محمد حسين العيدروس -
قوة الدولة بقوة القانون!!
ارتبطت مفاهيم قوة الدولة في أذهان البعض بقدرتها على البطش، والفتك بمواطنيها، والتسلط على شعبها.. ذلك لأن التجارب الماضية التي عاشت تحت نير الأنظمة الإمامية والشمولية منحتها هذا الإحساس، وصار في ثقافتها الشعبية أن «جندي الإمام» الذي لا يحمل في بندقيته سوى عدة رصاصات عهده، ويسوق قبيلة بأكملها وراءه هو الأنموذج لقوة الدولة، في الوقت الذي هو لم يكن سوى أنموذجاً لاستبداد الدولة وطغيانها، واستهتارها بكرامة الشعب، وإنسانيتها.
وفي بعض تجاربنا اليمنية كانت الأنظمة الشمولية تفتح زنازينها للاعتقالات الجائرة، وتمارس الاغتيالات السياسية والسحل في الشوارع لمجرد زلة لسان، أو شكوك بعدم الولاء تدور في مخيلة أحدهم.. ومع هذا نجد من يعد ذلك أنموذجاً لقوة الدولة، وليس لاستبدادها، واستهتارها بالكرامة الإنسانية..!
وطالما وأن تلك الممارسات لا تمثل قوة الدولة، في مفهوم الغالبية من الناس إذن: أين تكمن هذه القوة إن لم تكن في قدراتها على البطش والفتك؟
لا شك أن ظهور مفهوم الدولة جاء مقترنا بفلسفة عميقة قوامها «الدستور» الذي يمثل النظام والقانون الذي تتحدد وفق نصوصه حقوق وواجبات الجميع- سلطة وشعب- والذي يتم شرحه بجملة من القوانين الوضعية المتخصصة.. وبالتالي فإن قدرة المجتمع على تنظيم علاقاته وفق محددات الدستور والقوانين هو الذي يمنح الدولة قوتها من خلال ما يكفله ذلك السلوك من أمن واستقرار وتعايش سلمي بين مختلف الفئات والمذاهب والطوائف والقوى السياسية والفكرية بتعدد مناهلها.
قد يعتقد البعض أن القانون أمر مختص بأجهزة الدولة، وهي المعني بتطبيقه والمسؤول عما يترتب عنه.. وهو قول وإن كان لا يخلو من الحقيقة غير أنه تنقصه كثير من الحكمة والمنطق، إذ أن احترام القانون هو الثقافة التي تميز بين المجتمعات المتحضرة والمجتمعات الهمجية- أي أنه العنوان الذي يصنف به الفرد والمجتمع نفسه، وما لم يتحمس الجميع للتحلي بثقافة قانونية فإن من المستحيل لأحد التعايش بسلام حتى مع جاره، طالما وحدود العلاقات غائبة- خاصة وأننا في اليمن «حصرياً» نجعل الشريعة الإسلامية مصدراً وحيداً للتشريع، وبالتالي يصبح القانون في بلادنا منهجاً لأحكام الشريعة وليس لأحكام وضعها النظام السياسي، أو الحزب الحاكم، أو قادة الأحزاب مجتمعة.. بل هي نصوص شرعية بصياغة لغوية جديدة.. ومن هنا يكون احترام القانون بمثابة جزء من احترام القيم العقائدية الإسلامية للمجتمع والدولة على حد سواء.
وعندما يتم خرق القانون من قبل فرد أو فئة فإن الأمر يعكس حينئذ اختلالا في القيم الأخلاقية لهذا الفرد أو الفئة، يتوجب على الجميع إصلاحها، دولة وقوى وطنية، لأن تفشي السرقة، أو المخدرات أو أعمال التقطع والاختطافات هي في الأصل انتهاك لقيمنا الإسلامية، ومثلما تقع على الدولة مسئولية ضبط المنتهكين، ومحاسبتهم، واتخاذ التدابير التي تحد من الظاهرة فإن مؤسسات المجتمع الأخرى مسئولة أيضا عن تقويم سلوك الأفراد، وغرس الإيمان ومخافة الله في نفوسها، ونشر الوعي المضاد لها، طالما وأن الضرر يطال الجميع ويخل بأمن وسلام المجتمع كاملاً.. فأجهزة الدولة قد تقوم بواجب الضبط على أكمل وجه، ولكن ما جدوى ذلك إن كانت بقية قوى المجتمع تشجع وتروج لخرق القانون، وتنمي في نفوس الشباب بأن ذلك ضرب من الشجاعة والبطولة!!؟
ومن هنا يمكن القول أن قوة الدولة هي بقوة القانون، وقوة القانون مرهونة بقوة الوعي المجتمعي، وفاعلية القوى الوطنية في غرس الثقافة القانونية كأحد مظاهر المجتمعات المتحضرة.. ولا يمكن أن نعتبر البطش والاستبداد معياراً للقوة.. مثلما يفعل البعض ويستشهد بما كان يقوم به «جندي الإمام» حين يذهب لإحضار قبيلة كاملة - كما لو كانت قطيعا من الغنم وليس بشراً لهم حقوقهم وكرامتهم الإنسانية.
وللأسف الشديد أن البعض يخلط بين الحقوق الديمقراطية والحقوق القانونية، فيتصور أن ضرب القانون عرض الحائط والخروج بمسيرة دون ترخيص هو سلوك حضاري، وضرب من الشجاعة، في نفس الوقت الذي يناقض نفسه ويتحدث بانبهار عن المسيرات المنظمة التي تخرج في بعض دول أوروبا، أو كيف أن الشرطة تعتقل مواطناً رمى عقب سجارة في الشارع..! فهذا الانبهار هو المطلوب اليوم محاكاته في المجتمع، ولو في إطار فردي، لأن كل الممارسات تبدأ فردية ثم تتحول إلى سلوك عام بمرور الوقت.
إن تطبيق القانون، وعدم المحاباة، والمجاملة قد يكون حلا للكثير جداً من المشاكل التي يواجهها مجتمعنا اليوم.. ومثلما هذا الأمر مطلب ملح من الجهات الضبطية والقضائية، فإنه كذلك من كافة المسئولين والشخصيات المتنفذه بأن تحترم إرادة القانون ولا تتدخل في شئون القضاء، وهو مطلب ملح أيضا منا كمواطنين بأن ننصاع للقانون، لأنه هو القوة الحقيقية التي تكفل لنا حقوقنا، وتضمن أمننا وسلام مجتمعنا، وتحمي دولتنا من الفتن والمؤامرات.