محمد حسين العيدروس -
وحدتنا اليمنية عقيدتنا الإيمانية
في خضم جدل دأب المثقفون على خوضه عند الوقوف على نوازع التشبث بالوحدة، بين أن تكون سلوكاً فطرياً أو مكتسباً.. وبين أن تكون بدواعي الخوف من الماضي، أو الأمل بالمستقبل، يراودني تساؤل عما يمكن أن تعنيه الوحدة لفلاح لا يبرح قريته حتى يوافيه الموت، أو امرأة أقصى مسافة تقصدها في حياتها بئر الماء، أو قرية مجاورة تتزوج إليها..!؟ فإن كانت الوحدة تعني اندماجاً لمناطق أو أقاليم جغرافية، فكيف تفسر إذن حماس هؤلاء الناس للتضحية من أجل الوحدة!؟
إن الوحدة، وإن ارتبطت في الثقافة الظاهرة للفرد بأبعاد مكانية وتأريخية، إلا أنها في وعيه التكويني الفطري تتجسد بقيم روحية موغلة في جذورها التاريخية كونها تعود إلى الأزمنة التوحيدية الأولى من عمر البشرية عندما ظل سيدنا إبراهيم عليه السلام يبحث عن الرب ليدعو قومه للتوحد جميعاً في عبادته... غير أن ظهور الإسلام كان السبيل للاهتداء إلى معرفة الله الواحد، وبداية التحام البشرية تحت بيارق التوحيد التي رفعها رسولنا العظيم - سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن هنا ترسخت مفاهيم الوحدة كقيمة روحية دينية، وأمر إلهي، ونهج ديني متصل بأصول العبادات وطقوسها، سواء بما تمثل منها في صلاة الجماعة، أو حج بيت الله الحرام، أو غيرها من الفروض والسنن التي ظلت أمتنا الإسلامية متمسكة بها، وتعدها مصدراً لعزتها، وكرامتها، ومجدها، بفضل ما ترسخ من قيم تهذيبية وممارسات أخلاقية نبيلة وكريمة.....!
إن حياتنا كشعوب إسلامية قامت على ثقافة توحيدية، وبالتالي فإن كان فعل يتنافى مع قيم هذه الثقافة يعد خروجاً عن العقيدة الدينية التي يتحلى بها المجتمع، وشذوذاً عن نهجه الإسلامي.. وهو الأمر الذي يتجاوز بممارساته وثقافته الحدود المكانية، ويلي كل الفواصل الجغرافية- وبما يجعل الدفاع عن وحدة الوطن أو الأمة مسئولية مقدمة، في رضا الله سبحانه وتعالى.
ومما يمكن ملاحظته هنا هو أن الإيمان بالوحدة لم يتأثر عبر التاريخ بأي ظروف اقتصادية أو اجتماعية كونه إيماناً وجدانياً وروحياً، وليس مسألة مادية يمكن المساومة عليها... فمن المعروف أن المسلمين من سكان الجزيرة العربية في عهد الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- كانوا على قدر كبير جداً من الفقر، وكان بينهم من يتبادل نفس الثوب من اجل الصلاة، إلا أن ذلك الحال لم يكن ليدفع أحداً على التمرد على الرسول الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم- بل زادهم توحداً، وتعاوناً، وتكافلاً، وعملاً لإيمانهم بأن هذا التآلف الوحدوي هو الوضع الوحيد لقهر تحدي الجوع والفقر.. في حين أن المرتدين عن الدين بعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكونوا سوى أصحاب المصالح والمنافقين وذوي الأطماع المختلفة الذين يتخفون بأقنعة الفضيلة والتقوى،،،
وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب، لم يكن " عالم الجوع" مبرراً لأحد من أمصار المسلمين الموحدة تحت حكم الدولة الإسلامية الكبرى للانسلاخ منها، أو حتى مجرد الدعوة للانفصال، بل حدث العكس، واشتدت اللحمة، وكفل المسلمون بعضهم البعض دونما تمييز على أساس المنطقة، أو العرق، أو لون البشرة، فالوحدة مثلث قوة الصد الكبرى لكل التحديات والأخطار، ليس في هذا العهد وحسب، بل وحتى العهود التي آلت فيها أمور الخلافة الإسلامية لحكم ضعفاء أو فاسدين، أو تابعين...!
إننا عندما نخوض اليوم في شئون الوحدة اليمنية، وما يعترضها من تحديات ودعوات تشطيرية، فإن مجتمعنا، لا ينطلق في رفضه وإعلان جاهزيته للتضحية في سبيل حماية الوحدة، من مجرد حسابات مناطقية، أو استحقاقات سياسية، وإنما من وحي عقيدة إيمانية قائمة بالأساس على الوحدة، وتدعو إلى التوحيد والتوحد، وتحرّم الفرقة، لأنها مدعاة ضعف الأمة وهوانها، وتكالب أعدائها عليها.. ولعل هذا المعنى هو الذي ظل حاضراً في رؤوس أبناء شعبنا، وهو الذي يدفع الفلاح أو العامل أن لا يبرح قريته أو مدينته حتى يوافيه الموت، وكذلك المرأة التي لم تقصد مكاناً ابعد من بئر الماء للتمسك بالوحدة، وإبداء الاستعداد للتضحية بالأرواح من أجلها.
وقد يسمي البعض مثل هذه العلاقة المصيرية مع الوحدة بأنها" ثقافة فطرية" إلا أنها أيضاً تأتي ممتزجة بالخوف من تجارب الماضي التشطيري المريرة، وبالأمل المستقبلي الذي تستمده من تجارب الأمة التاريخية التي تؤكد أنها لم تحقق مجدها، وكرامة أبنائها إلا في ظل الدولة الموحدة.... وفيما دون ذلك رضخت تحت نير الطامعين من القوى الاستعمارية، التي تعتبر تمزيق وحدة شعوب الأمة تمزيقاً لهويتها الحضارية، وتمهيداً للقضاء على حضارتها الإسلامية العظيمة التي كانت على الدوام هي مصدر قوتها، وسبب بقائها.