الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 12:48 ص
ابحث ابحث عن:
قضايا وآراء
الأحد, 10-أغسطس-2008
المؤتمر نت - أحمد الحبيشي أحمد الحبيشي* -
بين عقل القيسي و صراخ حملة المباخر (7 ـ 7)
في الحلقة الأولى من هذا المقال، أشرتُ إلى الهجمة المسعورة التي تعرض لها الباحث الإسلامي (عصام القيسي) على أيدي بعض رموز الحرس الكهنوتي القديم في حزب التجمع اليمني للإصلاح، وأتباعهم من حفظة التعاويذ وحملة المباخر والأيقونات في أكليروس الإسلام السياسي باليمن . وأوضحت في تلك الإشارة السريعة أنّ محنة (عصام القيسي) لا يمكن فهمها خارج سياق النقاش الذي احتدم في المجتمع بعد إعلان عدد من رموز الحرس الكهنوتي القديم في حزب ((الإصلاح)) وجامعة الإيمان عزمهم على إنشاء محكمة تفتيش دينية في عدن برئاسة أحد رجال الدين من أعضاء الهيئة العليا لحزب ((الإصلاح)) على أنْ يختار بنفسه أربعة من رجال الدين، بالإضافة إلى تشكيل هيئة لحماية الفضيلة ومحاربة المنكرات، ستكون مهمتها ممارسة الوصاية والرصد والملاحقة لأجهزة الدولة ومنظمات المجتمع المدني والمواطنين رجالاً ونساءً بهدف إحالة الفاسدين والمارقين منهم إلى محكمة التفتيش الدينية، على نحو ما أوضحه بكل صراحة ووضوح مدرس (الأصول) في جامعة الإيمان الدينية، في مقابلة صحفية مع جريدة ((إيلاف)) الأسبوعية.

ولحسن حظ الباحث الإسلامي (عصام القيسي) ولحسن حظ الرافضين لمشروع هيئة (الأمر والنهي) الذي سعى إليه الحرس الكهنوتي القديم في حزب ((الإصلاح)) وجامعة الإيمان ما لاحظناه من ترابط وثيق بين الخطاب الديني الذي رافق حملة الدفاع عن ذلك المشروع الاستبدادي القمعي ، وبين الهجوم على الباحث الإسلامي عصام القيسي، والذي وصل إلى حد المطالبة الصريحة بإهدار دمه بعد أنْ عجز مخالفوه عن مناقشة أفكاره وآرائه الجريئة والشجاعة، حيث لم يكن أمامهم سوى وضع (القيسي) وكل من يسير على نهجه العقلي النقدي من الكُـتـَّاب والصحفيين أمام خيارين قاسيين هما : (الصمت المحقق للنجاة أو الموت.. لأنّ مقتل المرء بين فكيه ) بحسب تهديد ارهابي كتبه (الشيخ) محمد الحزمي خطيب جامع الرحمن في العاصمة صنعاء، وعضو مجلس النواب عن حزب ((الإصلاح)) وأحد أبرز الداعين إلى تشكيل هيئة ((الأمر والنهي)) سيئة الصيت والسمعة ونشرته صحيفة ( الأهالي ) القريبة من حزب ( الاصلاح ) !!

كان واضحاً من الطابع الهيستيري لردود الفعل على آراء وأفكار (عصام القيسي) أنّ خصومه منغلقون على نمط سلفي وماضوي من المخرجات الففهية التي تندرج ضمن التراث بما له وعليه، ما جعل اطلاعهم على آراء القيسي صدمة شديدة اصابتهم في منطقة اللاوعي التي أدمنوا على الإقامة الدائمة والمزمنة فيها ، وإعادة إنتاج ما ألفوا آباءهم على ترديدها ، مع أنّ (القيسي) في تقديري الشخصي لم يقل جديداً، بل سبقه في طرح تلك الآراء والأفكار والأسئلة عدد كبير من الفقهاء والمفكرين الإسلاميين منذ عصور الأسلاف وحتى العصر الحديث وأيامنا الراهنة .

