نجيب غـــــلاب -
الوحدةهي الحتمية التاريخية الصانعة للسلام والتقدم
التاريخ اليمني تتحكم فيه فكرة محورية وهي سعي الإنسان اليمني من أجل تحقيق السلم والأمن لأن هذا السعي هو الطريق الوحيد الذي يحقق النهوض والتقدم والذي يمكن الأنسان اليمني من الابداع والعطاء، والتجربة التاريخية القديمة وفي العهد الإسلامي وفي العصر الحديث تؤكد أن الوحدة هي السلم والأمن، أي أن الوحدة هي الحتمية التاريخية التي يسعى لها التاريخ اليمني. ويؤكد الباحثون أن الفرقة عادة ما تقود أبناء اليمن إلى الصراع، وأن الفرقة هي نتاج تنامي قوى تتناقض مصالحها الآنية والأنانية مع التوحد، وبدراسة التاريخ اليمني سنجد أن دعاة الانقسام والفرقة ليسوا إلا قوى انتهازية تتمكن من إثارة العصبيات وتحفيز وتعبئة الناس بالنعرة القبلية أو المذهبية أو المناطقية وتذكي في النفوس قيماً سلبية تؤسس للكراهية والحقد، وتدفعهم إلى الحروب المتلاحقة.
ولأن التاريخ يسعى تلقائيا نحو التوحد فإن الصراعات التي تنتجها القوى الانتهازية تولد قناعات حاسمة بأن تجاوز الحروب والصراعات لن يكون إلا بتحقيق لحمة يمانية قوية تقوم على التعاون والاحترام المتبادل وبذل التضحيات العظيمة من أجل تحقيق السلم.
وفي هذا العصر فإن الدولة المدنية هي الخيار الحاسم بالنسبة لأبناء اليمن لتحقيق وحدتهم، ولابد من الاستفادة من المنتج العقلي للانسان المعاصر لتطوير الدولة والمجتمع، فالأفكار التي أسست للدولة الوطنية والتي انتجها العقل الانساني أصبحت هي المقدمة الأولى والضرورة حتى يتمكن الانسان اليمني. والمتابع لتجارب الآخرين لابد أن يلاحظ أن التقدم الذي حققه الانسان في هذا العصر في كافة المجالات ما كان له أن يتحقق إلا بدولة وطنية معبرة عن مصالح جميع مواطنيها وتعبر عن هويتهم المشتركة.
والدولة الوطنية مدخل جديد على الواقع اليمني وتحتاج إلى نضال إيجابي من الجميع حتى يترسخ وجودها، فاليمن قبل الثورة اليمنية لم يكن لديها دولة، و كانت منقسمة بين تسلط أمامي يؤسس شرعيته على أفكار عنصرية لا علاقة لها بالدين الاسلامي الذي جعل المساواة هي أصل الدين ولبه، ولم يتمكن هذا النظام من تكوين دولة حقيقية حتى بمفاهيم العصور الوسطى، فالنظام الإمامي كان متناقضاً كلياً مع الطبيعة اليمنية وأدخل أبناء اليمن في نزاعات قبلية ومناطقية ومذهبية واستخدم كل طرف ضد الآخر، كما استخدم القتل والإرهاب لمواجهة أي طرف ينادي بالمساواة والعدالة.
ويمكن القول أيضا إن الجنوب اليمني قسمه الاستعمار إلى سلطنات مغلقة على نفسها ومتنافسة فيما بينها وولائها للمستعمر، وكان للاستعمار هدفان أن يظل الشمال محكوماً بالطغاة ومغلقاً على نفسه حتى يستمر التخلف والجهل وبالتالي يظل قادراً على فرض هيمنته والهدف الثاني أن يطور عدن ليخدم مصالحه ويجعل محيطها متخلفاً ومرتبطة مصالحه بالمستعمر، وكان تطور ابناء السلطنات من ابناء الفلاحين خطاً أحمر حتى يظلوا تابعين ضعفاء للسلطان الموالي للاستعمار، وهذا الهدف كان مدعوماً بمبدأ إدخال السلطنات فيما بينها بصراعات وادخال كل سلطنة بصراع داخلي بين المتنافسين، وكان الغرض من ذلك أن يظل هو المتحكم والمهيمن وكل الأطراف بيده، ومن أهداف التقسيم إعاقة بناء الدولة.
ظلت اليمن في حالة من الانقسام والصراع والقتال لخدمة الظالمين، ومع التطور الذي لحق بالعالم بدأ التعليم ينتشر ببطء شديد وتمكن بعض الأفراد من فهم عصرهم وتأثروا بالثقافة الانسانية التي انتجها العقل الانساني في العصور الحديثة، وأدركوا مدى الظلم والقهر الذي يعيشه الوطن اليمني، وبدأت الحركة الوطنية تؤسس لنضالها متأثرة بفكر النور المتحيز لقيم المساواة والحرية والعدالة، وقد تمكنت الحركة الوطنية اليمنية من توحيد صفوفها في عدن وصنعاء وأنتجت ثورة سبتمبر وهي حصيلة لنضالات طويلة، وتجاوزت الحركة الوطنية تاريخ التخلف بصناعة الدولة، وبعد أن تمكنت الطلائع المتنورة من الانتصار على الإمامة وتأسيس دولة يمنية لها أهداف عصرية واضحة اتجهت نحو الجنوب وأعلنت كفاحها المسلح لتحرير الجنوب وتوحيده، وقد تمكنت الحركة الوطنية من تحقيق حلمها في طرد الاستعمار، وبناء دولة.
