراثية حتى لو لم توقع على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كالمملكة العربية السعودية مثلا.
لقد بدأ التحول بعد سقوط المعسكر الشرقي وأصبحت الديمقراطية باعتبارها ثقافة مهيمنة حقيقة مطلقة يجب أن تمرر عليها كل الثقافات والأديان والأنظمة السياسية لتحديد صلاحياتها للحياة من عدمها وتحول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق منظمات حقوق الإنسان الغربية إلى قميص عثمان العصر، تجوع من اجله الشعوب وتتحرك الأساطيل العسكرية لحمايته في أي بلد منتهكةً حريات الشعوب وهذا الوضع المقلوب ولْد وضعاً مقلوباً ومرحلة من النفاق السياسي وتملق القطب الأوحد من حكومات الشعوب والدول التي زادتها الإطاحة بصدام حسين خوفا وطاعة فأصبحت السلطات هي التي تنادي بحقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة من خلال الديمقراطية كخيار وحيد لشعوبها الطرش في هذه الزفة ،والغارقة في المعاناة ..لا تملك لأنفسها قراراً وتتلقى حقوقها بقرار سياسي من السلطة التي تحدد لها الشرعية والصلاحية تقارير الخارجية الأمريكية والمنظمات الأمريكية لحقوق الإنسان لتتحول بلدانها إلى دوائر صراع وساحة حرب بين السلطات( الديمقراطية ) مع كل من تصدم خيارته الفكرية ومعتقداتها مع فلسفة الاسترضاء التي تنتهجها السلطة ولم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة والغرب أن وقفت ضد حليفها سلطة كان أو دولة أو عملاء احتراما لحق يعارض مصلحتها وتوجهها السياسي ولو كان هذا الحق لشعب أو أمة كاملة في تقرير مصيرها واختيار النظام السياسي والمرجعية الفكرية التي تحكم حياتها ما لم يصبح هذا الحليف ورقة محروقة لا يمكن استثمارها فتتخلى عنه لتبحث عن بديل كما حدث مع شاه إيران أو تستثمر القضاء عليه لتختار بديلا من عداوته السابقة كما هو الحال مع صدام حسين وميلوزوفتش وتبقي القيمة أبداً محكومة بالمصلحة الخاصة للأقوى.
ما أريد أن أقوله أن أول انتهاكات حقوق الإنسان هو أن تفرض على الشعوب لائحة حقوق تمثل خصوصية معينة بالقوة العسكرية والتجويع وكما لم نفهم- أن السلاح الذي يُشترى من أجل عمولة الصفقة لا يصنع نصرا -لم نفهم أيضا أن الديمقراطية التي تنادي بها سلطة لن تكون تمثيلا حقيقياً للشعب وحقوق الإنسان التي تفرض بقرار من الكونجرس ليست أكثر من استعبادٍ للإنسان أمريكياً كان هذا الكونجرس أو غير أمريكي فحقوقي تبدأ في احترام قناعاتي بالتخلي عن أي حق تراه أنت لي وليس في فرضه على بالقوة فذلك إلغاء لشخصيتي وطمس لهويتي، ،من حق إيران الشيعية أن تحتكم إلى إمام أو مرجعيات دينية ،إذا كان هذا قرارها وتلك خصوصياتها ومن حق دولة إسلامية أن تقيم حد السرقة أو القصاص دون أن ترجع إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو تجلد شارب الخمر أو الزاني، دون أن تعاقب على انتهاك حرية الأفراد الشخصية ومن المنطقي أن يكون الاهتمام بحق الإنسان في العمل وحمايته من البطالة والفقر في مجتمعاتنا أهم من عقد مؤتمر دولي للختان وجدولة ديون مصر،أهم لدى الإنسان المصري من حقوق مجموعة من الشواذ جنسيا ومن غير المنطقي أن توقع دولة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ودستورها ينص على أن الشريعة الإسلامية مصدر جميع تشريعاتها وجميع الدول موقعة عليه باستثناء السعودية ودساتيرها تتعارض معه حتى تلك التي اكتفت من الشريعة الإسلامية بقانون الأحوال الشخصية.
إن حالة الفصام هذه التي نعيشها لن تجعلنا نطال بلح الإسلام ولا عنب الديمقراطية وهو أمر جربناه في ديمقراطياتنا البدائية والناشئة منذ تسعين عاما.
|