أحمد الحبيشي -
الرئيس علي عبدالله صالح .. خطاب ثقافي جديد
من حق الزملاء في دائرة التوجيه المعنوي وصحيفة ( 26 سبتمبر) ، أن نشكرهم على هذه الندوة التي يحتضنها معرض صنعاء الدولي الخامس والعشرين للكتاب بمناسبة صدور الطبعة الثانية والمنقحة من كتاب ( قائد ووطن ) .
ومن حق معرض صنعاء الدولي للكتاب في دورته الخامسة والعشرين علينا بما هو حدث ثقافي نوعي بامتياز ، أن ننظر إلى السيرة السياسية والانسانية للرئيس علي عبدالله صالح من خلال الأبعاد الثقافية لمعطيات هذه السيرة الوطنية والإنسانية في السياق التاريخي لمسار تطور الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة التي جاء منها الرئيس علي عبدالله صالح قائدا ً وإنسانا ًيلتزم يسترشد بمبادئ وقيم الحرية والعدالة والمواطنة والمساواة ، ويناضل من أجل وطن متحرر من رواسب الاستعماروالتخلف والظلم والاستبداد .
يفترض كاتب هذه الورقة ـــ إستناداً إلى معطيات سياسية ذات أبعاد ثقافية ـــ إن الثلاثينات شكلت الميلاد الحقيقي للحركة الوطنية اليمنية المعاصرة .. ولمّا كان وعي شروط الحرية لا يمكن أن يتم بدون وعي شروط الاستبداد، فإننا لانبالغ حين نقول إن بدايات انبعاث الوعي الوطني في اليمن ، ارتبطت بالدور الذي لعبته مجلة “الحكمة” - التي أصدرها الشهيد أحمد عبد الوهاب الوريث عام 1938م وأغلقها النظام الإمامي الاستبدادي عام 1948م - في تأسيس ثقافة وطنية جديدة، تفاعلت فيها أشكال الإبداع الفكري والأدبي المتنوعة باتجاه إنتاج المعرفة بالواقع واكتشاف محدداته ، وبلورة سبل تغييره ، واستشراف آفاقه.
والثابت أن القيمة التاريخية للفكر والأدب والفن تكمن في التأثير الذي يلعبه الإبداع الفكري والأدبي والفني في تشكيل الوعي الاجتماعي بصورة مستقلة عن تأثير بقية عناصر البناء الفوقي لأي مجتمع، وفي مقدمتها سلطة الدولة، الأمر الذي يجعل وظيفة الفكر والأدب والفن مجالاً ــ مستقلاً ــ لعلاقة حركية تتسم بالنشاط الواعي والهادف بين الإنسان والواقع ، سواء تم ذلك بمعزل عن البناء الفوقي للمجتمع ، أو بالتفاعل معه في حالة وجود مشروع وطني للتغيير تـلعب فيه الدولة والمجتمع دوراً محورياً .
لعبت مجلة “ الحكمة” دوراً غير مسبوق في صياغة اتجاهات الفكرالسياسي اليمني ، على طريق تأسيس مشروع وطني للتغيير في اليمن .. وعلى صفحاتها شهدت اليمن صعود كوكبة لامعة من المفكرين والأدباء والكتاب الذين أحدثوا في المجتمع حراكاً فكرياً وثقافياً ، من خلال نشرعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات التي عكست الميول الفكرية التنويرية للمعارضة الوطنية، وسلطت الضوء على نشوء وتطور الأفكار الدستورية في العالم ، وأدت قسطها في نشرأفكار الروّاد الأوائل لحركة التنوير الإسلامية أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، الى جانب نشر القصائد التي أيقظت الوعي الوطني ، وبشرت بأفكار وبقيم الحرية والعدالة، الأمر الذي مهـّد الطريق لظهور الدعوة الى تطبيق الدستور في اليمن ، والمطالبة بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية تحد من الاستبداد والتخلف والفقر والمرض والعزلة .
في هذا الاتجاه تفاعل الفن اليمني من خلال الغناء والموسيقى مع الحراك الثقافي الذي دشنته مجلة “الحكمة” في تلك الفترة، حيث تحولت القصائد المشبعة بالمضامين النقدية المباشرة وغير المباشرة إلى أعمال غنائية أسهمت في تعميق الوعي الاجتماعي بضرورة التغيير وحرضت المجتمع للكفاح ضد الظلم والطغيان.
