أحمد الحبيشي -
لليمن لا لعلي عبدالله صالح (13).. الهروب من صندوق الافتراع الى الزوايا الحادة
اتصل بي عدد من الأصدقاء والمهتمين بقضية مكافحة التطرف والإرهاب من اليمن والمملكة العربية السعودية ومصر، بعد قراءة الحلقة السابقة من هذا المقال الذي نشرته صحيفتا (26 سبتمبر) و(14 أكتوبر)، وبعض المواقع الإخبارية الإليكترونية اليمنية والعربية، حيث أثار انتباههم وجهة نظري بشأن أسباب خلو ما تسمى بوثيقة (الإنقاذ الوطني) التي أعلنتها في منتصف سبتمبر الماضي أحزاب "اللقاء المشترك" بقيادة حزب التجمع اليمني للإصلاح، من أي إشارة إلى قضية مكافحة الإرهاب، وما أوردته من أدلة على جذور ذلك الموقف في أدبيات حزب (الإصلاح) وفي مقدمتها البيان الصادر عن المؤتمر الثالث لحزب التجمع اليمني للإصلاح الذي انعقد في أواخر ديسمبر عام 2002م، واعتراض الكتلة البرلمانية لحزب (الإصلاح) على ما تضمنه البرنامج الوزاري لحكومة المؤتمر الشعبي العام من التزامات وتعهدات بمكافحة الإرهاب بعد فوزه في الانتخابات البرلمانية لعام 2003م، ومطالبتهم بشطب هذه المهمة من برنامج الحكومة في الجلسة الخاصة بمنح الثقة لها، بالاضافة الى حرص صحافة حزب ( الاصلاح ) وأحزاب اللقاء المشترك على ايراد عبارة ( ما يسمى ) قبل كلمة الارهاب عند تغطية دور الحكومة اليمنية وحكومة الدول الشقيقة والصديقة في مكافحة جرائم الارهاب.
وكان أبرز ما أثار انتباه الأصدقاء والزملاء الذين اتصلوا بي بعد نشر الحلقة السابقة من هذا المقال، بعض الفقرات التي أوردتها نقلا عن (البيان) الذي صدر في ختام أعمال المؤتمر الثالث لحزب التجمع اليمني للإصلاح، وخصوصًا تلك التي ساوت بين اغتيال الشهيد المناضل جار الله عمر الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي ليمني، ومصرع الإرهابي أبي علي الحارثي أحد قادة تنظيم القاعدة " المطلوبين أمنيا في اليمن " ، ومطالبة حزب "الإصلاح" حينها بكشف ما أسماه ( ملابسات تلك الحوادث الأمنية )!!!!!
من نافل القول إن كافة المقالات والمتابعات التي نشرتها الصحف اليمنية والخليجية والعربية لدى تناولها جريمة اغتيال الشهيد جار الله عمر أجمعت على التنديد بثقافة التطرف والتعصب والتكفير التي دفعت القاتل إلى إهدار دم مفكر سياسي ومناضل وطني بذريعة (محاربة العلمانية وحراسة الدين والموت في سبيل الله والفوز بالجنة)، وهي ثقافة نتمنى على قادة حزب (الإصلاح) الذين يدعون إلى (الإنقاذ الوطني) امتلاك الشجاعة في إدانتها ونقدها ، وصولا إلى المساهمة الفاعلة في التخلص من كافة أشرطة التسجيل الصوتية والمحاضرات المطبوعة والكتب المنشورة ، وغيرها من الأدبيات التي كان لها دور كبير في التعبئة الخاطئة لكثير من المغرر بهم أمثال قاتل جار الله عمر في صنعاء ، وقاتل الأطباء الأجانب في مستشفى جبلة بمحافظة إب ، وقتلة الراهبات في الحديدة، وغيرهم من المدتييت الاجانب الذين قتلهم رصاص الارهاب ، والاعتذار عن حملات الإثارة والتحريض التي شنتها صحافة حزب "الإصلاح" ضد المؤتمر الشعبي العام واتهامه بالسكوت على ما أسمته "قيام أطباء ذلك المستشفى في جبلة والراهبات بالتبشير وتنصير المواطنين اليمنيين وإحراق المصاحف ورميها في دورات المياه"!!!
