الدكتور حاتم الصكر * -
ملامح جديدة في الخطاب النسوي في اليمن(2-2)
( يثير الحديث عن دور المرأة في الثقافة والأدب وعن كتابتها النصية في الغالب اعتراضات تستند إلى فرضية المساواة، وانعدام الفوارق في التعبير وتشكُّل النصوص بين الرجل والمرأة ،وذرائع أخرى يعرفها ويكررها المشتغلون في الأدب النسوي والنقد الأدبي عامة ) .
ثالثا : القصص
يمكن للقصة بسبب اعتمادها على البوح والترسل والتمدد السردي وتمثيل الوقائع أن تفصح عن المواقف والرؤى أكثر مما تتيحه النصوص الشعرية نظرا لاعتمادها على الإيحاء والترميز وتحديد إيقاعاتها وتوترات لغتها وفضاءاتها الصورية وبلاغتها .لذا يجد الدارس والقارئ ما يعزز القناعة باتجاه السرد النسوي لدى كاتبات الجيل الثالث إلى مناطق أكثر جذرية وحساسية ووضوحا من تلك التي كانت تهيمن على كتابات سابقاتهن.
فضلا عن ذلك تشير شهادات القاصات التي اطلعنا عليها إلى الانسياق في عالم الكتابة القصصية بفعل الإغواء والغواية كما يرد في شهاداتهن ، فغواية السرد قديمة وليست القصة اختيارا للهروب من الشعر( هند هيثم) وأنها حياة متحركة ومشحونة( منى شراحيل) وفي أن القصة تهبهن فرصة قول ما يردن قوله في الحياة ولايستطعن ذلك في أرض الواقع(سماء الصباحي ) ( 11) ، وبذا تنامى السرد القصصي للكاتبات اليمنيات وفاق عددهن ماكان متوقعا لهذا النوع السردي المتميز بعناصره المكثفة ولغته المقتصدة وعوالمه المنتقاة لتمثيل الحياة ببلاغة وإيجاز وتعد ريا أحمد في الفهرس الملحق بمختاراتها خمسا وستين قاصة حتى عام صدور كتابها.
لقد طغى الترميز والمعالجات التمثيلية على قصص الجيل الثالث مع المحافظة على مساحة كافية للاقتراب من الواقع دون استنساخه ونقله فوتغرافيا أو الوقوع في ضجيج دوبه وعنفوان مجرياته.وكذا كانت الشخصيات ذات وقع أليف لاسيما شخصية المرأة المتميزة باتخاذ القرارات وتحديد مصيرها ورفض الهيمنة ، والتسلط الذكوري أيا كان مصدره لا سيما من الأسرة.
فنيا لم تدخل قاصات الجيل الثالث في أفق التجريب والترميز المنغلق حد الغموض ولم تستهوهن المغامرات اللغوية والعاطفية بل كانت لقصصهن إيقاعات قريبة من مستويات القراءة العادية وهو ما يناسب انشغالاتهن الموضوعية التي لم تبتعد كثيرا عن الهموم المجتمعية ولكن بمقدار انعكاسها على المرأة الفرد أولاً.
أ- نجلاء العمري: البطل للبطلة.. والجري للمؤلف( 12 )
ربما تكون القاصة نجلاء العمري أقرب القاصات إلى اهتمامات الجيل الثاني وأسلوبياته لكن نماذج إصدارها الأخير يجعلنا نضمها للجيل الثالث لاسيما قصتها المتميزة التي نحللها هنا والتي تعالج فيها القراءة التطابقية التي تعاني منها الكتابة النسوية خاصة – أي التي تطابق بين الشخصيات والكاتبة - حيث تلصق دلالات الأفعال والمواقف التي تقوم بها الشخصيات في فضاء المتخيل السردي بالكاتبة نفسها ، وتعدها جزءا من حياتها.
وهي تعيد في قصتها( هل كانت البطلة شريفة؟) صياغة المثل الشعبي ( العريسة للعريس والجري للمتاعيس) ليصبح بعبارتها الفكاهية وعلى لسان الزوج الكاتب ( البطل للبطلة والجري للمؤلف) و بلسان الكاتب الرجل الذي يشرك زوجته في البحث عن حل أخلاقي وخاتمة لمشكلة بطلة قصته التي تبدأ زوجته بالغيرة منها.
- (إنها مجرد بطلة سأنتهي من تحمسي لها بمجرد أن أسجل الخاتمة.)يقول الزوج الكاتب موضحا ومدافعا عن الإيهام واتلخلق في السرد لا التطابق ةمع الخارج .