نعم كانت أراء وأفكار (القيسي) صدمة قوية لرجال الأكليروس في حزب ((الإصلاح)) وكهنة جامعة الإيمان وأتباعهم من حفظة التعاويذ وحملة المباخر والإيقونات وكل من يرفض إعمال العقل، في التراث الفقهي.. فقد نفى ((القيسي)) وجود ناسخ ومنسوخ في القرآن وحكم الردة ورجم الزاني، وتجسيم صورة الله وغير ذلك من المعتقدات اليهودية التوراتية والنصرانية.


وزاد من قوة الصدمة التي أحدثها (القيسي) في لا وعي مخالفيه أنّه استنكر ــ وهذا حقه ــ رفع كتاب صحيح البخاري إلى مصاف كتاب الله كشريك ومكمل له في المسائل التي لا تدخل فقط ضمن أصول الشريعة بل وضمن أصول العقيدة نفسها التي اختص بها القرآن الكريم وحده، باستثناء العبادات، والمعاملات التي يجوز الاجتهاد فيها في كل العصور دونما حاجة إلى اختزالها في كتاب بشري يتم إضفاء القداسة عليه، ورفعه إلى مصاف القرآن الكريم الذي ما فرط الله فيه من شيء، بما هو كتاب الله المقدس عند المسلمين.

وكان رأي (القيسي) أنّ ذلك نوع من الشرك، وخروج صريح وسافر عن تعاليم الله الذي نهى المؤمنين في القرآن الكريم عن اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، وحذرهم قائلا ً : ( لّقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ) (المائدة 73). أي أنهم يجمعون في نسق واحد كلا من الله ورسوله المسيح وكتب القديسين الذين يمثلون الكهنوت في المسيحية ، بذريعة أنّ المسيح استودع الحواريين والرسل روحه القدس ثمّ أورث من بعدهم القديسين ورجال الدين بعضاً من روحه القدس التي أسكنها الله في جسد المسيح، بحسب العقائد الكاثوليكية والأرثوذكسية والنسطورية واليعقوبية باستثناء البروتستانتية الإنجيلية.. بمعنى أنّ المسلمين الحقيقيين يجب ألا يقعوا في الخطأ الذي ارتكبه من قالوا أن الله ثالث ثلاثة ، وألا يعتبروا الله الواحد الأحد ثاني اثنين (كتاب الله وكتاب البخاري) قياساً على النهي الإلهي في القرآن.

تحدث القيسي كثيراً عن إشكاليات تدوين الحديث وخدعة التواتر وتساءل عن مدى توافر صفة العدول في بعض الصحابة الذين تآمروا وكذبوا على بعضهم البعض ثم تقاتلوا وتناحروا وأراقوا دماء المسلمين رجالاً ونساء وأطفالاً في معارك من أجل السلطة والثروة وتصفية الحسابات القديمة والجديدة . وطالب (القيسي) بإعمال العقل في تحليل وقائع التاريخ ، حتى لا يتم تسطيح أو تزييف الوعي نافياً أنْ يكون هناك تعارض بين العقل المحكم والنص المحكم والواقعة الثابتة.

وإذ يعترف (القيسي) بأنّ ثمة تناقضاً قد يحدث فعلاً بين العقل المتشابه والنص المتشابه لكن ذلك لا يبرر الدعوة إلى إسقاط سلطان العقل في فهم النصوص.. ولذلك يرى القيسي بأنّ المرجعية هي المحكم من النص والعقل وكلاهما من عند الله الذي أنزل الكتاب والميزان معاً، بمعنى الكتاب والعقل وليس العدل كما توهم المفسرون .. لأنّ الميزان بحسب ما يراه القيسي آلة والعقل آلة أيضاً بينما العدل نتيجة، ولذلك فإنّ القيسي يعتبر أي جهد يسهم في تسطيح العقل الإسلامي جهداً يخدم العدو، وينتج ثقافة سطحية تقوم على الحفظ والتلقين والترديد ، لا على النقد والتحليل والتمحيص، كما أنّها تأخذ الانسان المسلم في رحلة أفقية من المعرفة تشبه أفقية الصحراء التي جاء منها الفكر البدوي الوهابي، وتحرمه من الممارسة العمودية في إنتاج المعرفة حيث يتوجب استخدام العقل للتحليل والغوص في طبقات وأعماق المعرفة.