أسفر البعد السياسي للحراك الثقافي الذي أوجدته مجلة “ الحكمة“ ، عن ميلاد المثقف العضوي من خلال إشهار عشرات المفكرين والشعراء الذين آمنوا بمبادئ الحرية ، ونشروا أفكار الإصلاح والتغيير ، ثم تحولوا الى قادة للرأي في المجتمع ، من خلال تأسيس و إنشاء الجمعيات والهيئات الثقافية والإجتماعية ، بهدف الدعوة الى الإصلاح .. وبسبب نشاطهم سيق بعضهم الى ساحة الإعدام ، فيما سيق آخرون الى السجون .
من نافل القول ان مجلة “الحكمة” لعبت دوراً بارزاً في تشكيل مناخ فكري قامت على تربته ثورة 1948م الدستورية .. وليس صدفة أن يتزامن إغلاق مجلة “ الحكمة “ مع قيام هذه الثورة التي أدى فشلها إلى انتشار موجة واسعة من الإعدامات والاعتقالات وحملات القمع والتنكيل بنجوم الحرية وروادها الأوائل ، وبضمنهم رئيس تحرير “ الحكمة “ الشهيد الخالد أحمد عبدالوهاب الوريث، بالإضافة إلى إصدار فتوى بتحريم الغناء والعزف على العود والآلات الموسيقية ومنع المواطنين من إستخدامها في الأفراح ، وكانت تلك الفتوى تستهدف إغلاق كافة المنابع التي أسهمت في تكوين ثقافة وطنية تحررية تنطوي على نقد الأوضاع السائدة والدعوة الى تغييرها .
و الثابت ان هذه السياسة القمعية كادت أن تقضي على التراث الغنائي الصنعاني المشهور، لولا انتقال الأغنية الصنعانية إلى مدينة عدن التي يعود إليها الفضل في المحافظة عليها بواسطة عدد من الفنانين الذين عملوا على نشر الأغنية الصنعانية في عدن ، وتوثيقها وتسجيلها على أسطوانات.
يقيناً أن انتقال المثـقفين والفنانين اليمنيين من الهاجس الفردي الذي يتمثل في السخط الذاتي على الواقع من داخل المثقف نفسه، إلى الهاجس الجماعي من داخل المجتمع نفسه، إرتبط بظهور اتجاهات متنوعة لتطور الثقافة الوطنية اليمنية خلال الثلاثينات والأربعينات ، في بيئة متخلفة لا تتوفر فيها فواعل اقتصادية وسياسية قادرة على الإستجابة لتحديات التغيير المنشود وإنضاج شروطه .. ولئن تنوعت مرجعيات تلك الاتجاهات بين الفكر الديني التقليدي والفكر الدستوري الغربي والفكر الإسلامي التنويري ، إلاّ أن النزعة الإصلاحية كانت القاسم المشترك فيما بينها .
كان لهذه الاتجاهات المتنوعة فضل ظهور البذور الأولى للفكر الجديد في تربة الثقافة الوطنية اليمنية المعاصرة، التي شكلت رافعة أساسية لتطور الفكر السياسي في اليمن منذ بدايات الانبعاث الوطني العام وحتى الخمسينات ، حين شهدت بلادنا ميلاد تيارات فكرية جديدة ومعاصرة تطورت على أساسها الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة ، ودخلت تحت تأثيرها طوراً تاريخياً جديداً تمثل بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962م وثورة 14 أكتوبر 1963م وتحقيق الإستقلال الوطني 1967م وظهور دولتين شطريتين اقتسمتا الهوية الوطنية اليمنية في ظروف معقدة، وصولاً إلى قيام الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990م ، الذي أنهى التشطير وأعاد للوطن اليمني المجزأ وجهه الشرعي الواحد، في سياق أول عملية ثورية تاريخية معاصرة للتحول نحو الديمقراطية التعددية في اليمن .