وعودة إلى بيان المؤتمر الثالث لحزب " الإصلاح " فإن أخطر ما جاء فيه هو وصف الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها موانئنا بما أسماه "حوادث أمنية" وهو تعبير يندرج عادة ضمن في وصف حوادث " الحريق والسرقات والقتل الجنائي والثأرات والسطو على المتاجر"، ولا ريب في أن الهدف من تحويل الإرهاب إلى مجرد "حوادث أمنية" هو محاولة حزب "الإصلاح" صرف الأنظار عن الدوافع والمنطلقات التي تحرك الإرهاب وفي مقدمتها ثقافة التطرف والتعصب!
ولم يكتف " البيان" بهذا التدليس والتلبيس، بل تمادى في محاولة تبييض صورة الجماعات الإرهابية بأسلوب يثير أكثر من علامة استفهام، عندما وضع اغتيال الشهيد جار الله عمر ومصرع الإرهابي المطلوب أمنيا أبو علي الحارث في خانة واحدة، وهو موقف يشكل إساءة واهانة كبيرتين للقضية التي ناضل في سبيلها الشهيد جار الله عمر، حيث حاول حزب "الإصلاح" ممارسة التذاكي في مقاربة القضية التي "جاهد" الحارثي وأضرابه في سبيلها، على نحو يجعل من جار الله عمر وأبي علي الحارثي ضحيتين لحقيقة غائبة يقع واجب التحري عنها وكشفها على عاتق الحكومة وأجهزتها الأمنية بحسب ما جاء في البيان الصادر عن مؤتمر حزب "الإصلاح" آنذاك.
مما له دلالة أن الرئيس علي عبدالله صالح أوضح في برقية التعزية التي وجهها إلى قيادة الحزب الاشتراكي اليمني وأسرة الشهيد جار الله عمر فور وقوع جريمة الاغتيال البشعة التي أودت بحياته في قاعة المؤتمر الثالث لحزب "الإصلاح" أن الفقيد رحمه الله (ذهب ضحية للعنف والتطرف والتعبئة الخاطئة والتعصب الأعمى على يد أحد المتطرفين الذين انحرفوا في تفكيرهم وسلوكهم، وآمنوا بالعنف والقوة وسيلة لفرض رؤاهم وأفكارهم المتعصبة والمتحجرة).
في هذا السياق جاءت أقوال قاتل جار الله عمر لتؤكد صحة وصواب التحليل الذي تضمنته برقية الرئيس للحادث، حيث أشار القاتل في حديثه أمام المحكمة ومن قبل ذلك ، أمام ممثلي الأحزاب السياسية إلى أنه أراد من خلال إهدار دم ضحيته توجيه رسالة يحذر فيها حزب "الإصلاح" من التقاعس عن واجب حراسة الدين ومحاربة العلمانية والعلمانيين، موضحا أنه نصح محمد اليدومي الأمين العام لحزب "الإصلاح" بذلك، وكان على تواصل مستمر معه، كما حذر محمد قحطان مما أسماه (التزيد في السياسة) . بمعنى أنه كان يرى في تحالف حزب "الإصلاح" مع أحزاب "اللقاء المشترك" مبالغة في ممارسة تكتيكات وتحالفات سياسية تتأسس على ثقافة مغايرة للأفكار التكفيرية والجهادية التي دأب حزب "الإصلاح" على نشرها طوال سنوات.
وبوسع كل من يراجع أقوال قائل الشهيد جار الله عمر التي نشرتها الصحف اليمنية، ثم يستمع إلى بعض الخطب التي ألقاها في بعض المساجد ونشرت صحيفة "البلاغ" الاسبوعية النص الكامل لإحداها، ملاحظة الوحدة الفكرية التي تربط بين مضامين تلك الأقوال والخطب، وبين مضامين التعبئة السياسية والأيديولوجية الخاطئة التي قادتها رموزقيادية بارزة في حزب "الإصلاح" ضد الوحدة والديمقراطية والتعددية الحزبية، وضد مساواة المواطنين أمام القانون ، عبر المساجد والشرائط الصوتية والمحاضرات والكتيبات . حيث لا تختلف أقوال القاتل وخطبه المسجلة على شرائط صوتية بما فيها تلك الخطبة المنشورة في صحيفة (البلاغ)، عن الكتب والمحاضرات والأشرطة التي تشكل منهاج التثقيف الحزبي والتربية الفكرية والخطاب الدعائي والدعوي لحزب "الإصلاح"!!!.
