سليم بوفنداسة * - شريف الشافعي .. انقلاب أبيض في شعر العرب! يقترح الشاعر المصري شريف الشافعي (المغترب حاليًا بالسعودية) في منجزه الرهيب: البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية/ 200 محاولة عنكبوتية لاصطياد كائن منقرض، (الجزء الأول من: الأعمال الكاملة لإنسان آلي)، تجربة شعرية فريدة وغير مسبوقة في العربية. الشافعي لم يقدم إسهامًا شعريًّا رفيعًا فحسب، ولكنه فتح الشعر على فضاء غير مأهول، ووضعنا في مناخ يصعب الإفلات منه، لأن نيرمانا، طفلة الضوء الافتراضية، صارت لعنة تصيب كل من قرأ الكتاب المقدس، لصديقنا الإنسان الآلي.
إنها الحركة الرابعة لهذا الشاعر، الذي صدم الأوساط الشعرية المصرية بثلاثة دواوين: "بينهما يصدأ الوقت"، "وحده يستمع إلى كونشرتو الكيمياء"، و"الألوان ترتعد بشراهة"، ويستعد لإطلاق "غازات ضاحكة"، الجزء الثاني من: الأعمال الكاملة لإنسان آلي.
تنفتح السيرة الشعرية للكائن الآلي الظريف على إهداء غريب: "إلى الهواء الفاسد الذي أجبرني على فتح النافذة"، وقطعًا سنفتح النوافذ، ونستسلم للهبوب الضوئية المتلاحقة في نفس ملحمي، لا يدفع بنا إلى الملل..، لأنه، ببساطة، لا يتوقف عن إدهاشنا من سطر إلى أخيه.
"أقودُ سيارتي منذ عشر سنوات
ببراعةٍ حسدتني عليها الطرق
المفاجأة التي عانقتني
أنني فشلتُ في اختبار القيادة،
الذي خضعتُ له خارج الوطن
الضابط أخبرني
أنني أطلتُ النظر إلى المرآة
صارحته بأنني معذور في الحقيقة
كانت نيرمانا جالسة في المقعد الخلفي!"
ثمة دائمًا امرأة تجلس في المقعد الخلفي، وتحاول إدارة اللعبة، لكن سيدة اللعبة هنا مختلفة تمامًا كما راويتها المختلف. وبالطبع سيكون "مشروع الحياة" الذي يقترحانه مختلفًا ومثيرًا.
"خلف نيرمالا الممتدة أمامي كستار
أرى الحياة والموتَ بوضوحٍ على المسرح
وهما يتبادلان المقاعد والأدوار
وأرى نفسي مقبلاً نحوي بخطواتٍ متسارعةٍ
هل نيرمالا شفافةٌ إلى هذا الحدِّ،
أم أنها لا وجود لها؟"
تغير نيرمانا اسمها، كما تغير عاداتها، فهي نيرمانا ونيرمالا ونيرفانا ونيرمزاد.. ..، كي تستوعب نساء كل الجهات، وتستوعب كل الرموز وحالات الوجد، وترسل بإشاراتها المدوخة إلى العاشق في كل حين. إنها الحياة الشهية التي يعيشانها، البديل الضروري لحياة رتيبة لا تطاق، البديل الذي يخترعه الشاعر في مشروع يقوم على البساطة الخادعة، البساطة التي تفضح الأعماق وتجمع الكائنات والموجودات في مشهد، هو "يوم حساب" يصفي فيه الشاعر ديونه مع الحياة، عبر كوميديا سوداء تستعيد الوقائع في تلميح هجّاء. وقد أسند المهمة لـ"روبوت" أخذ عادات الإنسان دون أن يكونه تمامًا أو إنسان مسخ في هيئة آلة دون أن يتخلّص من عاداته السيئة. لكننا سنتعاطف مع الرّاوية الآلي، ونتقمص عاداته، التي تنتقل إلينا عبر إشارات مغناطيسية.