البعد الثقافي لمشروع التغيير
على تربة الدور الوظيفي للثقافة الوطنية الجديدة شهدت اليمن بدايات إستيقاظ الوعي الوطني في الثلاثينات .. وعلى خلفية البعد الثقافي للحراك السياسي في المجتمع كان العمل الوطني ينمو ويتطور ..وحين قامت ثورة 1948م الدستورية لتعبر عن آمال وأشواق شعبنا الى الحرية والإنعتاق من الإستبداد والخروج من أنفاق التخلف والعزلة والظلام ، كان علماء الدين و المفكرون والأدباء هم قادتها وشهداؤها.
كما هو الحال في صنعاء وتعز وحجة والحديدة .. كان الحال كذلك في عدن ولحج وحضرموت حيث كان المفكرون والمثقفون والكتاب والأدباء والصحافيون والفنانون يجسدون الوحدة العضوية بين الثقافة والسياسة ، ويحملون رايات الكفاح ضد الإستعمار والتجزئة ، ويرفعون شعارات الحرية والاستقلال والوحدة .
وإذا كان ما يميز الرعيل الأول من قادة الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة ــ شمالاً وجنوباً ــ أنهم من المثقفين والمفكرين والكتاب والأدباء والصحافيين وخريجي الجامعات العربية والأجنبية ، الأمر الذي يشير بوضوح الى البعد الثقافي لمشروع التغيير ، فقد كان الرواد الأوائل لثورة 26 سبتمبر 1962 هم أيضاً من طلاب وخريجي المدارس العسكرية في صنعاء ، وخريجي الكليات الحربية في مصر والعراق ، الذين قامت على أكتافهم بعض الإصلاحات التي أضطر النظام الإمامي الى تنفيذها في الجيش ، بعد أن كشفت حروبه مع الجيران والبريطانيين ضرورة الشروع في بناء وتحديث الجيش والنظام التعليمي . بيد أن هؤلاء الثوار لم يوظفوا معارفهم العسكرية والعلمية التي اكتسبوها من أجل خدمة النظــام الإمامي الإستبداي ، بل وظفوها لتخـلــيص الوطن من ظلمه وظلامه ، وإيقاد شعـلة الحرية في ربوعه .
ومن وسط هؤلاء الثوار جاء الرئيس الشاب علي عبدالله صالح إلى الحكم في بلد مشطر إلى جزئين متنافرين.. ولأنه واحد من جيل الشباب الثوري الذي نشأ وعيه في واقع راكد حركته رياح الثورة اليمنية، فقد كان أبرز ما تميزت به تجربة الرئيس علي عبدالله صالح في الحكم هو إنطلاقها من مدرسة واقعية جديدة في التفكير تنتسب إلى الثورة في مشروعها الرامي إلى التغيير، بقدر ما تنتسب في الوقت نفسه إلى واقع متخلف فشلت في تغييره مشاريع سابقة لتيارات سياسية وفكرية شمولية، يفترض كل واحد منها تمثيل الحقيقة دون سواه، الأمر الذي قاد إلى هيمنة أنماط متصادمة للتفكير النظري والممارسة العملية لا يوحـّـد ها سوى قاسم مشترك هو إيديولوجيا الإلغاء التي أفرزت صراعات وإنقسامات حادة داخل المجتمع، لم تنج منها النخب الثورية - نفسها- ما أدّى الى إصابتها بالتمزق والضعف والتناحر والتحلل.
عند وصوله إلى سدة الحكم تعامل الرئيس علي عبدالله صالح مع بيئة ثقافية وسياسية معاقة بالكوابح ومثقلة بالأمراض التي خلقتها مشاريع بالية فشلت في صياغة مشروع وطني ديمقراطي قابل للتنفيذ والاستمرار، وعجزت في الوقت نفسه عن تقديم بديل حقيقي لثقافة الاستبداد التي كرستها الدولة الثيوقراطية قبل قيام الثورة والجمهورية.
وتبعاً لذلك كان الاستبداد المتـدثر برداء الخطاب الثقافي الثوري الأحادي أكثر قسوة ومضاضة على المجتمع ، من الاستبداد المختبئ خلف الخطاب الديني الشمولي للنظام الإمامي البائد، فيما كان حجم الجراح الموروثة عن أخطاء قوى الثورة أشد خطراً على الحرية والحقيقة من ثقافة الاستبداد نفسها.. بمعنى أن الرئيس علي عبدالله صالح وجد نفسه أمام مهمة تفكيك البنية الثقافية للاستبداد والبيئة السياسية للتجزئة بعناصرها المتنوعة سواء تلك الموروثة عن أمراض ما قبل الثورة، أو عن أخطاء قوى الثورة اليمنية.