في ضوء القراءة التأويلية وجدتُ أن عبارة القاصة تلخص عمل الخيال القصصي وحرفة القص المبتعدة عن مطابقة الشخصية لخالقها ، كي لا تتحمل وزر التفسيرات التطابقية التي تعاني منها قراءات سيئة تجلد بسببها وتكفّر كتابات كثيرة ، للمرأة الكاتبة فيها حصة عظمى! وقد جاءت شهادات عدد من الكاتبات في عدد مجلة غيمان السادس(13). مؤكدة لذلك ، فثمة شكوى من الرقابة الاجتماعية على المكتوب وتأويل الملفوظ بل حتى مراقبة ما تقرأ القاصة من كتب .
تتحدث هدى العطاس عن ( صومعة تلجها بشغف شاهق منغمسة في سهوب الكتب) وعندما يفتضح أمرها في منعزلِها تُخبَّأ عنها الكتب عقابا .. ولدى نادية الكوكباني يصبح النشر باسم صريح أو مستعار مشكلة تحدٍ وإصرار وكذلك المطابقة بين فرح بطلة روايتها وبين ذاتها ككاتبة وتسمي القراءة الباحثة عن التطابق بين الكاتبة ومخلوقاتها : القراءة التلصصية .
هل تكون الكاتبة هاربة من المطابقة والتلصص عندما تختار بطلا ذكرا لرواياتها وقصصها ؟
ينتقد البعض الكاتبات النسويات لاختيارهن رجلا لا امرأة لوجهة النظر وضمير السرد وبطولة الحدث بحجة تخفّيهن وخوفهن من أن تعود الأفعال أو الطبائع والاختيارات في السرد إلى شخوصهن ككاتبات لا كخالقات للسرد في فضاء تخيلي.
وكانت تلك هي النظرة السائدة لهذا الإجراء الذي تتبعه كثير من الكاتبات ، ولكن القراءة السردية اليوم لا تتوقف عند دلالات اختيار الذكر بطلا في رؤية نسائية معبر عنها في عمل أدبي ، فذلك الإجراء يعد جزءا من الإيهام الذي تقوم به المخيلة القصصية في العمل، ومن ضمن تقنيات التمثل والاستبطان. وفي التقمص ولعبة الخيال والبناء السردي ما يبرر ذلك.
لكن الرجل في قصة العمري بديل لصوت الكاتبة . وهذا استبدال آخر للهوية وإقصاء للمطابقة أيضا.
ومشكلة المطابقة من أعسر مشكلات القراءة اليوم ، تتمدد من فضول القارئ لمعرفة ذات الكاتب في العمل ،وأي الشخصيات تطابق أوصافه، والقارئ يفعل ذلك إرضاء لغريزة الاكتشاف في نفسه وتأكيد ذكائه ومهارته.
هذا ما فعلته زوجة البطل في قصة نجلاء العمري فراحت تبحث عن سبب قلق زوجها على بطلته التي يريد أن يجد لها حلا يقنع حبيبها بالزواج منها رغم ما يقال عنها..وليجد خاتمة لقصته بالضرورة .
وهي تناقش مفهوم الشرف بطرق سردية تكشف طبائع الشخصيات وأفكارها المضمرة حيث يتخفى فكر رجعي وراء أستار الحب أو الثقافة التي تغطي الرجال فيتهمون المرأة بماضيها ويلاحقونها به دون أن تمحو تلك الشكوك أية علاقات حب وحياة.
تسأل الزوجة: (هل تهمك –البطلة- أكثر مني؟) يجيبها : (إنها بعض مني وجزء) وتتحد الغيرة والفضول فتدفعان الزوجة لتصل بمؤشر المطابقة إلى أنها هي نفسها نسخة من البطلة ، وأن زوجها الكاتب إذ اقترن بها عن حب عاد ليشكك في صحة اختياره ، فتنتهي القصة ورقيا أي بحلّ على ورقة صغيرة تتركها الزوجة وهي تغادر المنزل صباحا ..تخبر زوجها أنها خرجت ولن تعود، وأن نهاية البطلة بزواج حبيبها المتردد الخائف ستجعله يكبلها ويقتل تمردها بعد أن ساوره الشك بشرفها ، وكأن الزوج فعل بها ذلك أيضا ..وبدل أن يقتل روح التمرد في بطلته أحياها في نفس زوجته ، كما تقول رسالتها المختومة بكلمة (أحبك ) واعية الفرق بين الحب والواجب...
