المؤتمرنت - سعاد الحلمي* -
الكلام في اجازة.. قصة قصيرة
مواقف كثيرة تلك التي تعرضت لها طوال فترات حياتي المختلفة جعلتني أؤمن بالحكمة القائلة ( إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ) لذلك فقد قررت من الآن أن أصوم عن الكلام ، نعم .... وأن أعطي لساني إجازة بعد رحلة طويلة من العمل المضني والشاق، فأخذت أعد العدة لذلك، وجهزت بطاقات خاصة لهذا القرار !كان أولها الإعلان الذي وضعته على باب غرفتي ليراه جميع أهلي، وقد كتبت عليه: (( إعلان هام: منذ الآن ( صالح ) في إجازة عن الكلام)). ، وبطاقتين صغيرتين وضعتهما في جيبي كتبت على وجه الأولى : ( إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ) ، وعلى الوجه الثاني : ( لسانك حصانك إن صنته صانك ) ، والبطاقة الأخرى كتبت فيها : ( عذرا ...أنا في إجازة من الكلام ).
وهكذا استيقظت صباحا وأنا في غاية السعادة للقرار الذي اتخذته ليلة البارحة ، فوجدت أهلي في استقبالي خارج الغرفة ليلقي علي كل واحد منهم نكتته وسخريته ، ولكن هيهات أن أعدل عن قراري ، تناولت وجبة الإفطار في هدوء ، وبعدما انتهيت قبلت رأس الوالد مودعا ، وكذلك رأس والدتي ، ثم أشرت لها بأن تدعوا لي ، وانطلقت بسيارتي إلى رحاب الجامعة . وصلت إلى هناك مبكرا بعض الشئ وذلك لأوضح قراري للزملاء ، وعلى الرغم من شرحي لهم قراري بصرامة وجدية على ورقة مسودة , إلا أنهم أخذوا الموضوع وكأنها إحدى مزحاتي !! .
في قاعة المحاضرات , وحين بدأ الدكتور في مراجعة المحاضرة السابقة وإلقاء الأسئلة توقف عند سؤال لم يستطع أحد من الطلبة الإجابة عليه ، إذ بدت الدهشة على ملامح الجميع , وبدا أنه لم يقرأ أحد الدرس السابق طوال يومي الخميس والجمعة ، ولإنقاذ الموقف وقبل أن يبدأ الدكتور في هجومه المعتاد على جيل اليوم ، وشباب اليوم الغير واعي للمسئولية الملقاة على عاتقه والذي لايشبه أبدا جيل الأمس المثقف والمتفاني في خدمة مجتمعه والذي لم ولن تنجب الأمهات مثله_ حيث أخرجه هو وزملائه فقط_ ، ولأنهي الشريط الذي تصدع من كثرة ما تستخدمه حنجرته , رفعت يدي للإجابة :
الدكتور : تفضل ياصالح .
فما كان مني إلا أن أشرت بيدي أن انتظر !! وشرعت في كتابة الجواب على ورقة، استغرب الدكتور من تصرفي، بينما همس زميلي ( علي ) في أذني:
أرجوك تكلم ، لاتفضحنا .
الدكتور : ماذا هناك يا صالح لم لاتجيب ؟
فسلمته الإجابة التي انتهيت من كتابتها .
الدكتور:ولسانك ماذا حدث له ؟
فأخرجت له بطاقة الحكمة من جيبي ( إذا كان الكلام ......)
الدكتور : ماهذا الكلام ياصالح ؟
قال ذلك مستنكرا .فقلبت البطاقة على الوجه الآخر ( لسانك حصانك .....)
الدكتور : هل تمزح معي ياولد ؟
فكتبت في ورقة: ( عذرا، أنني لا أمزح وهذا قراري الذي لن أتراجع عنه ) الدكتور: وان خيرتك بين الكلام وبين الحرمان من المادة ؟
أشرت بيدي مستنكرا ......لماذا ؟
الدكتور: لماذا ؟ لأنني لن أقبل بهذه المهزلة في محاضراتي .....ها .... ماذا تختار ؟كتبت : ( لاتغضب أرجوك ، وتفهم موقفي ,أعطني فرصة لأشرح لك )
الدكتور: اختر الآن وبسرعة، ولا تضيع وقتي.
لممت كتبي، بينما فتح هو لي باب القاعة، وعندما هممت بالانصراف كتبت له وكمحاولة أخيرة: ( ألن يشفع عندك أدبي واجتهادي في مادتك ؟ ) وسلمته إياها، فرد على الفور: دمرت هذا كله بتصرفك الغريب.
