أحمد الحبيشي -
30 عاماً في دروب التغيير
تثير الذكرى الثلاثون لتحمل الرئيس علي عبدالله صالح مسؤولية قيادة الوطن والدولة والثورة قي اليمن قضايا ذات طبيعة إشكالية لجهة خبرة الممارسة السياسية والقيادية للرئيس خلال محطات ومنعطفات تاريخية ارتبطت باسمه، وشهد خلالها الوطن والثورة والدولة والمجتمع تحولات عميقة يصعب على أي باحث موضوعي تجاهلها او انكارها، بصرف النظر عن مدى اتفاقه او اختلافه مع سياسات الرئيس علي عبدالله صالح.
بوسعنا القول إن الرئيس علي عبدالله صالح نجح خلال الفترة 1978 - 1989 في أن يُعيد للثورة اليمنية زخمها في الداخل، وتحرير قرارها الوطني المستقل من الارتهان للخارج، كما تمكن في الوقت نفسه من وضع حد حاسم للصراعات الدامية على السلطة، وإشاعة مناخ الحوار والقبول بالآخر كشرط لمواجهة التحديات الداخلية و الخارجية التي عصفت بالبلاد خلال عقد ونيف من السنوات قبل تسلمه مقاليد الحكم، الأمر الذي استلزم توحيد واستنهاض كل الجهود الوطنية المخلصة لتجنيب الثورة اليمنية مخاطر الركود والجمود، وإخراجها من منعطفها الخطير الذي وصلت اليه.
منذ اليوم الأول لتسلمه مقاليد السلطة السياسية في السابع عشر من يوليو 1978م أدرك الرئيس علي عبدالله صالح حقيقة أن خلاص اليمن من الأزمات السياسية والصراعات الداخلية على السلطة لايتحقق بدون إعادة الإعتبار للثورة اليمنية وأهدافها، وتجسيد واحديتها في ميدان الممارسة العملية.. ولعل نجاحه غير المسبوق في قيادة شؤون البلاد طوال الفترة الماضية يعد دليلاً أكيداً على استيعابه العميق للدروس والخبرات المستخلصة من مسيرة الثورة اليمنية بكل إنجازاتها وإخفاقاتها.
صحيح ان الثورة اليمنية (26 سبتمبر 14 اكتوبر) نجحت في الإطاحة بالنظام الإمامي الاستبدادي و إقامة النظام الجمهوري وتحرير الوطن من الاستعمار وتحقيق استقلاله الوطني خلال اربع سنوات ونيف بعد انطلاقتها، بيد أن هذه المكاسب الوطنية العظيمة كادت ان تفقد وهجها ومضامينها الحقيقية طالما بقي الوطن مشطراً وظلت الديمقراطية غائبة.
كان استقلال الشطر الجنوبي في 30 نوفمبر 1967م آخر محطة توقفت عندها مسيرة إنجاز الأهداف الإستراتيجية للثورة اليمنية، ولم يعد بالإمكان تجديد وتنشيط آليات الإنجاز بدون استكمال ماتبقى من تلك الأهداف وترسيخ وتطوير ما تحقق منها.
في الإتجاه نفسه كانت الثقافة السياسية السائدة في شطري الوطن تكرس البعد الإيديولوجي والسياسي الواحد على حساب التعددية والتنوع، ما أدّى الى هيمنة النزعات الشمولية التصفوية التي اوجدت بيئة انقسامية مغذية للصراعات السياسية الداخلية، وعطلت في نهاية المطاف تطور المجتمع في مختلف الميادين.
من نافلة القول ان الثورة اليمنية (26 سبتمبر 14 اكتوبر) حددت منذ لحظة انطلاقتها الأولى معالم الطريق نحو المستقبل، إذْ بلورت منظومة متماسكة ومترابطة من الأهداف الإستراتيجية التي تمحورت حول ضرورة تحرير الوطن من الاستبداد والاستعمار، وتحقيق الوحدة اليمنية وبناء المجتمع الديمقراطي.