كان المفترض أن تتوحد اليمن بعد إعلان الاستقلال في الجنوب إلا أن تكوين دولة شطرية في الجنوب كان نتاج ظروف تاريخية صعبة فالقوى المضادة للثورة كانت تعمل بكل قوة لمقاومة التحرر اليمني، وتمكنت بعض القوى الخفية وعبر مؤامرات محبوكة بدقة من خداع الحركة الوطنية وتوريطها في تناقضات وصراعات عبثية وهذا أعاق تحقيق الدولة الوطنية الواحدة، كما أن أطرافاً دولية وأقليمية كانت مصالحها تقتضي تقسيم البلد إلى دولتين.
وهنا يمكن القول ان انقسام اليمن إلى شطرين أدخلهما في صراعات دامية وعبثية، وكانت هذه الصراعات نتاجاً طبيعياً للفرقة والانقسام، ونتاجاً لتجاوز القيمة الجوهرية والأولى المؤسسة لفكر الحركة الوطنية، فالنضالات التي حدثت والثورات التي قادها الأحرار ضد الظلم والقهر كان هدفها هو توحيد اليمن في دولة وطنية واحدة، لذا يمكن القول إن الثورة اليمنية كانت ناقصة ومشلولة في ظل التشطير ولم تكتمل ثورة أبناء اليمن إلا بالوحدة التي تم إعلانها في 22مايو 1990م.
مع الوحدة تحققت إرادة أبناء اليمن وانتصر التاريخ اليمني لحقيقته الأولى في هذا العصر وأعاد تركيب الجسد المقطع والروح المشتتة لتبدأ الحياة من جديد، مع الوحدة خلق ابناء اليمن إرادة الحياة وبدأت مسيرة التقدم نحو العصر وبدأوا يصيغون قيم النهوض الحضاري، ومع تشكل الدولة الوطنية الواحدة أكتملت الثورة، وأصبحت الحرية هي القوة المحركة لإصلاح الواقع فقد أصبحت الديمقراطية والانفتاح على العالم قيماً أصيلة لحماية الجمهورية اليمنية.
والخلاصة ان التفرقة والشتات والصراعات التاريخية عوامل سلبية تم تجاوزها بالثورة والوحدة والديمقراطية، ورغم النجاحات إلا أن هناك من يحاول إعادة التاريخ إلى الوراء ويحاول أن يدافع عن مصالحه الخاصة والآنية من خلال إعادة انتاج التاريخ المتخلف والقيم المتخلفة التي كانت مسيطرة على الناس، بل أن هناك من يعمل من خلال التزوير والتزييف والخداع من خلال بعث وترديد تفسير للتاريخ يناقض حقيقة التاريخ اليمني ويخدم مصالح غبية لا تدرك واقعها ولا تدافع عن المستقبل بل تريد الماضي باعتباره أكثر خدمة لمصالحهم حتى وان كان مدمراً لمستقبل الأجيال اليمنية الحالية والقادمة... إن التفسيرات الشاذة المناقضة لقيم التوحد هي حالة من الردة ونزعة خبيثة مدمره تشوش على القيم العظيمة التي انتصرت لها الوحدة اليمنية.
لابد أن نواجهه بكل قوة كل المحاولات التي تهدف إلى إعادة إنتاج الماضي وتكرار تجربته وان ظهرت بملامح عصرية، ان دستور الجمهورية اليمنية دستور مرن يتطور بما يخدم مصالح اليمن ويرسخ وحدته ويجذرها، لذا فإن الدستور من أجل تجذير الوحدة يقبل التنوع في البنية المجتمعية، فالفرد له حق كامل في التعبير عن إرادته بما لا يناهض السلم الاجتماعي والقيم التي تؤسس للعيش المشترك، وبما لا يهدد الوحدة ودولتها بقيم مناهضة للعصر كضرورة حتمية لصناعة التقدم.
ان المحاولات الشاذة والخبيثة التي يقوم بها البعض لقراءة تاريخ اليمن من منظور يرسخ الفكر الطائفي، أو يوظف التاريخ اليمني بما يخدم رؤية فكرية او سياسية مناهضة للثورة والوحدة والديمقراطية والقيم المعاصرة، تمثل أمراضا قاتلة للمستقبل اليمني، ومواجهتها تمثل أعلى مراحل النضال في هذه الفترات التاريخية التي تسعى جاهدة لتحقيق يمن حر موحد ومعاصر.
*عن الجمهورية