وحتى لا نتهم أحدا بالباطل ، راجعوا خطب الجمعة التي يلقيها دعاة حزب " الإصلاح " وتمتلئ بها محلات التسجيل (الإسلامية) التابعة له في عموم محافظات الجمهورية، وطالعوا الكتب التي يتم توزيعها على مكتبات ورفوف المساجد تحت سمع وبصر وزارة الأوقاف، وتتضمن تكفيرا للأحزاب القومية والاشتراكية والفرق الشيعية والصوفية، وتحض على (التنكيل بهم وبمن أنحاز إلى جانبهم بالقتل فما دونه)!!
من الصعوبة بمكان فصل نزعات العنف عن التعبئة الخاطئة التي روجت لثقافة متطرفة ومتعصبة توهم ضحاياها بأنهم ناجون من النار ومبشرون بالجنة وفائزون ببنات الحور، ثم تربط الانضمام إلى الفرقة الناجية بوجوب السمع والطاعة ونبذ وقطع عنق المفارق للجماعة، وجهاد وقتال أهل الرأي والبدع والشرك والضلال!!
وما من شك في أن نزوع الذين يتعصبون لهذه الأفكار إلى العنف، يعد شيئا طبيعيا ما دامت تلك الأفكار تقوم على يقين مطلق باحتكار تمثيل الحقيقة، وتزعم بوجود تفويض إلهي بحراسة الدين ومحاربة المخالفين، الأمر الذي يصعب معه إلغاء عقولنا لنذهب مع بيان المؤتمر الثالث لحزب "الإصلاح" في مطالبة أجهزة الأمن "بالتحري عن الحقيقة وكشف ملابسات اغتيال المناضل جار الله عمر ومصرع الإرهابي أبي علي الحارثي!
وفي الاتجاه ذاته يصعب علينا السماح للذين صاغوا ذلك البيان وما تضمنه من قرارات وتوصيات باستغفالنا وإقناعنا بأن الحقيقة المطلوب التحري عنها لكشف ملابسات اغتيال الشهيد جار الله عمر تقع خارج نطاق ثقافة العنف والتطرف والتعصب التي تربى عليها القاتل، ويتحمل مسؤوليتها قادة سياسيون ورجال دين بارزون في حزب "الإصلاح"، ممن يرفضون تحديد موقف واضح من الإرهاب، ولا يمتلكون الاستعداد في نقد ثقافة التطرف والإلغاء بسبب رصيدهم في هندسة وبناء منظومتها الفكرية والحركية داخل وخارج اليمن!!
وبالنظر إلى الترابط الوثيق بين مشروع (الإنقاذ الوطني) الذي أعلنته أحزاب "اللقاء المشترك" في سبتمبر 2009م، و(رؤية أحزاب اللقاء المشترك للاصطفاف الوطني) الذي نشرته صحيفة (الصحوة) في عددها الصادر يوم الخميس 27 فبراير 2002م، لا يحتاج القارئ إلى ذكاء نوعي كي يستنتج أن مشاريع (اللقاء المشترك) تتطلع إلى تجويف الديمقراطية ومصادرة وظائف صندوق الاقتراع، وتطالب بإلغاء حق الناخبين والناخبات في منح السلطة الشرعية للحزب الذي يحصل برنامجه الانتخابي والسياسي على ثقة غالبيتهم، بما في ذلك حق الناخبين والناخبات في اختيار بديل آخر وبالوسيلة ذاتها، في دورة انتحابية لاحقة تهدف إلى تطبيق سياسات وبرامج حكومية جديدة ومغايرة على نحو يجعل من الشعب مصدر شرعية الحكم وصاحب الحق في اختيار البرنامج الذي يراه مناسبا لتطوره اللاحق بدون أية وصاية من أحد.