في هذا السياق تشير الفعاليات الثقافية التي يحتضنها معرض صنعاء الدولي للكتاب الى مسار يتسم بالنزوع الى التقدم الثابت في حياتنا الثقافية بصرف النظر عن المصاعب التي تواجه هذا المسار.. ومما له دلالة أن ينتظم أول معرض دولي للكتاب في صنعاء في بداية عهد الرئيس هلي عبدالله صالح الذي يعود اليه الفضل في تنويع مصادر المعرفة وإفساح المجال لتداول ونشر الكتب ذات الأفكار المختلفة على طريق تفكيك بنية الثقافة الأحادية التي سادت حياتنا السياسية والفكرية والثقافية تحت تأثير الحقب السياسية التي هيمنت عليها مشاريع حزبية وفكرية قديمة ، تحت شعارات وطنية أو دينية أو قومية أو إجتماعية ، حيث أعطى الرئيس علي عبدالله صالح توجيهاته لمستشاره الثقافي الدكتور عبدالعزيز المقالح رئيس جامعة صنعاء آنذاك ، ووزير الاعلام والثقافة الأستاذ حسن اللوزي بضرورة تجسيد التعدد والتنوع في محتويات المعرض ، وكسر جدار الشمولية والأحادية من خلال السماح بعرض وبيع الكتب التي تجسد حضور مختلف التيارات الفكرية الماركسية والاشتراكية والقومية والاسلامية في المعرض والمكتبات ، الأمر الذي دشن عهدا جديداً في مسار تطور المكتبة اليمنية باتجاه المزيد من الحرية والتعدد والتنوع والانفتاح . ولعل ذلك يفسر الهجمة الغاضبة والشرسة التي شنها خطباء المساجد من أعضاء تنظيم الاخوان المسلمين الذين شنوا حملة تكفير منظمة ومنسقة على الدكتور عبد العزيز المقالح ، بعد أيام معدودة من افتتاح معرض الكتاب الدولي الأول في صنعاء عام 1983 م.
وبوسعنا القول ان ما حدث في معرض صنعاء الدولي الأول للكتاب لم يكن تعبيرا عن توجهات مرحلية تنتهي بانتهاء المعرض ، بل إنه جسد توجها ثابتا للرئيس علي عبدالله صالح في مسار تاسيس ثقافة سياسية جديدة تنزع نحو قبول قيم الحرية والتعدد والتنوع والاعتراف بالآخر ، وترفض كل أشكال الاقصاء والالغاء والانفراد ، وهو ما انعكس في وقت لاحق على مسار تطور الحركة الوطنية والعمل السياسي في عموم الوطن اليمني .
ولئن كانت بلادنا تتمتع اليوم بحرية واسعة في مجال التعبير عن الرأي والفكر ، وتداول المعلومات والأفكار والكتب من كل المشارب الفكرية والمذاهب السياسية والدينية ، فان الأمانة التاريخية تقتضي الاعتراف بالدور الذي لعبه الرئيس علي عبدالله صالح- منذ وصوله إلى الحكم - في إعادة تشغيل مفاعيل العمل الوطني بهدي أهداف الثورة اليمنية التي أعاد الإعتبار لتاريخها وجدد زخمها من خلال إطفاء بؤرالحروب الأهلية وطي صفحات الصراعات الداخلية ، والحرص على الانفتاح والتسامح والقبول بالآخر ، والبحث عن القواسم المشتركة ، والسعي لتغليب قيم الحوار على ما عداها من القيم السياسية السائدة الأمر الذي أفسح الطريق لتأسيس ثقافة سياسية مستقلة عن هيمنة الأيديولوجيا .