تفكيك بنية الاستبداد
جاء الرئيس الشاب علي عبدالله صالح إلى الحكم في بلد مشطر إلى جزئين متنافرين.. ولأنه واحد من جيل الشباب الثوري الذي نشأ وعيه في واقع راكد حركته رياح الثورة اليمنية، فقد كان أبرز ما تميزت به تجربة الرئيس علي عبدالله صالح في الحكم هو انطلاقها من مدرسة واقعية جديدة في التفكير تنتسب إلى الثورة في مشروعها الرامي إلى التغيير، بقدر ما تنتسب في الوقت نفسه إلى واقع متخلف فشلت في تغييره مشاريع سابقة لتيارات سياسية وفكرية شمولية، يفترض كل واحد منها تمثيل الحقيقة دون سواه، الأمر الذي قاد إلى هيمنة أنماط متصادمة للتفكير النظري والممارسة العملية لا يوحّد ها سوى قاسم مشترك هو إيديولوجيا الإلغاء التي أفرزت صراعات وإنقسامات حادة داخل المجتمع، لم تنج منها النخب الثورية - نفسها- ما أدّى الى إصابتها بالتمزق والضعف والتناحر والتحلل.
عند وصوله إلى سدة الحكم تعامل الرئيس علي عبدالله صالح مع بيئة سياسية معاقة بالكوابح ومثقلة بالأمراض التي خلقتها مشاريع بالية فشلت في صياغة مشروع وطني ديمقراطي قابل للتنفيذ والاستمرار، وعجزت في الوقت نفسه عن تقديم بديل حقيقي لثقافة الاستبداد التي كرستها الدولة الدينية الثيوقراطية قبل قيام الثورة والجمهورية.
وتبعاً لذلك كان الاستبداد المتدثر برداء الخطاب الثوري الجديد أكثر قسوة ومضاضة على المجتمع، من الاستبداد المختبئ خلف الخطاب الديني للنظام الإمامي البائد، فيما كان حجم الجراح الموروثة عن أخطاء قوى الثورة أشد خطراً على الحرية والحقيقة من ثقافة الاستبداد نفسها.. بمعنى أن الرئيس علي عبدالله صالح وجد نفسه أمام مهمة تفكيك بنية الاستبداد وبنية التجزئة بعناصرها المتنوعة سواء تلك الموروثة عن أمراض ما قبل الثورة، أو عن أخطاء قوى الثورة اليمنية.
من نافل القول أن تأسيس المؤتمر الشعبي العام الذي يعتبر واحدا من اكبر الاحزاب السياسية في اليمن أرتبط بالدور المتميز للرئيس علي عبدالله صالح في قيادة السلطة السياسية للدولة منذ وصوله إلى السلطة في ظروف متميزة أيضاً.. فالرئيس علي عبدالله صالح - كما هو معروف - وصل إلى السلطة باختيار مباشر من النخب السياسية التي تمثلت في مجلس الشعب التأسيسي عام 1979م، يوم كان الشطر الشمالي من اليمن يواجه خطر فراغ السلطة نتيجة عزوف الساسة عن التفكير في تحمل مسئوليات الحكم الذي أودى بحياة رئيسين قبله خلال فترة زمنية قصيرة.. بمعنى أن السلطة هي التي سعت إليه ولم يسع إليها، ناهيك عن انسداد الحياة السياسية طوال السنوات السابقة لتوليه مهام الحكم بفعل هيمنة القبضة الحديدية لأجهزة الدولة الأمنية، وغياب المجتمع المدني، وتحريم التعددية الحزبية ولجوء الأحزاب إلى العمل السري.
كان قبول الرئيس علي عبدالله صالح هذا التكليف ينطوي على استعداد لمواجهة مخاطر متوقعة على المدى القريب ما فتئ أن وجد نفسه أمامها بعد شهرين من تحمله مسئوليات الحكم، حيث وقع انقلاب عسكري فاشل في اكتوبر عام 1978م، ثم وجد نفسه بعد خمسة أشهر من ذلك الانقلاب أمام مخاطر جديدة تمثلت في حرب فبراير 1979م بين الشطرين، والتي نجح في إيقافها بواسطة الحوار السياسي الوطني مع قيادة الحزب الاشتراكي في الشطر الجنوبي من الوطن.
