مصطفى أحمد النعمان -
هيئة حماية الفضيلة: بين الدين والسياسة
اصدر الرئيس هاري ترومان – في العام 1947 – أمرا تنفيذيا رقم (9835) أصبح،بموجيه، كل مواطن أمريكي، عرضة للمساءلة عن نشاطاته وآرائه ونواياه، وتم تشكيل العديد من لجان المراجعة، عُرض عليها كل موظف دارت حوله شبهة الترويج للأفكار الشيوعية.
أُطلق على تلك الحقبة، المكارثية، نسبة الى السناتور "جوزيف مكارثي"، رغم أن الرجل الذي وقف خلف القانون كان "ادجار هوفر" رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI، وتركزت الحملة على العاملين في حقلي الإعلام والفن، الذين صاروا عرضة للمساءلة عن الافكار والنوايا قبل لجان غير حكومية.
أضحى من المألوف أن يُتهم كل من يقف ضد هذه الحملة، بأنه شيوعي أو مُستأجر، وكان مبرر مكارثي، حينها، أن الحزب الشيوعي الأمريكي بلغت عضويته عام 1942م (50000 عضوا)، ما تسبب في ازعاج المتشددين، وزيادة قلقهم، الذي تزامن مع سيطرة الجيش الأحمر في الصين (1949)، وإجراء الاتحاد السوفيتي تجربته النووية الأولى (1949).
لما يكن الخطر الشيوعي بلغ حد الخطر الحقيقي، لكن المكارثيين بالغوا في الحديث عنه، لإفزاع كل من يخالفهم ويعترض على سياساتهم.
خلال الاسابيع الماضية، انشغلت الساحتان الفكرية والسياسية اليمنية، بالجدل بعد اعلان الاستاذين عبدالمجيد الزنداني وحمود هاشم الذارحي، تشكيل ما أطلقا عليه (هيئة حماية الفضيلة)، وهي نسخة مكررة للهيئة السعودية الشهيرة (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). الفارق بين الكيانين، هو أن الأخير كان عملا رسميا ممولا من الحكومة السعودية، بينما الآخر ظهر في اجتماعه الأول، تعاونا بين القوى التقليدية في المجتمع، وغابت عنه الحكومة وكافة القوى السياسية والفكرية الحية، بما فيها قيادات حزب التجمع اليمني للاصلاح الذي ينتمي اليه الأستاذان الزنداني والذارحي.
فكرة (حماية الفضيلة)، اصابها العوار منذ لحظة إنشائها، فقد انبرى الاستاذ الذارحي الى مهاجمة منتقديها، بلغة هي أبعد ما تكون عن الأمر بالمعروف، واستخدم عبارات غير لائقة بشخص ينهى عن المنكر. هذا التصرف أجبر قادة حزبه الإسلامي على التخلي عنه، وتركه مغردا مع نفر قليل من النواب الذين ينتمون الى التيار السلفي المتشدد. بل أن الأخبار التي تسربت تؤكد أن القيادة العليا للتجمع اليمني للإصلاح استنكرت تصرف الزنداني والذارحي، واعتبرته تصرفا فرديا يتحملان تبعاته.
كان موقف حزب الإصلاح، عملا سياسيا موفقا، أعاد الطمأنينة، بأنه قادر على التكيف مع الأوضاع الاجتماعية السائدة، وتقبل اختلاف الرأى، بل وحتى تناقضه، ومثل غياب العالم الجليل الاستاذ ياسين عبدالعزيز القباطي، وكافة قيادات الإصلاح، عن حضور المؤتمر، دلالة واضحة ومؤشرا قويا، على عدم تقبل فكرة الاستاذين الزنداني والذارحي، واعتبارها عملا لا يحمل صفة الاستعجال، كما أنها تدفع الى خلق جو عدائي بين افراد المجتمع اليمني.. وربما كانت بدافع من قوى تريد خلق حالة فصام داخل حزب الإصلاح.
الأجتماع الأول، كما نقلته الصور، جمع نفر من القيادات القبلية والسلفية، لبحث وسائل حماية الفضيلة في المجتمع، وتوالت الخطابات النارية، ما أوحى بأن المدن اليمنية قد تحولت، بين ليلة وضحاها، ساحات للبغاء وحفلات المجون، وانعدام دور الدولة في حماية مواطنيها، بحسب الدستور والقوانين السارية.