تقود القراءة الفاحصة لمشروع رؤية أحزاب "اللقاء المشترك" المنشور في صحيفة (الصحوة) يوم 27 فبراير 2002م، وقبل شهرين من الانتخابات البرلمانية لعام 2003م، إلى اكتشاف أبعاد المشروع الجديد الذي أعلنته هذه الأحزاب في سبتمبر الماضي 2009م تحت مسمى (الانقاذ الوطني )، في إطار استعداداتها للانتخابات البرلمانية المؤجلة إلى عام 2011م، ويتمحور القاسم المشترك بين المشروع الأول والمشروع الثاني حول حقيقة مهمة وهي أن مفهوم أحزاب (اللقاء المشترك) للاصطفاف الوطني أو ما يسمى (الإنقاذ الوطني) يلحق ضررا جسيما بالديمقراطية التعددية التي تقوم على آليات التداول السلمي للسلطة بين أحزاب سياسية تمثل برامج مختلفة وخيارات متعددة ورؤى متنوعة، فيما تكون الوسيلة الوحيدة للوصول إلى السلطة أو الخروج منها هي أصوات الناخبين والناخبات عبر صندوق الاقتراع.
والأخطر من كل ذلك فإن أحزاب (اللقاء المشترك) لم تكتف في مشروعها الذي أعلنته قبل الانتخابات البرلمانية السابقة بالحديث عن تعددية سياسية عائمة وفضفاضة، بل أنها تجاوزت ذلك إلى دخول زوايا حادة، إذ طالبت حينها كلا من الدولة والحكومة وكافة الأحزاب السياسية وقوى المتجمع المدني بتنفيذ برنامج سياسي موحد ومتفق عليه في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وصولا إلى فرض قوالب أيديولوجية صارمة ومطلقة على الحياة الفكرية ، ومصادرة حرية التعبير استنادا الى مُطلقات تتذرع بالدين والقومية، وسبق للأنظمة الشمولية الاستبدادية ممارستها ضد المفكرين والمثقفين وقادة الرأي والمواطنين عموما.
ولا ريب في أن فرض صيغة جاهزة ووحيدة لبناء الدولة والاقتصاد والثقافة والتعليم على نحو ما تدعو إليه أحزاب (اللقاء المشترك) في مشاريعها الانقلابية التي اعتادت على إعلانها قبيل المحطات الانتخابية العامة، يتطلب بالضرورة نمطا شموليا وأحاديا لنظام الحكم، بعيدا عن أي شكل من أشكال تعددية الخيارات والبرامج والرؤى، وما يترتب على ذلك من مصادرة الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين، ودمج الأحزاب في (منظومة سياسية متكاملة) وإلحاق المجتمع المدني بالدولة.. وكل ذلك يقود في نهاية المطاف إلى التسلط والاستبداد والانفراد.
ولما كانت الشمولية تبدأ بفرض صيغة واحدة ومطلقة لإدارة شؤون الدولة والاقتصاد والمجتمع، فإنها تنتهي بإقامة استبداد سياسي على ركائز عقائدية وفكرية عبر فرض قوالب جاهزة للتفكير والتعبير، ومصادرة حرية الرأي والفكر في وسائل الإعلام والثقافة وجميع الوسائل التي أنتجتها تكنولوجيا الاتصال والمعلومات.
ولا أبالغ حين أقول بأن الهدف الرئيسي الذي تريده أحزاب (اللقاء المشترك) في مشروع (الإنقاذ الوطني) الذي أرادت به تمهيد الطريق للانتخابات البرلمانية القادمة، سبق أن تم التعبير عنه في مشروعها الخاص بالاصطفاف الوطني الذي أعلنته في فبراير 2002م ، وأرادت به تمهيد الطريق للانتخابات البرلمانية السابقة، حيث دعت أحزاب اللقاء المشترك ــ في مشروعها السابق الذي حاولت فرضه على الحياة السياسية قبل ست سنوات – إلى وضع رؤية ثقافية وإعلامية نابعة من "الدين والثوابت الوطنية والقومية" وهي صيغة مموهة لأدلجة الاستبداد السياسي والوصاية على العقل وممارسة الإرهاب الفكري وتقييد حرية التعبير وتنميط الإعلام والثقافة والتعليم انطلاقا من مطلقات عقائدية تختفي خلف واجهة الدين والثوابت القومية، بمعنى أن مشروع "اللقاء المشترك" ينطوي على توجه سافر لقولبة التعليم والثقافة والفكر والإعلام، الأمر الذي ينذر بفرض وصاية استبدادية على العقل ومصادرة قمعية للحرية وإدعاء زائف باحتكار الحقيقة، وتمهيد الطريق في الوقت نفسه لاستبداد سياسي قائم على آليات أيديولوجية وفكرية ذات طبيعة قمعية وإقصائية بدعاوى حراسة الدين والدفاع عن الثوابت الوطنية والقومية التي كانت سلاح الأنظمة الشمولية لمصادرة الحريات وانتهاك حقوق الإنسان وملاحقة المفكرين والمثقفين والمبدعين، ومحاصرة الآداب والفنون والعلوم في كثير من البلدان العربية والإسلامية.
