زعفران علي المهنا -
لا تغضــب منـــــي!!
في أعماق نفسي صرخة ترفض ذبذبات صوتي أن تترجمها إلى حروف فتأخذ السطور لها ثوباًَ بعد دمجها مع الحبر على الورق، وفي أعماق نفسي صرخة تحيط بكياني كغلاف ناري؛ فكيف أتنهدها وأنا أخاف على دقائق الأثير منها، كيف أتنهدها وقد جثمت على قلبي، وتقرحت أجفاني من حرارتها، وتكاد تقضي على ضلوعي؟!.
فأنا أكتب إليك الآن يا فخامة الرئيس؛ لأنني أصبحت كالطفل الجائع الفقير عندما تدفعه مرارة الجوع أن يستغيث غير آبه بفاقة أمه وانكسارها، فتكرم بقراءة قصتي الموجوعة؛ لأنها متصاعدة من أعماق نفس حية ومؤمنة.
فقد شاءت الأقدار أن تتوفى زوجتي تاركة لي ثلاثة نجوم.. صممت أن أعوضهم يُتم أمهم بأن أصنع منهم أقماراً تضيء سماء كياني، فوقعت مع أحلامي ضحية موروث خاطئ أكرهه لا يمتُّ إلى ديننا بصلة، وفريسة بين أظافر مؤامرة لا أدري كيف أسبغت عليها طوق الرضا فخنقتنا في إطارها؟!.
لا تغضب مني يا فخامة الرئيس، فأنا لست من دهاة المعارضة السياسية لأمتلك أسرار مفاتيح الخطاب السياسي، ولا أنا من أولئك المرتزقة الخونة فأبذل المال والسلاح لتصلك رسالتي؛ ولكني أنا ذلك الـ (علي) الذي يقطن أعالي الجبال؛ نقي القلب، أبذل النفس والمال في سبيل سعادة أسرتي؛ فكان ذلك اليوم الذي ذهب به ابني إلى المدينة ليلتحق بالجامعة، وكل الجامعات لدي في بلدي سواء ما دامت تحت سماء وطني، وضاعت كل الآمال بأن يعود ذلك الشيخ الفتي الذي يجدد الإيمان في قلوبنا، ويعتلي منبر الجامع في قريتنا، ويخطب في الناس بعد أن أجمع الناس على عذوبة صوته في تلاوة القرآن الكريم حين كان يؤمهم في الصلاة، فكان حرصي أن يُكمل هذه النعمة الإلهية بالفقه الديني، وعلى نفس الخط سعيت أن تكون أختاه؛ فتلك قابلة، والأخرى مدرسة لأولاد وبنات قريتنا.
فما أجمل يا فخامة الرئيس أن تمارس دورك في الحياة فتتقن الأداء وتتقن الدور وتقف بكامل فرحتك في انتظار تصفيقهم الذي يمنحك قلادة الجدارة؛ وأنت تشعر بأنك الشخص المرموق بين أهلك؛ ليس لأني شيخ القرية، ولا لأني حزبي كبير فيها، ولا مذهبيتي طاغية عليَّ، ويستحيل أن أكون ممن يتاجرون بالسلاح؛ ولكن لأنني وسط كل هؤلاء أقود أسرة متعلمة تقوم بدورها على أكمل وجه، فما أمر يا فخامة الرئيس عندما تكتشف بعد كل هذا أنك كنت تؤدي دورك في حكايات أنت بطلها الوحيد؛ بعد أن دخل ولدي الشيخ الفتي ذو الصوت الملائكي والقلب المؤمن، والعقل السليم وسلّمني تلك الفتوى التي صدرت باسم علماء اليمن ليهدّوا ما بنيته بسنين في لحظة مخاطباًَ: لقد أخطأنا كثيراً يا والدي...!!!.
حاولت أن أتعمق في عينيه التي بدت غريبة لأول مرة، لم يدع لي فرصة للرد أو السؤال وهو يكمل حديثه: نعم أخطأنا كثيراً حين ظننا أن تعليم أخواتي البنات خير؛ وهو الشر بعينه، لقد أخطأنا كثيراً يا والدي حين ظننا أن خروجهن للعمل خير وهو الشر بعينه!!.. لقد أخطأنا حين غرسنا فيهن حب العلم والعمل..!!!.
بنبرة مفجعة قرأ على مسامعي قراره الذي لا يقبل النقاش بأنه يجب أن نكفّر عن هذا الخطأ بلا تردد؛ ونعود بهن إلى البيت، لأول مرة اكتشف أن صوت ولدي أجش ومتضخم بحجم الفجيعة، فحاججته بجدته التي كانت تأتي بالحطب من أعالي الجبال لوحدها منفردة، وبأمه التي كانت تأتي بالماء من الوادي الخاص بقريتنا، وبعمّته التي تبيع المحصول في سوق قريتنا، ما الفرق بينهن وبين أختيه المتعلمات والعاملات ضمن هذه المنظومة في قريتنا الكل يعمل من أجل صالح قريتنا.
وهو أصم لا يسمع، ولا يرى إلا تلك الفتوى التي وقّع عليها كل علماء اليمن إن صح التوقيع أصلاَ، فتولّد لدي خياران إثنان لا ثالث لهما؛ إما أن أحمي بناتي وأضحّي بسند ظهري.. أو أكسرهن لأفوز برجل الأسرة الشيخ الفتي.. وكان الخيار الأول.
فنتج فراق بيني وبين فرحة قلبي، وبرغم مضي أشهر على رحيله مازلنا نعيش أنا وأختاه حزن اليوم الأول، وصدمة اليوم الأول، وذهول اليوم الأول، ومازال في خواطرنا انكسار عظيم ليس بيني أنا وأختيه فقط، ولكن ضم الانكسار أهل القرية التي انقسمت إلى فريقين.. فريق مؤيد أخرج بناته من المدارس، ومنعهن من الذهاب للمراكز الصحية، وزج بهن للعمل بجانب الرجل في جني المحاصيل.!!.
وفريق وهو الأضعف معارض يتم اتهامه بالخروج عن الدين، ومخالفة الإرادة السياسية، والأعجب أن الفريق المؤيد مازال يطلب بنتي القابلة لتساعد نساءهم في أجمل لحظات الأمومة وأقساها.
يا فخامة الرئيس.. إن كل أهل قريتنا يؤمنون بأن أية فكرة تتبناها هي الصح؛ لذا أنا أطلب منك أن تحدد موقفك من هذه الهيئة التي أدخلت الظلام إلى قريتنا بعد أكثر من أربعين عاماً، وأنقل إليك كل أصوات النساء المكلومات لاستحالة وصول صوتهن إليك، وقد خنقوهن بهذا الإطار، وتلك الفتوى.. تحت تلك الهيئة، عبر رموز دينية يحبونها ولا يقبلون فكرة بأن الاختلاف معهم وارد، وأن المصيب له أجران، والمخطئ له أجر، فكانت هذه قاعدتهم التي انطلقوا منها في إصدار الفتاوى!!.
فيا فخامة الرئيس.. إني أعتذر لك؛ لأني أكتب لك وأنا..
في قمة جنوني لأني فقدت ابني..
وفي قمة خوفي؛ لأني إذا لاقيت ربي آل أمر بناتي لأخيهن..
وفي قمة قسوتي حين طردت ابني.