في القصة تعبير عن عنف القراءة التطابقية وآثارها المدمرة ، ولكنها تحذير من التفسير الحرفي، والبحث عن نسخ واقعية لمخلوقات خيالية.وقد تعززت الدلالة باختيار أسلوب القصة داخل القصة ، أو بناء قصة فوق الحدث نفسه تراقب فيه القصة نفسها وتناقش احتمالاتها في جو ميتا –قصصي إيهامي وجدلي مثير.
لقد عاد البطل للبطلة بقرار قصصي، وظل الجري(= التعب) للمؤلف الذي خسر زوجته بمفارقة تطابقية مؤثرة سيخسر مثلها قراء التطابق بين الكتّاب وشخصياتهم ..
تنبئ مجموعة نجلاء العمري عن وعي بالمكتوب وتبعاته واستحقاقاته وبلغة يصفها الدكتور المقالح في تقديم المجموعة القصصية بأنها لغة شاعرية ، وهذا ما تظهره قراءة القصص لا سيما خواتمها ، مثل(لم أبك ، لم أتوسل، انتظرت السيارة بذهول،وما من رشأ أتعلق بأطرافه ، أو فتية يبيعونني بثمن بخس، ذرفت دمعة اتسخت بأطراف أصابعهم،..وغبت ككل من غابوا..في .هذا الخواء).
ب- سماء الصباحي : سر الرقم اثنان وسحره (14)
القاصة سماء الصباحي مفتونة بالجانب الاجتماعي من مهمة السرد وكأنها تعيد القص إلى شكله الحكائي المبكر وإلى حاضنته الأولى كمرجع بتنوع أسمائه : الحياة –الواقع –المجتمع ، لكن تمثل الوقائع وإعادة تمثيلها بدأ يتخذ في أعمالها الاخيرة شكلا فنيا أكثر ترميزا ودلالة وعمقا وإن لم تغادر التماسَّ مع هموم المرأة من الزاوية الاجتماعية ذات البعد الجمعي ، رغم تركيزها على الذوات الفردية في قصصها الأخيرة وعنايتها بالكيفيات السردية والأسلوبية في المقام الأول لا سيما في قصص قصيرة جدا أطلقت عليها عنوانا مشتركا ذا دلالة هو ( أنّات قصيرة جدا) يحمل في تركيبه الشكوى من العنت المسلط على المرأة والمتمثل في قهر إرادتها وتسليط الإكراهات المختلفة عليها من المجتمع والأسرة والأفراد لا سيما الأزواج.
تختار سماء في أغلب قصصها ضمير المتكلم كوسيلة للسرد. والراوية الضمنية تسهم في صنع الأحداث وتحدد مصائر السرد ،وهذا من جوانب التحول عندها والجرأة التي نسبناها لقاصات الجيل الثالث ، وقد لاحظ الشاعر يحيى البطاط في كلمة له على غلاف مجموعتها(اثنان ..اثنان فقط) أن فكرة سماء واضحة كما أن لغتها تبعا لذلك تخلو من الزخارف والاستطالات غير المبررة مع وجود الجرأة التي تسهم – كما يرى البطاط – في تعرية الظواهر والحالات المحيطة بالمرأة سواء في علاقتها بالرجل أو مع المجتمع .
لقد تبلور وعي القاصة النوعي واهتمامها بدور المرأة الاجتماعي منذ فترة مبكرة ولكنها عمقت ذلك في نصوصها الأخيرة ومنها النص الذي أخذت مجموعتها الثانية اسمه عنوانا لها( اثنان ..اثنان فقط) فعبر هذا الرقم تتمثل حياة فتاة هي الساردة نفسها يرسم ( الرقم 2) بمصادفات غريبة مفاصل وملامح مهمة في أحداث حياتها يتكرر في تاريخ ميلادها – تسلسلها بين أخواتها، ترتيبها في دراستها كلها، ورقم دفعتها في الجامعة ، فهو ليس مجرد عصا ملتوية كما تراءى لها صغيرةً بل هو رقمها الذي يتم بالحبيب ويكتمل لكنه يضيفها زوجة ثانية تلي الأولى في اهتمام الحبيب ، وهو ما يبدو بؤرة السرد ومركزه ونقطة تشكل الوعي النوعي لدى القاصة.