وفيما كان الرئيس علي عبدالله صالح يراهن على فسحة من الوقت تمكنه من تضميد الجراح التي نجمت عن انقلاب اكتوبر 1978م وحرب فبراير 1979م، ومعالجة المشاكل الموروثة عن سنوات الحرب الأهلية والصراع الداخلي منذ عام 1962م، وجد نفسه مرة أخرى في مواجهة اللعبة العمياء للصراع على السلطة باندلاع المعارك المسلحة في المناطق الوسطى، حيث شن الفرع الشمالي للحزب الاشتراكي اليمني حرباً منظمة بهدف تغيير الأوضاع وإسقاط السلطة بالقوة، أستمرت خلال الفترة بين عامي 80 - 1982م.
ومرة أخرى إرتبط نجاح الرئيس علي عبدالله صالح في إطفاء نار تلك المعارك بالحوار السياسي الوطني مع قيادة الحزب الاشتراكي اليمني إلى جانب الحوار الذي كان قد دشنه مع مختلف القوى السياسية والشخصيات الوطنية في اليمن منذ عام 1980م، حيث تم تشكيل لجنة للحوار الوطني ضمت نخبة كبيرة ومتميزة من الساسة والمفكرين والمثقفين الطليعيين من مختلف تيارات الفكر السياسي الوطني والقومي والاشتراكي والاسلامي، أنبثق عنها الميثاق الوطني كوثيقة نظرية منهاجية تم استخلاصها من القواسم المشتركة بين جميع التيارات الناشطة في المجال السياسي، وصولاً إلى تأسيس المؤتمر الشعبي العام الذي مثل عند نشوئه إطاراً سياسياً لمفاعيل العمل الوطني السياسية والفكرية، على خلفية معقدة من موروث الصراعات الدامية والانقسامات الداخلية والحروب الشطرية والأهلية.
اللافت للنظر أن كلاً من دستوري الشطرين الشمالي والجنوبي من الوطن كانا يحرمان التعددية الحزبية، بيد أنهما - كحال دستور الوحدة- لم يصادرا حق المواطنين في تنظيم أنفسهم سياسياً ونقابياً.. وهنا يجب ألا نبخس الناس أشياءهم حين نقول إن الرئيس علي عبدالله صالح سلّم هذا الحق لأصحابه بعد أن ظل مهملاً منذ إقرار الدستور عام 1970م، وكان لافتاً للنظر أن عملية التسليم تمت على مستويين من المشاركة، مستوى الحوار بين النخب السياسية، ومستوى الجماهير التي شاركت في إقرار مخرجات هذا الحوار من خلال الاستفتاء على وثيقة الميثاق الوطني، وانتخاب المندوبين إلى المؤتمر التأسيسي للمؤتمر الشعبي العام، وكانت العملية بمجملها تشكل خطوة مهمة على طريق الخروج من انفاق الشمولية والانتقال إلى تخوم الديمقراطية.
وقد أوجد قيام المؤتمر الشعبي العام حافزاً لحراك سياسي جديد داخل النخب الممثلة لمختلف التيارات السياسية والفكرية التي أنضوت فيه، ووصل هذا الحراك ذروته بعد قيام الوحدة اليمنية عبر عملية فرز وإعادة بناء أسفرت عن ولادة نخب جديدة أنفصلت عن النخب السياسية القديمة، وأنخرطت في إطار مشروع حزبي وسياسي جديد ومختلف عن المشاريع السابقة، حيث تم الاعلان هذه المرة عن تحول المؤتمر الشعبي العام إلى تنظيم سياسي برنامجي في إطار التعددية الحزبية، وهو ما سنأتي على مقاربته لاحقاً.