لقد طغت الشمولية خلال القرن الماضي وعانى العقل العربي تحت نيرها صنوف القهر والاضطهاد والطغيان، حيث ارتبط الاستبداد السياسي بالتماهي مع الرايات الدينية والقومية والاشتراكية التي كرست نهج إلغاء الآخر، وسعت على الدوام إلى فرض نماذج شمولية للفكر الواحد والرأي الواحد في الحياة الفكرية والثقافية والإعلامية والتعليمة، فيما كانت حصيلة تطبيق تلك النماذج تأخر وفقر مجتمعاتنا باسم الاشتراكية، وتشرذمها باسم الوحدة، وانغلاقها وجمودها وتحجرها وتمزق صفوفها باسم الدين.
ومن عجب أن الأحزاب التي تشكل ما يسمى (اللقاء المشترك) هي امتداد للأحزاب التي تبنت مشاريع فاشلة في العالم العربي والإسلامي، واشتغلت على أفكار أحادية إقصائية تنزع إلى أدلجة المعرفة، حيث تعتقد هذه الأحزاب بإمكانية تغيير الواقع وبناء الإنسان وفق هندسة فكرية جاهزة ومسبقة.. وقد كانت نتيجة الاشتغال بهذه الأوهام قفزا على الواقع لم ينجم عنه سوى التخلف والجهل والتشرذم والانغلاق والاستبداد والاحتراب والتنابذ والفرقة، على العكس مما كان العصاب الأيديولوجي الديني والسياسي يتوهم بإمكانية حدوثه.
وبوسع كل من يقرأ المشاريع الانقلابية التي اعتادت أحزاب "اللقاء المشترك" على إعلانها قبيل كل محطة انتخابية إدراك حقيقة أننا كلنا مهددون بطريقة تفكير مقيمة في الأزمنة الغابرة، ومشدودة إلى أوهام الفكر الماضوي.. فمضمون هذه المشاريع لا يختلف عن المشاريع الأيديولوجية التي تنطلق من مطلقات مقدسة ونهائية.. فأما أن نكون على صورتها ومثالها ونموذجها التي تقترحها كرؤية للاصطفاف أو للإنقاذ الوطني، أو أن يتم نفي وإدانة كل من يخالف هذه الرؤية بذريعة مخالفة الدين والخروج عن الثوابت الوطنية والقومية.
وبهذا النوع من المشاريع الانقلابية تحاول أحزاب "اللقاء المشترك" الهروب من صناديق الاقتراع واستحقاقاتها، إلى الزوايا الحادة التي تتيح لها فرض سلطة النموذج الشمولي على العقل، بعد أن فقدت الأفكار التي اشتغلت عليها هذه الأحزاب بريقها وجاذبيتها، متجاهلة حاجة الديمقراطية الناشئة في بلادنا إلى إثرائها بالمزيد من الحرية والمزيد من تعدد الرؤى والأفكار والخيارات اللازمة لممارسة السياسة وإدارة الاقتصاد وبناء الدولة وإبداع الثقافة وإنتاج المعرفة وتوسيع آفاق التفكير النقدي .. بمعنى أن الحقيقة ليست حكرا على تأويل محدد للدين والشريعة الإسلامية، أو رؤية معينة للدنيا.. وأن أحدا منا لا يمتلك الحق في أن يجعل من نفسه وصيا على العقل والتاريخ والحرية، وممثلا للحقيقة باسم الله أو الوطن أو الأمة، وهو الموضوع الرئيسي للمحور الثاني من هذا المقال الذي ستناول فيه بنية الخطاب السلفي العام في اليمن بالنقد والتحليل اعتبارا من الأسبوع القادم بإذن الله.