الملاحظ على مستوى القراءة أن الرقم يتتابع بإيقاع خاص لا يفوت العين الفاحصة فهو يفصل بين المقاطع والتداعيات مكررا بمفرده فمرتين ثم ثلاثاُ ، ويزداد بعدها ليعود مكررا ثلاث مرات فاثنتين ثم ثلاثا وكأنه دقات قدرية أو ترديدات وندب جنائزي مما يعطي القصة إيقاعا حزينا وملفتا في تراتب مقاطع السرد نفسه.
وتقوم قصة سماء وسواها في المجموعة على اعتماد الحوار أيضا وهو يعكس الروح الحوارية المبنية على تعدد الأصوات لديها فالنقيض-وهو الرجل غالبا –حاضر دوما ومتقابل عدائيا مع الساردة أو بوجود قليل لا يوازي لهفة الساردة وحبها وإذ تسأله عن غيابه ذات سفر يجري بينهما هذا الحوار الذي لا يغيب عنه الرقم اثنان أيضا:
- كم ستغيب؟!
قال وهو يتأكد من بعض اشيائه ومن أنه لم ينس شيئا:
-عشرة أيام في أكثر تقدير..
بصوت خافت قلت :
- وستكون معك!!
التفت إلي محتضنا وجهي بكفيهك
- تعرفين أنك ستكونين معي في المرة الثانية..
وقرب سماء من الواقع عبر وجود الزوجة الثانية في القصة ومشاعرها كمشكلات واقعية لا يمنع استخدامها الخيال المتركز في اصطناع الواقعة أولا وفي التعبير عن وعيها بمعاناة المرأة كنوع مقابل للرجل ويتطور مع وعي بطلاتها وشخصيات قصصها من النساء نمو حدثي منطقي فيغدو الرقم 2 مثلا عدداً في نهاية القصة المختارة للتحليل لأن العدد يدل على الاندماج في معدودات كثيرة فيما يعني الرقم خصوصية ما ، وكما تقول البطلة في تداعياتها المونولوجية الممتدة على مساحة القصة:
يا إلهي !أكاد أختنق..لماذا لا يتركني هذا العدد ولو لمرة واحدة.
أشعر وكأنني محاطة بآلاف العصي المنثنية بهيئة رقمي الذي قاسمني حياتي..تلتف حول عنقي
كأفاعٍ تنفث سمومها، ساحقة عقلي وجسدي..
ثمة ما يلفت حول تماهي الساردة بالرقم 2 وتشكل حياتها بوحيه فقد التفتت إلى ثنائيات جسدها أيضا فثمة العينان واليدان والشفتان والقدمان وكل منها ينعكس عليه جزء من معاناة الساردة بسبب الثنائيات التي كانت ضحيتها:
ظروفك أو
مسؤولياتك أو..
..عملك أو
حياتك السابقة أو
....
المرأة الأولى
المرأة ال..
الرجل المخاطَب المدان والمرأة المعانية بسبب اختيارها هما عنصرا الفكرة هنا لكن القاصة وجدت لهذا الثنائي سرا وسحرا في الرقم 2 الذي كان يشكل إيقاع النص و مركزه.
ج- منى باشراحيل: حياة لحياة (15)
إذا كانت القصة كما رأت منى با شراحيل حياة متحركة ومشحونة إلى درجة الاكتظاظ ، فلا غرابة أن عنوان قصتها اللافتة والتي اخترناها للتحليل كان عنوانها ( حياة) وهي تسرد حياة –وموت – الطفلة ( حياة) التي نضجت فجأة فعوقبت بالموت ظنا من أهلها أن علامات نضجها الدموية التي داهمتها أول مرة في المدرسة كانت دليل جرمها وخطيئتها فنالت تعذيب أخيها حتى تجمد جسدها –بالموت- لحظة معرفة الأم سر الدم المنسال من حياة بعودة مدرستها لتأخذ المعطف الذي غطتها به وأعادتها إلى البيت لتلاقي مصيرها .
القصة صرخة احتجاج قوية على ما يسكن عقل الرجال من الأسرة حول بناتهم ، فالأخ القاتل لم يفهم أن ماحصل لأخته حياة ما هو إلا شيء طبيعي تتعرض له البنت كعلامة على نضوجها بل استنفر ظنونه وفكرته عن البنت ليعذبها طلبا للاعتراف بمن فعل بها ما قاده إليه ظنه .