في هذا السياق يمكن فهم أبعاد الخطوة التاريخية التي أقدم عليها الرئيس علي عبدالله صالح حين قرر الانفتاح على الفرع الشمالي للحزب الاشتراكي اليمني (حزب الوحدة الشعبية) الذي خاض مع السلطة مواجهة مسلحة دامت سنتين ونيف، بالإضافة إلى انفتاحه أيضاً على التيار الاسلامي الذي شارك في تلك المواجهات حين كان مهووساً بالبحث عن أي فرص سانحة للجهاد السلفي المسلح ضد أي عدو مفترض في الداخل والخارج.. وتوج الرئيس ذلك الانفتاح بتوقف المواجهات المسلحة والسماح لحزب الوحدة الشعبية المعارض بإصدار صحيفة «الأمل» الأسبوعية التي حلت محلها بعد الوحدة صحيفة «المستقبل» كما سمح للتيار الإسلامي بإصدار صحيفة «الصحوة» الأسبوعية التي مازالت تصدر بانتظام منذ تأسيسها قبل الوحدة.
ما من شك في أن السماح بإصدار هاتين الصحيفتين المعبرتين عن تيارين فكريين رئيسيين ومتغايرين إلى جانب صحيفة «الميثاق» الناطقة بلسان المؤتمر الشعبي العام كان بمثابة الخطوة الأولى في مشروع تأسيس صحافة حزبية تعددية تساهم في تأهيل الحياة السياسية لاستيعاب قيم الحوار والقبول بالآخر والتخلص من ثقافة الإلغاء والاقصاء والإدعاء باحتكار الحقيقة.
جاءت انتخابات مجلس الشورى عام 1988م لتشكل جرعة جديدة إضافية على طريق التحول نحو الديمقراطية، وشهد الشطر الشمالي من اليمن بعد تلك الانتخابات موجةً من المؤتمرات والفعاليات الانتخابية التي عقدتها الاتحادات والنقابات الجماهيرية والمهنية، سواء تلك التي تأسست أو تم احياؤها بعد قيام المؤتمر الشعبي العام سنة 1982م.. ولا أبالغ حين أقول بأن ذلك الحراك جسّد بصورة ملموسة حيوية البيئة السياسية في الشطر الشمالي من اليمن وقدرتها على بلورة صيغة محلية للتفاعل الإيجابي مع المتغيرات الدولية وفي أساسها تحديات التحول نحو الديمقراطية التي أكتسبت في أواخر الثمانينات من القرن الماضي طابعاً كونياً.
كانت الثقافة الوطنية تمارس سلطتها المعرفية على المجال السياسي للعمل الوطني وتؤسس نظاما أخلاقياً للقيم، فيما كان العمل الوطني يسعى من خلال المجال السياسي الى بلورة مشروع وطني للتغيير على تربة الثقافة الوطنية التي أغنت الوعي الوطني بأفكار الحرية، وتصدت بجسارة للثقافة الإمامية المتدثرة بإيديولوجيا دينية مذهبية، ولثقافة الاستلاب الإستعمارية التي استهدفت تكريس التجزئة، ومصادرة الهوية اليمنية وتسويق هوية بديلة يضيع فيها وبها الوجه الشرعي للوطن الواحد.
نحو تأسيس ثقافة سياسية جديدة
صحيح أن ذاكرتنا الجماعية لا تخلو من بقاع سوداء لفصول دامية ومأساوية شوّهت العمل الوطني الثوري وأثقلت سيرته بالآلام والأخطاء والجراح الغائرة.. لكن ذلك كان يحدث فقط عندما كان المجال السياسي للعمل الوطني ينفصل عن مجاله الثقافي وينقاد لسطوة الإيديولوجيا وأوهامها، فتكون النتيجة مزيداً من الفصل بين السياسة والأخلاق، ومزيداً من الاغتراب عن الواقع والثقافة الوطنية، ومزيداً من الابتعاد عن نظام القيم الأخلاقي والساطة المعرفية لثقافة الحرية!!
