د / علي مطهر العثربي -
لنستفد من عظات التاريخ
أثبتت الأحداث التاريخية التي مر بها اليمن أن اليمنيين كانوا وما زالوا دعاة سلام وحرية ينطلقون من إرث حضاري مليء بالقيم الإنسانية التي أسهمت بشكل إيجابي في بناء الحضارة الإنسانية عبر مختلف العصور ، ولعل من هذه القيم التي أرسى اليمنيون تقاليدها الديمقراطية والحرية ، حيث سجل التاريخ الأنموذج الفريد لممارسة الديمقراطية في اليمن قبل آلاف السنين ، وقامت الحضارة اليمنية القديمة على هذا الأساس سواء في الدولة المعينية أو السبئية أو الحميرية ، بل أن سيادة الدولة المركزية عبر التاريخ لم تتم إلا في ظل الديمقراطية والحرية وقد سجل ذلك القرآن عند حكم اليمن امرأة جعلت من الشورى "الديمقراطية" وسيلتها لتثبيت دعائم الحكم وتوطيد أركانه .. حيث قال تعالى :"قالت يا أيها الملأ إني ألقي إليَّ كتاب كريم " صدق الله العظيم .
فعندما تسلمت الرسالة عبر أول سفير دبلوماسي (الهدهد ) لم تنفرد باتخاذ القرار وإنما جمعت حكام الولايات وأعضاء المجالس المحلية في تلك الولايات والأقاليم وطرحت الأمر للتشاور .. حيث قال تعالى على لسانها :"قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون " صدق الله العظيم ، وهنا تعالوا نلاحظ جميعاً كيفية اتخاذ القرار في تلك الحضارة الإنسانية فقد طرح الأمر للمناقشة والمداولة وإبداء الرأي وتقليب الآراء وطرح البدائل ودراسة النتائج المتوقعة وتحديد الآثار التي قد تحدث جراء اتخاذ أي من البدائل المطروحة من المجلس الأعلى لاتخاذ القرارات المصيرية ، فبعد أن قلب أصحاب الحل والعقد الآراء وصلوا إلى أصوبها وأكثرها نفعاً للأمة .. قال تعالى " قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين " صدق الله العظيم ، وفوضوا الملكة باتخاذ القرار المناسب ، وهنا تجلت عظمة الحكمة اليمانية التي نفخر بها دائماً ، حيث اتخذت الملكة جملة من التدابير السياسية والدبلوماسية .. قال تعالى على لسانها :"وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون " صدق الله العظيم ، وكانت هذه الدبلوماسية بمثابة الاختبار العملي لسبر أغوار مصدر القوة التي يتمتع بها نبي الله سليمان عليه السلام وأوضحت الملكة لقومها بالقول :"إن كان ملكاً ويرغب في التوسع وتقوده أهواؤه إلى المزيد من التسلط والسيطرة على الآخرين فسيقبل الهدية ويطمع في غيرها ، وإن كان مصدر القوة التي يتمتع بها من عند الله فسيرفض الهدية وينطلق لتنفيذ أمر الله .
وكانت دبلوماسية الملكة اليمنية قد عبرت عن عظمة الحكمة حيث أن نبي الله سليمان قد رد بقول الله تعالى " فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون " صدق الله العظيم ، وبعث رسالة شفوية مع من حمل إليه الهدية بقول الله تعالى " ارجع إليهم فلنأتيهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون " صدق الله العظيم ، عندها عرضت الملكة الأمر على المجلس الأعلى لاتخاذ القرارات المصيرية وكان إجماع الأمة على اتخاذ البديل الأصوب والأنفع وهو الدخول في السلم كافة ، والأكثر من ذلك تبني اليمنيون دعوة نبي الله سليمان عليه السلام ودافعوا عنها لأنها دعوة حق جمعت بين الحرية والشورى التي ينشدها اليمنيون .