تأسيسا ً على ذلك يمكن فهم أبعاد الخطوة التاريخية التي أقدم عليها الرئيس علي عبدالله صالح حين قرر الانفتاح على الفرع الشمالي للحزب الاشتراكي اليمني (حزب الوحدة الشعبية) الذي خاض مع السلطة مواجهة مسلحة أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن العشرين المنصرم ، دامت سنتين وبضعة شهور ، بالإضافة إلى انفتاحه أيضاً على التيار الاسلامي الذي شارك في تلك المواجهات حين كان مهووساً بالبحث عن أي فرص سانحة للجهاد ضد أي عدو مفترض في الداخل والخارج.. وتوج الرئيس ذلك الانفتاح بتوقف المواجهات المسلحة والسماح لحزب الوحدة الشعبية المعارض بإصدار صحيفة ((الأمل)) الأسبوعية التي حلت محلها بعد الوحدة صحيفة ((المستقبل)) كما سمح للتيار الإسلامي الحزبي بإصدار صحيفة ((الصحوة)) الأسبوعية التي مازالت تصدر بانتظام منذ تأسيسها قبل الوحدة.
ما من شك في أن السماح بإصدار هاتين الصحيفتين المعبرتين عن تيارين فكريين رئيسيين ومتغايرين إلى جانب صحيفة ((الميثاق)) الناطقة بلسان المؤتمر الشعبي العام كان بمثابة الخطوة الأولى في مشروع تأسيس صحافة حزبية تعددية تساهم في إنتاج خطاب ثقافي جديد و تأهيل الحياة السياسية لاستيعاب قيم التعددية والتنوع والحوار والقبول بالآخر والتخلص من ثقافة الإلغاء والاقصاء والتوقف عن الإدعاء باحتكار الحقيقة.
وبقدر ما أسهمت توجهات حقبة الرئيس /علي عبد الله صالح في تأسيس ثقافة سياسية جديدة، بقدر ما أصبحت هذه الثقافة عنصراً فاعلاً في بنية الثقافة الوطنية التي نهضت لتخليص سؤال الوحدة من سطوة الأيديولوجيا..فقد تميزت هذه الحقبة بإصرار الرئيس علي عبد الله صالح المتواصل على ممارسة تعب البحث عن أجوبة جديدة على الأسئلة التي تطرحها الحياة المعاصرة بكل متغيراتها وتناقضاتها بعيداً عن الأجوبة الجاهزة والحلول المعلبة ، مع الأخذ بعين الإعتبار ان هذه المهمة تبرز على الدوام في الظروف التي تشهد متغيرات عاصفة ومتسارعة وجراحاً غائرة وعوامل كبح لا يمكن تجاوز آثارها بدون التخلص من قوالب التفكير الجاهزة ، وطرائق العمل القديمة والمألوفة .
فكما أن الظروف تتغير باستمرار ، فإن الحقيقة تظل نسبية وليست نهائية .. والوصول إلى الحقيقة ليس سهلاً ولا بسيطاً ، ولذلك فإن النخب التي تعتقد أن الحقيقة النهائية في أيديها ، ولا ينبغي التعب من أجل البحث عنها يومياً بل يكفي تناولها من الملفات الجاهزة أو تقارير الأجهزة اوالكتب القديمة أو الوثائق الحزبية أو الشعارات الشعبوية ، ان النخب التي تعتقد بذلك ، لا شك في أنها تخاطر بفقدان مقدرتها على التجدد والإستمرارية والعطاء ، وتغامر بضياع مستقبلها السياسي وبعدم قدرتها على أن تكون طليعة سياسية في المجتمع .. ولأنه ليس كذلك فإن الرئيس علي عبد الله صالح تصرف طوال هذه الحقبة التي أشرنا إليها على نحو بدا فيه مسكوناً بهموم البحث المستمر عن الحقيقة ، ومحاولة إعادة اكتشاف واقع بحاجة مستمرة إلى المزيد من الكشف ، الأمر الذي يساعد على فهم الكثير من أبعاد العلاقة التي ربطت الرئيس علي عبدالله صالح بالمثقفين والأدباء والكتاب اليمنيين من خلال إطارهم النقابي الموحد ( اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي جاء تأسيسه في أوائل السبعينات من القرن الماضي تجسيدا حيا لنهوض الوعي الوطني على رافعة الدور الوظيفي للثقافة السياسية .. حيث جاء تأسيس هذا الاتحاد مبشراً بتجدد الخصوبة في خريف عقيم .
كان الاتحاد أول ممارسة وحدوية في المجال السياسي للتشطير، وأول مقاومة معرفية لأنساقه السياسية والأيديولوجية والثقافية أعادت للفكر والإبداع إستقلاله عن الإيديولوجيا السائدة ، وجعلت من وحدة الأدباء والكتاب والمفكرين مرآة لضمير الوطن الثقافي .