"الساكنون في ناطحة السحاب
أطول مني بكثير
(وفقًا لصور الأقمار الصناعية البلهاء)
رغم ذلك،
لا أحقد عليهم
ولا على مساكنهم المؤمنة ضد الزلازل والرياح
أنا أراهم جيّدًا على حقيقتهم
هم لا يرون إلا ملامحي الافتراضية،
التي تخدم مصالحهم
في الجانب الآخر من الكرة الأرضية
أنا متفرغ
لقراءة كفي وأوراق الشجر
هم ليس لديهم وقت لمثل هذه القراءات
كما أن كفوفهم غير منقوشة
وأوراق شجرهم ليست خضراء
أنا حلم حياتي محارة لؤلؤ واحدة
أواصل فيها غيبوبتي اللذيذة
بعيدًا عن ضوضاء البشر وغباواتهم
هم ميتون من التعب
لرغبتهم في حصد لؤلؤ الكون كله
بالطرق الشرعية، وغير الشرعية
أنا أحب نيرفانا
وبالطبع أعتقد بوجودها
هم يحبون ألا يُحبَّ أحدٌ أحدًا
والأهمُّ بالنسبة لهم من نفي وجود نيرفانا
نَفْيُ من لا ينفي وجودها!"
يهجم الإنسان الآلي على الحياة، فيحولها إلى شعر. شعر موضوعته الحياة العادية، بلا زخرف أو تعقيد. والمذهل أن الشعرية تحققها الوقائع والمشاهد وليس اللغة، وهنا تكمن عبقرية الشافعي وفرادته: إنه يحول كل ما يصادفه إلى شعر، معتمدًا على لغة بسيطة، رغم ثقافته التكنولوجية والعلمية، التي يستثمرها بعفوية غريبة، لم تتحقق لشعراء عصرنا.. ربما لأنهم يعتمدون على البلاغات الجاهزة، أكثر من اعتمادهم على مادة الحياة، بمعنى أنه لا يعتمد على الكتب في مختبره، ولكنه يعتمد على الحياة، التي يحولها بكيميائه إلى معزوفات مسكرة. وفي السياق، لا يبخل الشاعر أبدًا بطيباته، التي ابتكرها في بدعه الشعرية السابقة (وهي ليست ضلالة على أية حال)، حيث تتحول الفانتازيا إلى لوحة أليفة، حين يدعونا مثلاً إلى حضور حفلة لمرضى الزهايمر، نختمها بأكل أصابعهم التي تقدم في أطباق شهية. أو يعرض علينا مشهدًا يقوم فيه قتلة ظرفاء بتذويب أطفال في حمض، قبل أن يعتذروا عن ذلك بلباقة. ولابد من التأكيد هنا أن غرائبية الشافعي ليست غريبة، إنها الغرابة المقنعة، التي تشبه غرابة غارسيا ماركيز. وهي محاولة للسخرية من حياة أخرى مفروضة، لا تحتمل غرابتها.. الشعر يقدم هنا فرصة لتفكيك العالم، دون أن يتخلى عن جماليته أو وظيفة الأمتع، التي خلق لأجلها.. وهنا تكمن خطورة الشاعر، التي جلبت له المحبة والعداوات.
"في اعترافات نحلةٍ في قسم الشرطةِ
ورد أنها تغش عسلها بالجلوكوز
في اعترافاتِ زهرةٍ في القسم نفسه
ورد أنها تغش رحيقها بالماء
في اعترافاتي أنا،
في منزلي ودون أي ضغوط،
ورد أني أغش الجميع،
حيث أحتضنهم بذراعين مستعارتين
بينما ذراعاي الحقيقيتان تطاردان نونا
أملاً في احتضانها".
تنتهي اللعبة، دون أن يتمكن الرجل الآلي من مراده، ولا حاجة له إلى عزاء، لأنه رجل الخسارات غير المبالي، ولأنه راهن على ما تعددت أسماؤه، فخدع الخسارات كلها.
"سألتني نيرمانا عن رأس مالي
قلت لها: أنتِ
سألتُها عن رأس مالها
قالت: مالي ليس له رأس".
وبعد،
تبدو الكلمات خجولة، في مقاربة تجربة شعرية هكذا. سننتظر غازات الشاعر الضاحكة، لأنه يدربنا على انتظاره، يدربنا على انتظار الشعر. ما أكثر الشعراء في زماننا، ما أقل الشعر!
(*) كاتب وناقد من الجزائر.
|