خرج صالح من القاعة أمام دهشة زملائه وصمتهم ، وتوجه إلى مكتب عميد الجامعة ليكتشف أنه في اجتماع خاص ، ( وليكن ، حالما ينتهي الاجتماع أدخل على العميد وأشرح له كل ماحدث ، وسنرى من الذي على حق ، أنا أم قرار هذا الدكتور المتغطرس ) ... وهكذا حدث نفسه وهو يسند ظهره على جدار أمام مكتب العميد منتظرا انتهاء الاجتماع ، ولكن الاجتماع طال وبدأ الملل يتسرب إلى نفسه فقرر المسكين الخروج من الجامعة والذهاب إلى إحدى المحلات التي تبيع العصائر الطازجة ليريح أعصابه قليلا في انتظار المحاضرة الثانية .
خرج صالح من الحرم الجامعي وبدأ يخترق شوارع المدينة ، ساعته تشير إلى التاسعة والربع ، الشوارع بدت فارغة من المارة والسيارات أيضا إلا ما ندر ، وعند بلوغه المنعطف حيث بائع العصير المفضل لديه وقد أصبح على بعد أمتار منه فوجئ بسيارة سوداء تسير بسرعة في الاتجاه المعاكس ، وكادت ترتطم به لولا تفاديه لها ، ولكن السيارة الخضراء والتي كانت خلفه لم تستطع تدارك الموقف مما أدى إلى ارتطام السيارتان فأدى هذا الارتطام الشديد إلى رجوع السيارة السوداء للخلف لترتطم مرة أخرى ولكن بسيارة صالح هذه المرة .نزل صالح من سيارته ليرى السيارة المجنونة وهي تلوذ بالفرار، فنظر إلى السيارة الخضراء التي ارتطمت هي الأخرى بسيارة مركونة على جانب الطريق وبدا صاحبها في حالة صعبة !! وجد صالح نفسه في أقل من ساعة داخل ممرات المستشفى بعد أن تم إنقاذ الرجل الذي تلقى صدمتان واحدة من الأمام أولا والثانية من الخلف ، كما وجد نفسه محاطا برجال الشرطة و ..غير قادر على ايصال فكرته إليهم ، فما كان منهم إلا أن اصطحبوه معهم وهناك .....
الشرطي: هل لديك بطاقتك الشخصية ؟
_ هز رأسه بالإيجاب وسلمها له ، فباشر الشرطي بكتابة بياناته وأكمل الشرطي : إذن قل لي ياصالح كيف وقع الحادث ؟
_ أخرج صالح ورقة كان قد استعارها من الممرضة في المستشفى وكتب فيها وصف كامل لكل ماحدث مضمنا ذلك مواصفات السيارة المجنونة والرقمين الأوليين من لوحتها ، فأخذ الشرطي الورقة وقطعها بهدوء !!
الشرطي : لقد فهمنا كل ماجاء في هذه الورقة ، ولكن قل لي لماذا رفضت الحديث مع زملائي وأنتم في المستشفى واكتفيت بنشر هذه الورقة أمامهم ؟
_ أخرج بطاقة حكمته .
الشرطي : ماهذه ؟ حكمة اليوم التي ستكتبها على السبورة ؟ ... تكلم ياصالح هل أنت أخرس ؟
_ هز رأسه بالنفي .
الشرطي: إذن تكلم._ فشرع يكتب ..... ( لقد تذكرت إنني رأيت الفاعل فقد واجهني في البداية كما تعلم ، ثم توقف لبرهة بعد الحادث ، لقد بدا لي وكأنه طفل في الخامسة عشر من عمره وعلى مايبدو انه هارب من المدرسة )
الشرطي وبعد أن قرأ ماكتب : إن كل ماقلته رائع وجميل ولكن لن ينفعنا إلا إذا تكلمت .
وبدت على ملامح صالح الدهشة ، فأكمل الشرطي موضحا : لأنك لست أخرس ويجب أن تدلي بشهادتك شفهيا ، والان ماذا قلت ؟
امتنع صالح عن الحديث ، وأصر الشرطي على رأيه ، فكانت النتيجة حبسه في الزنزانة مؤقتا حتى يحضر والده لاقناعه بالحديث ، ولأنه من جهة أخرى شك في قواه العقلية !!
خيم الليل على صالح وقد تمدد على الأرض، واضعا يده اليمنى تحت خده في زنزانة ضمت ثلاثة آخرين مثله في انتظار من يأتي لكفالتهم، وبينما نام الجميع ظل صالح يفكر ويحدث نفسه: ( يوم واحد فقط مر على تطبيقي للحكمة، وحدث كل هذا لي..... يتم طردي من المحاضرة، بعد أن يسخر مني الدكتور ، وقد يحرمني من مادته , ثم يُــــلقى بي في السجن بعد أن يظن الشرطي بأني مجنون ....... ولكن لايهم فما هي إلا ساعات قليلة وتشرق الشمس ويحضر والدي لإخراجي من هنا وأكمل التحدي وأثبت للجميع بأني على حق ).
مسكين صالح فهو ليعلم بأن والده قرر تركه مسجونا لثلاثة أيام عقابا له، وحتى يتوقف عن اتخاذ قرارات مجنونة في المستقبل
*قاصة سعودية