لعل ذلك يفسر الدور البارز الذي لعبه الاتحاد ومن خلاله المثقفون في رفع رايات الوحدة التي حاولت ايديولوجيا التشطير تنكيسها ، وما ترتب على ذلك من تلاحم عضوي بين الحراك السياسي والحراك الثقافي ، أسفر عن تحول الثقافة الوطنية الى رافعة قوية للمشروع الوطني الوحدوي في مواجهة تغــوّ ل الإيديولوجيا ، بعد ان صادرت كل ما عداها من روافع وجسور للتواصل بين أبناء الشعب الواحد !
كان تأسيس الإتحاد اول صرخة استهدفت تجديد إستيقاظ الوعي الوطني .. وكان مؤسسوه وفي طليعتهم المناضل الوحدوي الخالد عمر عبدالله الجاوي يستحضرون خبرة إستيقاظ الوعي الوطني في الثلاثينات على أيدي الرواد الأوائل من المفكرين والأدباء الذين بذروا في تربة المجال الثقافي للوطن نواة المشروع الوطني للتغيير .. وعلى خطى أولئك الرواد تم إحياء مجلة « الحكمة » التي خاطبت الضمير الثقافي للوطن المجزأ .. ومهدت لعودة الوعي ، وسعت الى اثبات عجز ثنائية التجزئة و الأيديولوجيا عن الخروج من مأزقها الذي تمثل - أيضاً- في العجز عن إيجاد حل سحري يمنع وقوع الحروب الشطرية والأزمات الدورية بصورة حاسمة ، ويحافظ على التجزئة الكيانية في آن واحد .
من نافل القول أن الرئيس علي عبدالله صالح دأب ـــ ولا يزال ـــ على التواصل الحي مع العديد من قادة القوى السياسية وحملة الفكر والرأي ، ورموز المجتمع وممثلي الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلاد ، وذلك بهدف التشاور والتنسيق والتعرف على وجهات النظر المختلفة ، والتفاعل مع ما يراه ممكناً وضرورياً من الرؤى والتصورات .. وقد جسد بهذا السلوك الحي التزاماً ــ غير مسبوق ــ بقواعد الممارسة الديمقراطية تجاه المجتمع ، حيث لا فرق بين مؤيديه ومعارضيه وخصومه ، بمن فيهم اولئك الذين قاوموه بالسلاح منذ وصوله الى الحكم عام 1978م.!!
بهذا السلوك أسهم الرئيس علي عبد الله صالح بقسطه في تأسيس ثقافة سياسية جديدة ، يستحيل بدونها معافاة جراح الصراعات السياسية السابقة ، وصياغة مشروع وطني للتغيير يجسد روح وأهداف الثورة اليمنية ، ويتجاوز رواسب المشاريع القديمة التي تميزت بالإفراط في افتراض تمثيل الحقيقة ، والاستغراق في اجترار ثقافة الإلغاء والإقصاء التي كانت على الدوام نقيضاً للحرية وصنواً للاستبداد وعدواً للمعرفة ، بعد ان أفرطت في فرض وصايتها على العقل والحقيقة من خلال إضفاء القداسة على الإيديولوجيا السياسية بمختلف طبعاتها الدينية والطبقية والقومية على حد سواء .
ما من شك في أن التيارات السياسية والفكرية في اليمن تكاد أن تكون امتداداً لتيارات مماثلة لها في الساحة العربية التي شهدت تجارب مأزومة ومشوهة أفرزتها المشاريع القديمة بعد ان طبقت على الصعيدين النظري والعملي أفكاراً وشعارات قومية واشتراكية و إسلامية .. والحال ان المشاريع القديمة التي نقصدها كانت قد وصلت الى سدة الحكم في بعض البلدان العربية بوسائل إنقلابية أساسها الاعتماد على عنصر القوة ثم خسرت في نهاية المطاف وهجها وبريقها .