في زمن غير منسي من التاريخ الحديث للتشطير، وحينما كانت الدولتان الشطريتان تقيمان في اللاوعي، تولت الإيديولوجيا مهمة مصادرة السياسة وتأميم الثقافة في آن واحد..فأصبح الدور الوظيفي للثقافة تابعاً للإيديولوجيا السائدة في كل من الدولتين اللتين تموضعتا خارج السياق الموضوعي لجغرافيا الوطن الواحد وضمير الإنسان الحي.. بمعنى أن الثقافة السياسية فقدت مضمونها الوطني الذي يجعل منها ضميراً حياً للوطن المجزأ، و مرآة صافية لوجهه الشرعي!!
وفي زمن غير منسي من هذا التاريخ نهض الوعي الوطني على رافعة الدور الوظيفي للثقافة الوطنية.. حيث جاء تأسيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين مبشراً بتجدد الخصوبة في خريف عقيم.
كان الاتحاد أول ممارسة وحدوية في المجال السياسي للتشطير، وأول مقاومة معرفية لأنساقه السياسية والأيديولوجية والثقافية أعادت للفكر والإبداع إستقلاله عن الإيديولوجيا السائدة، وجعلت من وحدة الأدباء والكتاب والمفكرين مرآة لضمير الوطن الثقافي.
لعل ذلك يفسر الدور البارز الذي لعبه الاتحاد ومن خلاله المثقفون في رفع رايات الوحدة التي حاولت ايديولوجيا التشطير تنكيسها، وما ترتب على ذلك من تلاحم عضوي بين الحراك السياسي والحراك الثقافي، أسفر عن تحول الثقافة الوطنية الى رافعة قوية للمشروع الوطني الوحدوي في مواجهة تغوّل الإيديولوجيا، بعد ان صادرت كل ما عداها من روافع وجسور للتواصل بين أبناء الشعب الواحد!
كان تأسيس الاتحاد اول صرخة استهدفت تجديد استيقاظ الوعي الوطني.. وكان مؤسسوه وفي طليعتهم المناضل الوحدوي الخالد عمر عبدالله الجاوي يستحضرون خبرة استيقاظ الوعي الوطني في الثلاثينات على أيدي الرواد الأوائل من المفكرين والأدباء الذين بذروا في تربة المجال الثقافي للوطن نواة أالمشروع الوطني للتغيير.. وعلى خطى أولئك الرواد تم إحياء مجلة «الحكمة» التي خاطبت الضمير الثقافي للوطن المجزأ.. ومهدت لعودة الوعي، وسعت الى اثبات عجز ثنائية التجزئة و الأيديولوجيا عن الخروج من مأزقها الذي تمثل - أيضاً- في العجز عن إيجاد حل سحري يمنع وقوع الحروب الشطرية والأزمات الدورية بصورة حاسمة، ويحافظ على التجزئة الكيانية في آن واحد.
مما له دلالة عميقة أن تكون حرب فبراير 1979م آخر المحطات الخطرة لتلك الثنائية، حيث أنتهت تلك الحرب بتحولات نوعية في مجرى العلاقات بين الدولتين الشطريتين من جهة، وكذلك في مجرى العلاقة بين الممارسة السياسية والثقافة السياسية من جهة أخرى.
أسهمت سياسة الرئيس/ علي عبدالله صالح - منذ وصوله إلى الحكم - في إعادة تشغيل مفاعيل العمل الوطتي بهدي أهداف الثورة اليمنية التي أعاد الإعتبار لتاريخها وجدد زخمها من خلال إطفاء بؤرالحروب الأهلية وطي صفحات الصراعات الداخلية، والحرص على الانفتاح والتسامح والقبول بالآخر، والبحث عن القواسم المشتركة، والسعي لتغليب قيم الحوار على ما عداها من القيم السياسية السائدة، الأمر الذي أفسح الطريق لتأسيس ثقافة سياسية مستقلة عن هيمنة الأيديولوجيا.