من نافل القول أن الذين هاجموا الباحث عصام القيسي لم يناقشوه،بل اكتفوا بإطلاق تهمة ((إنكار السنة)) في وجهه، وهي التهمة نفسها التي تعرَّض لها من قبل كل من الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي والشيخ محمد الغزالي على أيدي فقهاء نجد الوهابيين الذين لم تعجبهم آراء وأفكار القرضاوي والغزالي التي بدت غير مألوفة حول المرأة ، خصوصاً وأنّ صحة الحديث النبوي عند الوهابيين وفقهاء الحديث عموما ، تتحدد في السند، وليس في المتن حتى وإنْ كان مضمون المتن مخالفاً للقرآن ولا يستجيب لميزان العقل ولا يحقق مصلحة في الواقع.

وما من شك في إنّ ((عصام القيسي)) كان موفقاً حين وصف تهمة ((إنكار السنة)) بأنّها نوع من الخداع اللفظي، مشيراً إلى أنّ السنة منهج وفعل متكرر ومتوازٍ، أما الحديث فهو كلام يندرج ضمن السيرة النبوية ولا عَلاقة له بالوحي. لأنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل في يوم من الأيام أنّ كلامه من الوحي ، وإنّما قال عكس ذلك ، بحسب ما ورد في البخاري ومسلم، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الرسول نهى عن كتابة الحديث في حياته، كما نهى الخلفاء الراشدون عن تدوين الحديث بعد وفاته، ناهيك عن أنّهم أحرقوا ما تمّ تدوينه حتى لا يختلط بالقرآن أو لا يُشرك به على نحو ما حدث في الديانتين اليهودية والمسيحية ، وعلى نحو ما حدث بعد احتراب الصحابة والتابعين على اثر انقسامهم الى ملوك ورعية وفرق وطوائف !!؟؟

وبهذا الصدد يتساءل (القيسي) كما تساءل غيره من قبل عن مصير أكثر من خمسمائة خطبة جمعة للنبي عليه الصلاة والسلام .. ولماذا لم يأمر النبي بكتابة كلامه إذا كان وحياً؟ ثمّ ماذا يتبقى من بشرية النبي إذا كان كل نطقه من الوحي ؟

وتصل تساؤلات القيسي ذروتها عندما يسأل مخالفيه الذين هاجوا وماجوا واصطرعوا كالدواشين والدراويش في وجهه قائلاً لهم :

((كيف تفسرون آيات العتاب التي وجهت للنبي مثل ((عبسَ وتولى)) وغيرها.. ألا تدل هذه الآيات على أنّ النبي كان يجتهدُ فيصيب ويخطئ، بل أنّ الله سبحانه وتعالى تاب على النبي وصحابته بعد أن كادت قلوب بعضهم تزيغ : ( لَقَد تابَ اللَّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) سورة التوبة الآية 117.

اعترف بأنني فوجئت عندما علمت بأنّ عصام القيسي كان من المتشددين الإسلاميين وله مواقف لا تميزه عن ضحايا المدارس الدينية التي أفرزت شباناً متطرفين من نمط ((طلبة العلم)) الذين أقاموا إمارة ((طالبان)) بكل ما انطوت عليه من ممارسات مسيئة للدين وجرائم معادية للإنسانية.

بيد أنّ هذه المفاجآت تبددت عندما لاحظت أنّ التحول الذي حدث في فكر الباحث الإسلامي عصام القيسي يعود إلى أنّه يشتغل في البحث العلمي على أدوات التفكير النقدي الذي يجعله مقيماً في منطقة الوعي بدلاً من التفكير النقلي الذي يكرس تغييب العقل في منطقة اللاوعي .. ولعل ذلك ما يفسر الرغبة التي أبداها القيسي في حواره مع صحيفة ((إيلاف)) .. (العدد 34 الصادر في 15 أبريل 2008م)، حين تمنى أنْ يكون كل الناس علماء، مبدياً تحفظه على من يسميهم بسطاء الناس في مجتمع يسوده الجهل والأمية ((علماء)) !! حيث وصفهم بأنّهم نسخ مكررة من التقليد، وهو ما دفعه إلى القول بأنّ المشهد الفقهي اليمني سيء جداً، لأن حياتنا العقلية الإسلامية تعاني من ضمورٍ حاد، من أبرز أعراضه الخطيرة أنّ بلداً يضم أكثر من عشرين مليوناً من البشر، ليس لديه مفكر اسلامي واحد مسموع الصوت في الأوساط العلمية، بينما دولة مثل البحرين في حدود مساحة وسكان حي الصافية بالعاصمة صنعاء لديها أكثر من مفكر اسلامي، وحتى الدول الأشد فقراً منا تتباهى بعدد من المفكرين الاسلاميين لا تمتلك بلادناً واحداً يشبههم !!