لم تتوقف الآثار السلبية لهذه التجارب الخاسرة على اضعاف حيوية المجتمع العربي وتهميش قواه الحية ، بل إمتدت لتصيب بدائها العضال مختلف النخب الحاكمة في تلك البلدان التي نكبت بتجارب شمولية فاشلة ، وعجزت عن تقديم نموذج قابل للإستمرار والتجدد وإنتهت الى إفلاس سياسي وفكري وثقافي تكونت على تربته الهشة أزمات وإنهيارات مدوية ، مقابل بروز مخاطر وتحديات قوية ، لا يمكن مواجهتها بدون إمتلاك مشروع جديد للتغيير يقوم بالدرجة الاولى على قاعدة تحرير السياسة من ثقافة الاستبداد والإلغاء والادعاء باحتكار الحقيقة.
على هذا الطريق تفاعل البعد الثقافي الجديد لحقبة الرئيس علي عبد الله صالح مع الأبعاد الوطنية التي جسدها قيام إتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في السبعينات كرد فعل لمشروع توطين التجزئة وتبريرها بواسطة تلفيق ايديولوجيا ثورية أو دينية تلفيقية ..ومن نافل القول أن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وجد في مناخ المرحلة الجديدة حوافز قوية لتعظيم مساهمة الثقافة الوطنية والمثقفين الوطنيين في الفصل بين سؤال الوحدة ومأزق الأيديولوجيا.
وقد شهدت فترة الثمانينات من القرن العشرين المنصرم تعاظماً ملحوظاً لنشاط حملة الفكر والثقافة والأدب المنضويين في إطار اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي كان أول نواة موحدة للمجتمع المدني المستقل عن حكومتي الشطرين ، وأول منظمة اجتماعية غير حكومية تمثل ضمير اليمن الثقافي الوطني في ظل دولتين شطريتين .. حيث حرص الاتحاد على تفعيل الدور الوظيفي للثقافة الوطنية في مواجهة واقع التشطير، وجسد ذلك عملياً في بنيته التنظيمية وأهدافه ووسائله ، باتجاه الاستجابة لتحديات الوحدة .
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يجد اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في نهج الرئيس علي عبدالله صالح ــ بعد وصوله الى الحكم ــ بيئة مثالية لتجسيد أهدافه ، فقد عجز الإتحاد منذ تأسيسه عام 1973م عن عقد اجتماعات هيئاته القيادية المنتخبة في صنعاء بحسب نظامه الداخلي الذي نص على أن الوطن كله ـــ لا التجزئة ـــ هو ساحة نشاطه ، وأن تنعقد اجتماعات مجلسه التنفيذي مرة كل ستة أشهر في عدن وصنعاء بالتناوب وكذلك الحال بالنسبة لمؤتمراته العامة.. ولم يتمكن الإتحاد من فتح مقر له في صنعاء وعقد اجتماعات هيئاته القيادية ومؤتمراته العامة فيها بصورة منتظمة إلاّ في فترة حكم الرئيس علي عبدالله صالح الذي لم يكتف بتمكينه من ذلك فقط ، بل وبتخصيص موازنة سنوية لمناشطه وفعالياته الإبداعية الوحدوية ، فيما كان الرئيس حريصا على اللقاء بأعضاء المجلس التنفيذي لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في كل دورة يعقدونها في صنعاء ، كما كان يخصص ليلة رمضانية للقاء بالمثقفين والأدباء والكتاب اليمنيين من شطري الوطن قبل الوحدة ، للاستماع اليهم ومناقشة المسائل التي تتعلق بسبل النهوض بالثقافة والأدب والفكر في اليمن .
ولذلك فقد كان طبيعيا أن يلعب هذا الاتحاد ، وأن تلعب الثقافة الوطنية ، دوراً حيوياً في دعم ومؤازرة مبادرة الرئيس علي عبد الله صالح الوحدوية التاريخية التي عرضها على قيادة الشطر الجنوبي من الوطن في أواخر الثمانينات ، وتوجت بالتوقيع على اتفاق 30 نوفمبر 1989م ، واتفاق 22 ابريل 1990 الملحق بمشروع دستور دولة الوحدة وصولاً الى إعلان قيام الجمهورية اليمنية والتحول نحو الديمقراطية في الثاني والعشرين من مايو 1990م العظيم .
* ورقة عمل مقدمة الى ندوة كتاب ( قائد ووطن ) التي نظمتها دائرة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة والهيئة العامة للكتاب ،على هامش فعاليات معرض صنعاء الدولي الخامس والعشرين للكتاب .