محمد حسين العيدروس -
الإرادة الوطنية.. أولاً وأخيراً
ليس هناك تاريخ كمثل تاريخنا اليمني صاخب بالأحداث، وليس كمثله أيضاً مليء بالعبر والتجارب التي يجب أن نستلهمها، ونستمد منها قوة إرادتنا الوطنية في صنع القرار، أو حسم خيارات العمل السياسي، أو رسم خرائط التحول لمشاريعنا التنموية.
فاليمن عبر جميع حقبها التاريخية لم يكن يستقر لها حال إلا عندما تكون الإرادة الوطنية لقواها المختلفة فوق كل الاعتبارات الأخرى، وعندما ينبع القرار من أرضية الواقع، وعلى أساس ظروف اليمن والتراث الحضاري والإنساني لأبنائه.. لذلك حتى بعدما قامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م لم يستقم الوضع الداخلي بسهولة، وعاشت اليمن لحوالي العقدين من الزمن مخاضاً صعباً تخللته بعض الصراعات السياسية، والعنف الذي أودى بأرواح بعض زعمائها.. ذلك لأن الإرادة الوطنية لم تكن قد تحررت بالكامل، وظل القرار السياسي اليمني متأثراً بكثير من التدخلات الخارجية سواء بحسن نية أم ضمن أجندة خاصة فرضتها ظروف الثورة المعقدة.
والحال نفسه تكرر على ساحة الشطر الجنوبي الذي رغم قيام ثورة اكتوبر 1963م ثم الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر 1967م لم تستقم أوضاعه، ولم تفارقه الصراعات الدامية جراء دخوله الأجندة الدولية، وارتباط قراره السياسي بالعجلة السياسية السوفيتية، وبالتالي فإن التطلع للوحدة كان بمثابة الرهان على امتلاك القوة التنموية، والإرادة السياسية الكاملة.
ولعل من يتصفح أوراق التاريخ اليمني لابد أن يقف عند سر نجاح الأخ الرئيس علي عبدالله صالح في وضع حد للاضطرابات والاغتيالات السياسية والصراعات التي كانت سائدة في العهود التي سبقته فأهم أسرار ذلك النجاح هو استلهام دروس التجارب السابقة وتشخيص الواقع تشخيصا سليما ومن ثم رهانه على الإرادة الوطنية اليمنية الخالصة في مواجهة كل التحديات التي كانت تعترض مسيرة الدولة اليمنية, فلم تكن لجنة الحوار الوطني التي جمع داخلها ممثلين عن مختلف القوى الوطنية والسياسية اليمنية بما فيها التي كانت تعارض نظامه إلا مشروعاً لقهر التحديات بإرادة الشعب نفسه ويفكر الشعب الذي بلورت اللجنة خطوطه الأساسية بالميثاق الوطني.
لذلك نحن اليوم، ورغم كل الحقوق والحريات التي تمنحنا إياها الديمقراطية لا ينبغي النظر بعيداً عن واقعنا اليمني، وإمكانياتنا، وخصوصيات مجتمعنا، ورهاننا على أنفسنا وقوانا الوطنية في رسم أبعاد حراكنا السياسي.. لأن تجاوز تلك الاعتبارات يعد مجازفة خطيرة، ومغامرة طائشة من شأنها نسف كل ما حققه شعبنا من منجزات تاريخية وأولها الوحدة اليمنية، والديمقراطية.
أما ما تحاول بعض القوى السياسية فرضه من عمل سياسي مشحون بالانفعالات، أو إغراق الساحة بمطالب تفوق إمكانيات البلد، وتتعدى حدود الزمن المتاح، فإنه أمر لا تراد به مصلحة وطنية بقدر ما الغاية منه إيصال السلطة إلى وضع تعجيزي تبرر به انتهاكاتها للقانون، وممارستها للعنف والتخريب، وارتباطاتها الخارجية التي يحرمها قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية، فبعض الأحزاب تطالب بتغييرات فورية لكل الأوضاع القائمة، في الوقت الذي هي نفسها تعيش حالة عجز وشلل شبه كامل عن إحداث تغيير واحد في قياداتها التنظيمية، أو أسلوب أدائها، أو حتى طريقة فهمها للحياة السياسية التي ما زالت حتى اليوم تعتقد أن الديمقراطية وتقاسم السلطات هما شيء واحد.. وان توزيع مقاعد البرلمان بين الأحزاب على طريقة توزيع المواريث بين الورثة سلوك ديمقراطي يعبر عن إرادة الجماهير كما هو الحال مع الانتخابات بالضبط!.
إن مثل هذا التناقض لا يمكن أن يترجم إلا تعبيراً حالة تمرد على المفاهيم الفكرية، وانقلاب على الإرادة الوطنية بمعنى أنها تحول تلك الإرادة إلى إرادة نخب حزبية وليس جماهير وهو الوضع الذي تؤكد تجارب التاريخ اليمني على مر العصور أنه كان السبب الأول لنكوص الدولة اليمنية، ومرورها بحقب مظلمة تحت نير القوى الاستعمارية أو الكهنوتية الإمامية البائدة.
لا بأس أن تتطلع القوى السياسية إلى التغيير والى الحكم فذلك أمر مكفول دستورياً حتى لمن هو ليس في حزب، ولكن لا يجب أن يأتي مفروضاً على شعبنا خارج صناديق الاقتراع أو بقوة البارجات الحربية الأجنبية، لأن شعبنا مجرب وكرامته فوق كل الكراسي والسلطات ولن يسمح لأحد بإعادته إلى زمن الزنزانات والاعتقالات والمجازر بعد أن جرب الحرية والديمقراطية، وصار يقول كلمة الحق بوجه الظلم والفساد دون أن يخاف من أحد أن يقطع لسانه أو يسحله أو يقتله..
هذا هو واقع شعبنا الذي ينبغي عدم تجاوزه بأي شكل من الأشكال، لأن عزة وشموخ اليمن لا تتحقق إلا بإرادته الوطنية الخالصة.