لو كان الأمر توقف عند الحديث، عما يراه القائمون على هذا التجمع المثير، لصارت القضية جدلية، وكان من واجب الحكومة – حينها – أن تتصدى بالقول والفعل، ضد التصرفات التي يمارسها مندوبو الهيئة في أكثر من مدينة يمنية، مذكرين بعهد طالبان في افغانستان. لكن العجيب، أن يبادر مواطنون، يزعمون أنهم يريدون فرض السكينة والأمر بالمعروف في المجتمع، بالدعوة الى استخدام القوة العسكرية ضد إخوانهم في صعدة، والتحريض، على مواصلة الاقتتال، بل واعتبار أن وقف الحرب بين اليمنيين – كما جاء على لسان أحد القادة القبليين في هيئة حماية الفضيلة – خيانة وطنية... هل لنا أن نتصور هيئة تنهى عن المنكر، ثم تدعو الى الحرب. (كان الرئيس علي عبدالله صالح، حكيما وسريعا، بالرد على مقررات ملتقى حماية الفضيلة، والإعلان عن انتهاء الحرب، وحقن دماء اليمنيين.. وحسنا فعل القائمون على الهيئة بالتزام الصمت، وعدم إعلان رفضهم لهذا القرار.).
هنا يظهر جليا، أن تحالفا جديدا، بدأ بالبزوغ، بين القوى السلفية المتشددة، وبين بعض القوى القبلية التي تبحث عن تأصيل دورها في المجتمع.. الهدف الغير معلن لهذا التحالف الجديد، هو البحث عن دور إعلامي وسياسي خسره البعض، نتيجة ارتباط اسمائهم بقضايا تتعلق بالارهاب.. كما أن البعض الآخر، ثارت حولهم تساؤلات كثيرة، لدورهم في مشاريع استثمارية، خسر المساهمون فيها مدخراتهم. هناك – ايضا – من تغيرت ارتباطاتهم السياسة بين المغرب والمشرق، ويحتاجون الى سند إعلامي وحامل ديني لمشروعهم.
البيان الذي اصدره المجتمعون في ختام ملتقاهم الاول لحماية الفضيلة، لم يتحدث عن هموم المواطنين، وابتعد عن البحث عن جذور القضايا التي تحدثوا عنها وتركز البيان في معظم بنوده على قضايا انتشار الفاحشة – كما يزعمون، وضرورة انزال العقاب بمن أطلق عليهم الاستاذ الذارحي "الموالعة"... وظهر البيان دعوة الى الدولة، بعدم البحث عن مخارج توقف نزيف الدماء اليمنية، بأيد يمنية.. كما شمل هجوما على كل مواطن مخالف لهم في الرأي، ودعوة صريحة لملاحقتهم.. فهل حماية الفضيلة، تسمح بتكفير المواطنين بخفة واستهتار.. ولعلنا نتذكر ما حدث للشهيد العظيم جار الله عمر، الذي قتله احد ابناء هذه المدرسة التي أنبتت هذا الفكر الغريب والوافد الى اليمن.
حماية الفضيلة في المجتمع، ليست مسئولية اي جماعة، مهما بلغ شأنها، ومهما بلغ حجم مناصريها.. الدولة وحدها، وبدستورها الساري، هي صاحبة الحق المطلق في فرض القوانين التي تحمي المجتمع من الوقوع في الرذيلة، وتجفيف اسبابها، والبحث في طرق معالجتها.. عدا ذلك يكون الأمر شريعة غاب، ينطلق فيها الذئاب لتصفية حساباتهم، والتخلص من معارضيهم، ومنتقديهم.
لا شك أن الأستاذ الزنداني، سيدرك أن البعض قد جره الى موقع هو في غنى عن خوض غماره، خصوصا وهو يتعرض الى حملة خارجية لم تتوقف، ولا يزال يعاني من آثارها. ومعرفتي به، تجعلني على يقين من أنه سينأى بنفسه عن هذه التجربة التي أثبتت فشلها في اقطار، تعمل الحكومات فيها على تجفيف جذورها، والتقليل من قسوة مخالبها.