وبقدر ما أسهمت توجهات حقبة الرئيس/ علي عبدالله صالح في تأسيس ثقافة سياسية جديدة، بقدر ما أصبحت هذه الثقافة عنصراً فاعلاً في بنية الثقافة الوطنية التي نهضت لتخليص سؤال الوحدة من سطوة الأيديولوجيا.. فقد تميزت هذه الحقبة بإصرار الرئيس علي عبدالله صالح المتواصل على ممارسة تعب البحث عن أجوبة جديدة على الأسئلة التي تطرحها الحياة المعاصرة بكل متغيراتها وتناقضاتها بعيداً عن الأجوبة الجاهزة والحلول المعلبة، مع الأخذ بعين الإعتبار ان هذه المهمة تبرز على الدوام في الظروف التي تشهد متغيرات عاصفة ومتسارعة وجراحاً غائرة وعوامل كبح لا يمكن تجاوز آثارها بدون التخلص من قوالب التفكير الجاهزة، وطرائق العمل القديمة والمألوفة..
فكما أن الظروف تتغير باستمرار، فإن الحقيقة تظل نسبية وليست نهائية والوصول إلى الحقيقة ليس سهلاً ولا بسيطاً، ولذلك فإن النخب التي تعتقد أن الحقيقة النهائية في أيديها، ولا ينبغي التعب من أجل البحث عنها يومياً بل يكفي تناولها من الملفات الجاهزة أو تقارير الأجهزة اوالكتب القديمة أو الوثائق الحزبية أو الشعارات الشعبوية، ان النخب التي تعتقد بذلك، لا شك في أنها تخاطر بفقدان مقدرتها على التجدد والإستمرارية والعطاء، وتغامر بضياع مستقبلها السياسي وبعدم قدرتها على أن تكون طليعة سياسية في المجتمع.. ولأنه ليس كذلك فإن الرئيس على عبدالله صالح تصرف طوال هذه الحقبة التي أشرنا إليها على نحو بدا فيه مسكوناً بهموم البحث المستمر عن الحقيقة، ومحاولة إعادة اكتشاف واقع بحاجة مستمرة إلى المزيد من الكشف.
من نافل القول أن الرئيس دأب على تفعيل لجان الوحدة المشتركة بين الشطرين والتي كانت مجمدة ومتوقفة منذ تشكيلها بموجب بيان طرابلس عام 1972، كما حرص على التواصل الحي مع العديد من قادة الشطر الجنوبي والقوى السياسية ورموز المجتمع وممثلي الفعاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلاد، وذلك بهدف التشاور والتنسيق والتعرف على وجهات النظر المختلفة، والتفاعل مع ما يراه ممكناً وضرورياً من الرؤى والتصورات.. وقد جسد بهذا السلوك الحي التزاماً غير مسبوق بقواعد الممارسة الديمقراطية تجاه المجتمع، حيث لا فرق بين مؤيديه ومعارضيه وخصومه، بمن فيهم اولئك الذين قاوموه بالسلاح منذ وصوله الى الحكم عام 1978م.!!
بهذا السلوك أسهم الرئيس علي عبدالله صالح بقسطه في تأسيس ثقافة سياسية جديدة، يستحيل بدونها معافاة جراح الصراعات السياسية السابقة، وصياغة مشروع وطني للتغيير يجسد روح وأهداف الثورة اليمنية، ويتجاوز رواسب المشاريع القديمة التي تميزت بالإفراط في افتراض تمثيل الحقيقة، والاستغراق في اجترار ثقافة الإلغاء والإقصاء التي كانت على الدوام نقيضاً للحرية وصنواً للاستبداد وعدواً للمعرفة، بعد ان أفرطت في فرض وصايتها على العقل والحقيقة من خلال إضفاء القداسة على الإيديولوجيا السياسية بمختلف طبعاتها الدينية والطبقية والقومية على حد سواء.