ويعيد القيسي هذه الإشكالية إلى أنّ كمية المسلَّمات في العقل اليمني لا شبيه لها في أي مجتمع حيوي. فهناك مسلمات النص الديني الحقيقي والمفتعل، ومسلَّمات النص الاجتماعي من عادات وتقاليد قبلية وبدوية ، بالاضافة الى مسلّمات النص السياسي، مشيراً إلى أنّ كل ذلك مدعم بتركة طويلة من الجهل والتخلف والاستبداد والأحادية.

وبحسب القيسي، فإنّ تراكم هذه المسلّمات يؤدي إلى تقليص مساحة الحرية في النشاط العقلي ومساحة الإبداع في مخرجاته الفكرية، لأنّ العقل كالحصان لا ينشط إلا في مضمار الحرية، التي هي مضمار العقل.. ولذلك يبدي القيسي أسفه للتركة الهائلة من المسلَّمات التي ورثتها ما أسماها (الجماعات الإسلامية)، ولعله يقصد بها جماعات الإسلام السياسي، حيث كان المفترض أنْ تعطي هذه الجماعات جانباً كبيراً من جهدها لفقه المراجعات بدلاً من استغراقها في تصدير النسخ القديمة والمشوهة من مخرجات الفقه الإسلامي، كما فهمه السلف.. بيد أنّ القيسي يصدمنا بعد كل هذا التحليل الرائع بالتعبير عن أسفه لضياع مشروع الأخوان المسلمين الذي قال إنّه تعرض للخطف من قبل التيار السلفي وهو ما نختلف فيه معه على نحو ما سبق لي أن اوضحته من حقائق وأدلة في مقالات عديدة كتبتها حول الاخوان المسلمين ولا أعتقد انه من المناسب إعادة شرحها .


الحق أقول إنني تابعت بدقة كل تفاصيل ووقائع الجدل الذي دار على تربة الأفكار التي طرحها عصام القيسي وفاجأ بها اللاعقل السائد في حزب التجمع اليمني ((للإصلاح)) الذي ينتمي إليه وتربى في أحضانه منذ أنْ كان إخوانياً متشدداً.

ولئن كنت قد وجدت أفكاراً تستحق النقاش المعمق من جانب القيسي، لكن الذين هاجموه لم يناقشوا أفكاره، ولم يقدموا سوى الشتائم والهجاء نثراً وشعراً، حتى بدوا وكأنّهم في حفلة زار، يرتفع فيها صراخ الدواشين والدراويش وحملة المباخر، فقدموا بذلك دليلاً إضافياً على صحة قوله بأنّ المشهد الإسلامي اليمني من أسوأ المشاهد بسبب ضمور الحياة العقلية الإسلامية في هذا البلد الذي يعيش حالة اشتباك مزمنة بين مسلّمات النص الديني المنقولة خارج نطاق العقل من جهة وبين مسلمات النص الاجتماعي بما ينطوي عليه من عادات وتقاليد قبلية وصحراوية ويدوية متخلفة.