وتلك الصرخة تتسع دلاليا إذا نحن تأملنا دلالة اسم البنت ( حياة) التي تفقد حياتها فيما تهبها الطبيعة بالنضج أفقا لحياة رحبة تعلن فيها استعدادها لاستمرار النسل عبرها كأنثى، وكما كان شهريار الرجل النموذج يفعل بالفتيات ليلة زواجه منهن انتقاما لما فعلته زوجته ويقتلهن تشفيا فقد كان الاخ يقتل أخته لحظة استعداد جسدها للخصب القادم والعطاء واستمرار البشرية.
وتتنوع في قصة باشراحيل الدلالات التي ينشغل بها النص ، فثمة التقابل بين المدينة التي تنتقل إليها عائلة حياة، والريف الذي تركته وكأنها تستقبل موتها أو ترحل إليه، فالمدينة التي يصفها استهلال النص بأنها(شريرة قاسيةأناسها لا قلوب لهم .. أرواحهم مغلقة..) قدمت لحياة موتا محققا توحي بأن المدينة هي التي فرضت هذا التخلف في التعامل مع جسدة المراة فيما
نفترض أن المدينة مكان لتهذيب الطبائع وتثقيف الأفراد بثقافتها المختلفة عن الريف.
ولكن الأخ يحمل في ذهنه الصورة التي يحتفظ بها المتخلفون عن تعليم الفتيات فيبادر الأم لائما: هذه الفائدة من تعليم البنات!فهو يربط بين الخطيئة التي يتخيلها وبين التعليم لا سيما في المدن التي يصفها باللعنة.
لقد تناولت باشراحيل عدة جوانب لمشكلة حياة في قصتها القصيرة تلتم كلها حول الوعي بدور المرأة والنظر إليها كنوع مختلف وقد وفقت في إدارة حبكة مدوية بقوة وواقعية ، وإن أفلحت في تطوير خط رمزي مواز للسرد الواقعي مستفيدة من الاسم وهوية القاتل وبراءة البنت، ولأن الموت الذي نال الفتاة كان مجانيا وبسبب الجهل المتحكم في الرجل الذي كان قاتل (حياة) في القصة أي قاتل (الحياة) كلها في الوقت الذي تهب فيه المرأة الحياة خصبا و تجددا.
د-هند هيثم: ليلى –الذئب(16)
تستفيد هند هيثم –أحدث القاصات تجربة وعمرا - من حكاية ليلى والذئب المتداولة شعبيا ومدرسيا لتحورها عاكسة فيها وعيها النوعي المدافع عن براءة ليلى وجريمة الذئب ولكن بإرجاع كل منهما إلى نوعه بتأكيد رمزي دال: فليلى أنثى والذئب ذكر لذا فهي تفك ترابطهما بالعطف كي تنجز فعل التحوير الذي هو من مهمات التناص الأساسية ولا يظل مرجع القصة مشتركا مع متنها في الحدث والدلالة ، وبدلا عن ليلى والذئب بصيغة العطف بينهما بالحرف ( و) تقترح هند الدمج الخطي ليلى –الذئب وهناك هدف تكشف عنه تحويرات القصة للحكاية .
يبدأ السرد في قصة هند هيثم بلسان رواة جمعيين خارجيين ( لا ندري ما حدث بالضبط بعد أن خرجت ليلى من بطن الذئب...) هكذا تحدد القصة زمنها ودلالتها فكل شيء يبدأ بعد أن أكل الذئب ليلى لكنه لم يأكلها حقيقة بل تغلبت عليه فخرجت من بطنه لتثأر لجدتها ( لكن الثابت أن عددا من الحوادث المروعة قد حدثت في منطقتنا ولم تعرف الأسباب) ومن هذه الاحداث العثور على جثث ذئب منهوش العنق وجثتين لوحشين غريبين مقتولين بفأس وبقايا جثة حطاب، فالقتلى كلهم من الذكور إذن حتى ذلك الحطاب الذي ينقذ ليلى من موت ثان يشرع فيه وحشان مرعبان يعاجلهما الحطاب بفأسه فيقتلهما لكنه ينتهي نهاية مماثلة فقد صار فجأة وهو يستريح تحت الشجرة بلا عنق وتناثر لحمه ليملأ سلة ليلى التي لازمتها في الحياة وهي ذاهبة بالهدايا والخبز لجدتها، بعد ذلك لم يسمع أحد شيئا عن ليلى وجدتها.
كانت مجزرة رؤوس متطايرة تعود كلها للذكور فيما سلمت ليلى وربما جدتها في أحد احتمالات النهاية. ويشكل الخيال بؤرة السرد مع التناص المعيد للذاكرة قطعا من حكاية ليلى وجدتها والذئب الذي غدر بها في الطريق .