ما من شك في أن التيارات السياسية والفكرية في اليمن تكاد أن تكون امتداداً لتيارات مماثلة لها في الساحة العربية التي شهدت تجارب مأزومة ومشوهة أفرزتها المشاريع القديمة بعد ان طبقت على الصعيدين النظري والعملي أفكاراً وشعارات قومية واشتراكية و إسلامية.. والحال ان المشاريع القديمة التي نقصدها كانت قد وصلت الى سدة الحكم في بعض البلدان العربية بوسائل انقلابية أساسها الاعتماد على عنصر القوة ثم خسرت في نهاية المطاف وهجها وبريقها.
لم تتوقف الآثار السلبية لهذه التجارب الخاسرة على اضعاف حيوية المجتمع العربي وتهميش قواه الحية، بل امتدت لتصيب بدائها العضال مختلف النخب الحاكمة في تلك البلدان التي نكبت بتجارب شمولية فاشلة، وعجزت عن تقديم نموذج قابل للاستمرار والتجدد وانتهت الى إفلاس سياسي وفكري وثقافي تكونت على تربته الهشة أزمات وانهيارات مدوية، مقابل بروز مخاطر وتحديات قوية، لا يمكن مواجهتها بدون إمتلاك مشروع جديد للتغيير يقوم بالدرجة الاولى على قاعدة تحرير السياسة من ثقافة الاستبداد والإلغاء والادعاء باحتكار الحقيقة.
في هذا السياق تفاعل البعد الثقافي الجديد لحقبة الرئيس علي عبدالله صالح مع الابعاد التي جسدها قيام اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في السبعينات كرد فعل لمشروع توطين التجزئة وتبريرها بواسطة تلفيق ايديولوجيا ثورية أو دينية تلفيقية..ومن نافل القول أن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وجد في مناخ المرحلة الجديدة حوافز قوية لتعظيم مساهمة الثقافة الوطنية والمثقفين الوطنيين في الفصل بين سؤال الوحدة ومأزق الأيديولوجيا.
وقد شهدت فترة الثمانينات من القرن العشرين المنصرم تعاظماً ملحوظاً لنشاط حملة الفكر والثقافة والأدب المنضويين في إطار اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي كان أول نواة موحدة للمجتمع المدني المستقل عن حكومتي الشطرين، وأول منظمة اجتماعية غير حكومية تمثل ضمير اليمن الثقافي الوطني في ظل دولتين شطريتين.. حيث حرص الاتحاد على تفعيل الدور الوظيفي للثقافة الوطنية في مواجهة واقع التشطير، وجسد ذلك عملياً في بنيته التنظيمية وأهدافه ووسائله، باتجاه الاستجابة لتحديات الوحدة.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يجد اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في نهج الرئيس علي عبدالله صالح بعد وصوله الى الحكم بيئة مثالية لتجسيد أهدافه، فقد عجز الاتحاد منذ تأسيسه عام 1973م عن عقد اجتماعات هيئاته القيادية المنتخبة في صنعاء بحسب نظامه الداخلي الذي نص على أن الوطن كله لا ا لتجزئة هو ساحة نشاطه، وأن تنعقد اجتماعاته ومؤتمراته في عدن وصنعاء بالتناوب.. ولم يتمكن الاتحاد من فتح مقر له في صنعاء وعقد اجتماعات هيئاته القيادية فيها بصورة منتظمة إلاّ في فترة حكم الرئيس علي عبدالله صالح الذي لم يكتف بتمكينه من ذلك فقط، بل وبتخصيص موازنة سنوية لمناشطه وفعالياته الإبداعية الوحدوية.
ولذلك فقد كان طبيعيا أن يلعب هذا الاتحاد، وأن تلعب الثقافة الوطنية من خلاله، دوراً حيوياً في دعم ومؤازرة مبادرة الرئيس على عبدالله صالح الوحدوية التاريخية التي عرضها على قيادة الشطر الجنوبي من الوطن في أواخر الثمانينات، وتوجت بالتوقيع على اتفاق 30 نوفمبر 1989م، واتفاق 22 ابريل 1990 الملحق بمشروع دستور دولة الوحدة، وصولاً الى إعلان قيام الجمهورية اليمنية والتحول نحو الديمقراطية في الثاني والعشرين من مايو 1990م العظيم.
[email protected]