الثابت أنّ القيسي لم يكن وحده الذي حاول التمييز بين السنة القولية والسنة الفعلية، فثمة فقهاء ومفكرون مشاهير قالوا إنّ السنة بطبيعتها فعلية ولا تكون قولية ، فيما ذهب كثير من الفقهاء والمفكرين إلى القول بأنّ الاشتباك والخلط بين السنة (القولية) والسنة (الفعلية) يعودان إلى العهد الذي تحولت فيه الخلافة الى ملك عضوض عندما لجأ معاوية بن أبي سفيان إلى بث القصاص في المساجد وعلى رأسهم كعب الأحبار، ما أدى إلى فتح باب التلبيس والتدليس أمام القـُصّاص وما جاءوا به من أحاديث الرقاق وأحاديث الوضّاعين، التي فتحت المجال واسعاً لظهور إشكاليات وتشوهات وتناقضات وآلام وأوجاع وحروب داخلية وثورات سياسية أرهقت التاريخ الإسلامي وصبغته بالدماء.

لا ريب في أن جزءا َ كبيرا ً من الإشكاليات التي طرحها الباحث الاسلامي عصام القيسي يحتاج إلى نقاش معمق و هادئ بدلاً من الشتائم والتهديد والوعيد وقصائد الهجاء التي قرأناها في كل من صحيفة ( ايلاف ) وصحيفة ( الأهالي ) وصحيفة ( الناس ) وصدع بها رؤوسنا خصوم القيسي من كهنة حزب ((الإصلاح)) وحملة أيقوناتهم ومباخرهم .. ولعل هذه الإشكاليات تعود إلى أنّ قسماً كبيراً من مسانيد السنة القولية ينطوي على ما يوجب تحريماً أو تحليلاً لم يأتفي القرآن ، أما الجزء الأعظم من الأحاديث فقد أظهر أكثر الحقائق السلبية في المجتمع الإسلامي مثل ضعف المعارضة السياسية وغياب المرأة من المجتمع وحرمانها من العلم والمعرفة والتضييق على الفنون والآداب بما هي أبرز وسائل التعبير عن تجليات النفس الإنسانية ، الأمر الذي جعل صورة الإنسان المسلم تبدو قاسية ومنغلقة وطقوسية سواء عند أتباع طائفة السنة أوأتباع طائفة الشيعة.

صحيح أن الأستاذعصام القيسي حاول التمييز بين الوحي القرآني والحديث النبوي الذي لا يسنده وحي، دون أن يتوسع كثيراً في هذا الجانب..لكنه من الصحيح أيضا أنه كان سيتوسع في تحليل هذه الاشكالية لو كان خصومه قد ناقشوه بموضوعية وساعدوه على تجاوز هذه الفجوة، لكن ذلك لا ينفي أن القيسي كان يدرك جيداً أنّ الرسول لم يقدم في حياته اجابات سريعة ـــ على نحو ما توحي به كتب الحديث ـــ ليس فقط على أسئلة الحياة بل على أسئلة بعض الناس ، مثل تلك المرأة التي جادلته في زوجها وسمع الله تجادلهما وأنتصر لرأيها على رأي الرسول، بل وجعل من رأيها تشريعاً عاماً.. ناهيك عن أنّ 323 آية قرآنية تبدأ بكلمة (قل) .. رداً على أسئلة كانت تواجه النبي سواء في الحياة أو من الناس ولم يكن يملك الاجابة عليها . ثمّ يأتي الوحي ليقدِّم له الإجابة سواء في مجال التشريع أو في مجال المعاملات والأخلاق والقيم وغيرها من مقاصد الدين.