وتسترسل هند التي تعتني بالتفاصيل وتستسلم لمعركة الخيال وضحايا الثار لمقتل ليلى ..الثأر الذي ينال الذكور لا الذئب وحده.
تحتشد القصة بالأفعال والأحداث وتنغلق نهايتها تاركة الاحتمالات وافتراضات الإمكان دون أن تحدد نهاية ما سوى نجاة –واختفاء- ليلى والجدة ربما لتستأنف الأنثى دورها في استمرار الحياة في مكان آخر أكثر أمنا وخاليا من الذئاب والوحوش.
لقد كانت الحكاية معينا سرديا عثرت فيه الكاتبة على ما يقوي رمزية قصتها ولكن ضاعت في الطريق إلى ذلك إشارات ودلالات من أبرزها ما لقي الحطاب المخلّص بشجاعته والمنقذ لليلى من القاتلين الوحشين فقد ضاع عنقه هو أيضا بعد أن أنجز مهمته كمخلص دون أن نستشف دلالة سوى كونه ذكرا.
تتميز قصة هند بالاختزال والاقتصاد رغم عنايتها بالجزئيات والتفاصيل التي هيأتها من بعد لتنتقل لكتابة الرواية في اكثر من تجربة لافتة وجديرة بالدراسة.
الهوامش
1- تنظر على سبيل المثال شهادة امنة النصيري في مجلة معين –العدد 191-1995 .
2- د. حاتم الصكر: انفجار الصمت-الكتابة النسوية في اليمن-دراسات ومختارات، اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين ومركز عبادي للنشر، صنعاء2003.
3- الشهادات التي ضمها الملحق الثاني في كتابي هي الشهادات التي قدمتها سبع أديبات يمنيات في مؤتمر الأدب اليمني الذي أقامه اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في صنعاء عام 1997 وهن: فاطمة العشبي ونبيلة الزبير وهدى أبلان وأروى عثمان وابتسام المتوكل وفاطمة محمد بن محمد وأزهار فايع .
4- ريا أحمد: يوم كان السرد أنثى، مركز عبادي للدراسات ، صنعاء2008
5- من جيل التأسيس نمثل بأسماء : ف. أحمد وسلمى بامطرف ونبيهة عبدالحميد وآمال الشامي ورؤوفة حسن وثريا منقوش وشفيقة زوقري ورمزية الإرياني وعزيزة عبدالله وزهرة رحمة الله ونهلة عبدالله وشفاء منصر وشفيقة زوقري ومن الجيل الثاني فاطمة العشبي ونبيلة الزبير وهدى أبلان وامنة يوسف ونبيلة الكبسي ومحاسن الحواتي ونادية الكوكباني وأروى عثمان وهدى العطاس وابتسام المتوكل ونادية مرعي وأفراح الصديق وسواهن.
6- انطلاق المتوكل: التحرر الشخصي والنضال الوطني في القصص القصيرة اليمنيةالقديمة للنساء، مجلة المسار ، العدد الأول –المجلد الثاني، 1995.
7-سوسن العريقي: من مجموعة شعرية غير منشورة .
8-نوال سلطان الجوبري: المساء ليس غريبا تماما، الامانة العامة لجوائز رئيس الجمهورية للشباب ، 2006
9- ليلى ألهان : قليلا ما أكون ، دار أزمنة، عمان 2007
10-ميسون الإرياني: القصيدة منشورة في الصفحة الثقافية –جريدة الثورة ، صنعاء 4-4- 2009
11- الشهادات في كتاب ريا أحمد يوم كان السرد أنثى ،178و188 و203
12-نجلاء العمري: قلبك يا صديقي-قصص قصيرة ، دار وجوه، الرياض2007
13 - مجلة غيمان- العدد السادس- صنعاء- شتاء 2008م- ص 194 ومابعدها.
14- سماء علي الصباحي: اثنان ..اثنان فقط –قصص مركز عبادي للنشر، صنعاء2007
15- منى با شراحيل: قارعة الريح قصص قصيرة، اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيينن، صنعاء2006
16- هند هيثم –ضمن مختارات ريا أحمد: يوم كان السرد أنثى، ص156.
* ملامح جديدة في الخطاب النسوي في اليمن..مقاربات لنصوص قصصية وشعرية من الجيل الثالث (1-2)