ولئن كان القرآن الكريم والتاريخ القديم قد ساقا هذا الأنموذج الإنساني العظيم في الحضارة اليمنية القديمة ليبرهن على عظمة اليمنيين وإسهامهم في صنع الحضارة وسعيهم لمد جسور المحبة والسلام وصنع الثقة بين أبناء الإنسانية فإنهما قد ساقا كذلك مثالاً لانهيار الحضارة وتفكك الأمة عندما ينفرد الحاكم بالقرار وتميل بعض القوى السياسية إلى تحقيق مصالحها الآنية والضيقة على حساب الإرادة الكلية للشعب .. وهو ما حدث في أواخر عهد الدولة الحميرية في عهد الملك ذو نواس الحميري الذي مال إلى آرائه الفردية وبعض الآراء التي لم تحدث توازناً بين رغبات الأمة ومصالحها جمعاء .. فأخذ الآخرون مأخذاً شديداً على الملك وتفرقوا من حوله وتخاذلوا عن إبداء النصح ووضع البدائل المناسبة لتحقيق الصالح العام .. غير أن هؤلاء مالوا إلى منافعهم الخاصة التي رأوا أنها لم تتحقق وكأن حالهم قد قال في ذلك الحين " علي وعلى أعدائي " بل وتداعي الحاقدون على اليمن وحضارته الإنسانية واستغلوا ذلك الخلاف استغلالاً قذراً أتى التاريخ المعاصر بأمثاله في العراق حالياً وفي الصومال واستقووا بالعدو الخارجي ومكنوه في ذلك الحين من استعمار اليمن لأول مرة في تاريخ البشرية والحضارة اليمنية العظمى ، الأمر الذي أدى إلى انهيار كامل للدولة اليمنية الثالثة وتفرق اليمنيون في بقاع الأرض ثم جاء الملك الحميري سيف بن ذي يزن وبذل جهداً عظيماً سجل له التاريخ ، حيث طهر اليمن من الوجود الاستعماري وأعاد لحمته ثم جاء الإسلام وكان ما كان من القوة والضعف ثم الدويلات المتناحرة والمتقاتلة التي ظهرت في اليمن أواخر تلك المرحلة ودخول الاستعمار البريطاني 1838م إلى الشريط الساحلي لجنوب البلاد.
إن التاريخ السياسي لليمن قد قدم نماذج من نظام الحكم الذي تمكن فيه اليمنيون من التوحد ، ولعلنا اليوم في النموذج الرابع الذي يقوده المواطن علي عبد الله صالح رئيس الجمهورية اليمنية ، الذي بزغ نجمه في 17 يوليو 1978م وأتى إلى حكم البلاد عبر الشورى والديمقراطية التي أرسى تقاليدها وقدم أنموذجاً رائعاً للتنافس الشريف والاحتكام إلى صندوق الاقتراع الحر المباشر الذي عبر عن الرضا والقبول بما اختاره ممثلو الإرادة الكلية للشعب في الـ(17) من يوليو 1978م.
وقد تمكن هذا القائد الفذ الذي امتلك زمام الحكمة اليمانية من إعادة تحقيق وحدة اليمن والأمجاد الغابرة وقضى على الهوان والذل الذي عانيناه قروناً طويلة ذقنا فيها ويلات الحروب والشتات والتمزق والتآمر وسفك الدماء حتى جاء هذا القائد الذي استحق بجدارة أن يكون رمزاً وطنياً وقومياً وذلك حقه وليس فيه تملق أو مجاملة .. بل تاريخ نسجله للأجيال لتعرف سجل الرجل الناصع بالوفاء للشعب ، لأنه جاء بقلب مفتوح للحوار والقبول بالرأي والرأي الأخر ، ولذلك تمكن من صنع المنجزات العظام وما زال قلبه وعقله مفتوحين للجميع ومنهجه الحوار ، إلا أننا –للأسف – نجد أن بعض القوى المعارضة التي غلبت مصالحها الخاصة والشخصية على المصالح العليا للوطن ، قد بدأت تسير في طريق أعوج ونفق مظلم ، بل وصل الأمر ببعضهم إلى الاستقواء بالعدو الخارجي ظناً منه بأن التاريخ يعيد نفسه وأن الشعب سيقبل المستعمر من جديد .. دون أن يدرك أولئك النفر العاجزون عن تقديم الرؤى الوطنية المفيدة في استكمال بناء الدولة الحديثة بأن يمن الثاني والعشرين من مايو 1990م لن يقبل إلا بمن ينطلق من الشعب وإلى الشعب ، وسيفوت الفرصة على دعاة الردة وأعوانهم ومثيري الفتن ومنظريهم الذين – للأسف – استخدموا علمهم لإثارة الفتنة وتزيين المنكر ، وصنع الجريمة وحبك المؤامرات على الأمة ومقدراتها ، وليعلم الجميع بأن اليمن يرتقي اليوم السلم الحضاري الإنساني ومن المستحيل أن يعود إلى الخلف ، وليدرك الجميع بأن نصر الله حليف الشرفاء المخلصين له ثم للوطن – بإذن الله .