ولئن كنا قد خسرنا من المواجهة بين القيسي وخصومه نقاشاً نحتاج اليه كثيراً لإغناء المعرفة وإثرائها، إلا ّ أنّ تلك المواجهة على ديموغاجيتها ــ وخاصة من جانب خصوم القيسي ـــ أعادت طرح عدد من الإشكاليات التي سبق أنْ طرحها العديد من الفقهاء والمفكرين الإسلاميين وأبرزهم الإمام محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا والشيخ محمد الغزالي والأستاذ جمال البنا ومنها على سبيل المثال لا الحصرنواهي الرسول الحازمة عن كتابة الحديث النبوي بشكل عام، فيما كان تصريحه لعبدالله بن عمرو بن العاص لكتابة إحدى خطبه هو الاستثناء ، مع الأخذ بعين الاعتبار تشديد الرسول عليه الصلاة والسلام في القول: (ما أتاكم يوافق القرآن فهو مني، وما أتاكم يخالف القرآن فليس مني).بالاضافة الى قيام الخليفة أبي بكر الصديق بإحراق كل ما لديه ولدى الناس من أحاديث مدوَّنة. وإصرار الخليفة عمر بن الخطاب الصريح والحازم على منع تدوين الحديث حتى لا يلتبس بكتاب الله أو يُشرك به. ثم يأتي بعد ذلك توجيه الخليفة عثمان بن عفان كافة المسلمين الاقتصار في الأحاديث على ما كان معروفاً أيام أبي بكر وعمر، وتنديد الإمام علي بن أبي طالب بالذين يخوضون في الأحاديث ودعوتهم للاقتصار على القرآن . بالاضافة الى رفض الصحابة الذين رووا الأحاديث أنٍ تكتب أحاديثهم حتى لا تصير مصاحف أرضية تجاور المصحف المنزل من عند الله وإنْ أجازوا لمن سمعها أنْ يرويها.


في ضوء ما تقدَّم يمكن القول إنّ أهم ما نستخلصه من هذه الإشكالية أنّ الرسول والخلفاء الراشدين والصحابة أجمعوا على الخوف من التباس القرآن بالحديث وهو ما حصل فعلاً بعد أكثر من مائتي عام بعد وفاة الرسول حيث جاء الوضاعون بأحاديث تخالف أحكام القرآن قال فيها ابن حزم ((ليس في الحديث الذي يصح شيء يخالف القرآن)).

ويبقى القول أن الأحاديث المنسوبة الى الرسول عليه الصلاة والسلام من قبل رواة نسبوها الى رواة آخرين ماتوا قبل عشرات السنين وربما أكثر من ذلك ، تنقسم باجماع فقهاء الحديث ــ من حيث السند وليس المضمون ـــ إلى أنواع متوالية بين متواترة وأحادية... وكل من هذه المتواليات يتوزع هو الآخر بين صحيح وحسن وضعيف . وبوسع كل من يتأمل ويحلل كلام فقهاء الحديث ملاحظة انهم كانوا يكرون ويفرون في إنكار وإثبات بعضها من خلال تصحيح أحاديث وإنكار أخرى.. فما من حديث صحيح عند فريق من فقهاء الملوك والسلاطين إلا وتجده ضعيفا عند فقهاء الأمة، والعكس صحيح أيضا ، وذلك من خلال التحسين أو التضعيف التدريجيين حتى يصبح الحديث المنسوب الى الرسول صحيحا ً أو ضعيفا، الأمر الذي دفع بعض الباحثين والمحققين الى القول بأن ما يسمى (علم الجرح والتعديل س) أصبح على مقربة من فنون البحث عن ذرائع البراءة والادانة بواسطة الاشتغال على فنون التضعيف والتصحيح لإعدام حديث ما وتبرئة آخر ، على نحو ما يفعله وكلاء الادعاء و المحامون الذين يتبارون في ساحات القضاء بحثا عن ذرائع ودلائل لإدانة شخص وتبرئة آخر، وهو ما لا نجده في القرآن الكريم الذي نقله الينا رسوله الكريم وحده ، وتم تدوينه في حياته وليس بعد مماته .

ولئن كان المسلمون قد تصارعوا وانقسموا الى فرق ومذاهب وطوائف على تربة الاختلاف حول الحديث ، حيث تحتفظ كل طائفة بمسانيدها الخاصة بها التي تتوزع بين منظومة من كتب الحديث يتقدمها( صحيح البخاري ) عند أهل السنة ومنظومة موازية لها ويتقدمها ( صحيح الكافي ) عند أهل الشيعة ، وكل بما لديهم فرحون ، لكن المسلمين باختلاف أعراقهم و فرقهم ومذاهبهم وطوائفهم يتوحدون حول القرآن الكريم الذي لا يختلف حوله إثنان بما هو كتاب الله القائل : ( ما فرطنا في

الكتاب من شيء ) والقائل : (فبأي حديث بعده يؤمنون ) صدق الله العظيم.. والعاقبة للمتقين .

-------------------------------------

* عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )




أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر