بقلم- فيصل الصوفي - الأمية العربية تسبقنا إلى المستقبل
لمحو الأمية عندنا يومان : الأول في الثامن من يناير من كل عام وهو اليوم العربي لمحو الأمية وتعليم الكبار والآخر هو الثامن من سبتمبر اليوم العالمي لمحو الأمية وتعليم الكبار.. وفي كلا اليومين تنصب منابر الخطابة ويقف المسؤولون عن التعليم ومحو الأمية العرب يتداولون المنابر للحديث عن الإنجازات التي حققوها في هذين المضمارين- وفي المناسبتين يقفز الحديث عن الأمية إلى صفحات الجرائد ويخوض فيه كثيرون بدون هدى ولا كتاب مبين. إن المختصين الحكوميين العالمين بسرائر الأمر ينتهزون هذين اليومين للحديث عما تم إنجازه والأرقام الضئيلة بينما يضربون صفحا عن الحديث حول أعداد الأميين وأولئك الأطفال الذين لا يحصلون على خدمة التعليم، والحق معهم فإن تلك صفحات سوداء، الحديث عنها غير محبب البتة؛ ناهيك عن أن تذكر في يومين من على منابر جهيرة نصبت في الأصل للحديث عن المحاسن والصفحات البيضاء وحدها.. ونريد في هذا المقال أن نبرهن على أن تلك الصفحات السوداء هي الأجدر بالاهتمام والحديث في كل منابر العلانية.
لا نزال نعرف الأمي كما في عرف العامة بأنه الإنسان الذي يجهل القراءة والكتابة، إذ تنسب الأمية إلى الأم لأن الكتابة تكتسب مع الأيام، والأمي يبقى على ما ولدته أمه، من الجهل بالقراءة، والكتابة. وكما في كلام العرب قديما، حيث كانت كلمة أمي تطلق على من لا كتاب له من مشركي العرب، أو كما تطلق كلمة الجهل على الأمية، ويسمى الأمي جاهلا، وهي تسمية صحيحة رغم ما توحي به من معاني الاحتقار في فهم البعض، إذا هي تصف حالة الأمي الذي يجهل قواعد القراءة والكتابة بينما مفهوم كهذا لم يعد يناقش كثيرا، رغم أن تعريف الأمية ليس له معنى واحد متفق عليه من قبل الخبراء في جميع البلدان نتيجة للاختلاف في تحديد معايير التعليم والحد الأدنى من التعليم، إلا أن لجنة الأمم المتحدة للسكان اعتبرت في مطلع الخمسينيات الأمي ذلك الشخص الذي لا يستطيع قراءة عبارة مكتوبة بلغة من اللغات. وتعتبر منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، "اليونسكو" الأمي ذلك الشخص الذي لا يستطيع أن يقرأ أو يكتب بياناً بسيطاً وموجزاً عن حياته اليومية ويعد أميا- من الناحية الوظيفية- كل شخص لا يستطيع ممارسة جميع الأنشطة التي تتطلب معرفة القراءة والكتابة أو يقتضيها حسن سير الأمور في جماعته ومجتمعه.. ولا يستطيع مواصلة استخدام القراءة والكتابة والحساب من أجل تنميته الشخصية وتنمية مجتمعه.
مفهوم جديد
وقد أدى التطور في مجال العلم والتكنولوجيا إلى ظهور مفاهيم جديدة تتجاوز المصطلح التقليدة للأمية إلى تعريف الأمي في بعض البلدان بإنه ذلك الشخص الذي لا يجيد التعامل مع الكمبيوتر مثلا. وهناك ما يسمى بالأمية الثقافية، بل يطلق بعضهم عبارة ( أمية المتعلمين) وهي حالة أولئك الحاصلين على شهادات تعليم عام وربما تعليم جامعي ولكنهم مع ذلك لا يجيدون قواعد القراءة والكتابة الصحيحتين، كما ينبغي لأشخاص تجاوزوا هذه المرحلة، وهناك ما يسمى "الأمية التقنية" ويقصد بها غياب المعارف والمهارات الأساسية للتعامل مع الآلات والأجهزة والمخترعات الحديثة وفي مقدمتها الكمبيوتر.
وقد ميز المؤتمر الدولي الرابع لتعليم الكبار الذي عقد بباريس عام 1985 بين نوعين من الأمية هما الأمية الوظيفية والأمية الاجتماعية، وتم ربط محو الأمية بتعليم الكبار، باعتبار محو الأمية خطوة أساسية أولى لعملية تعليم الكبار في التعليم غير النظامي، فبدون محو الأمية لن يستطيع الأفراد الأميون أن يصبحوا عناصر نشطة وحيوية في مجتمعهم، ولن يساعدوا على جعله في وضع أفضل. ولعله من المناسب أن ننبه إلى عدم الخلط بين كثير من العبارات في هذا الجانب. ونذكر في هذا المقام ببعض التعريفات لمصطلحات تتردد في مجال محو الأمية وتعليم الكبار مثل" التعليم غير النظامي" والذي يقصد به أي نشاط تعليمي منهجي يجري خارج إطار التعليم النظامي، بغرض تقديم أنواع مختلفة من التعليم لمجموعات خاصة من السكان الكبار منهم والصغار، وهذا يختلف عن مصطلح" محو الأمية الاجتماعية" أو الأبجدية كما هو الشائع ويقصد به برامج تعليمية تكون وسيلة لتحقيق قدر أكبر من إجادة الكلمة المكتوبة، وهي ليست مجرد عملية تعلم مهارات القراءة والكتابة والحساب فقط بل هي عملية تسهم في تحرير الإنسان من التخلف والعمل من أجل تنميته. وتوجد الظروف الملائمة للفرد لكي يكتسب الوعي بحقوقه وتنمية مجتمعه، بينما "تعليم الكبار" فهو التعليم الذي يقدم لأولئك الذين أنهوا الدورة الأولى للتعليم الذي بدأوه وهم في سن الطفولة، وأولئك الذين لم يسبق لهم أن مروا بتلك الدورة الأولى ويأخذ هذا النوع من التعليم شكل التعليم المهني والفني والتقني، والثقافية الإرشادية والسكانية والصحية والبيئية وحقوق الإنسان. وتعليم المهارات الإنمائية، وهناك ما يسمي ب"محو الأمية الوظيفي" وهو مرادف لتعليم الكبار، ألا أنه إضافة إلى أن هذا التعليم يغرس في الدراسيين الكبار مهارات التعليم فإن مهمته أيضا مساعدة العاملين أو العمل في تحقيق قدر أكبر من إجادة مهنهم وزيادة معلوماتهم النظرية والتطبيقية، وتحقيق تقدمهم في أعمالهم، وتشجيعهم على مواصلة التعليم.
وتتلخص مراحل التعليم غير النظامي في مجال محو الأمية وتعليم الكبار في عمليتين هما: التربية الأساسية أو التعليم الأساسي أو الأوّلي للكبار، وهو الحد الأدنى من التعليم الذي ينبغي أن يحصل عليه الفرد، كالقراءة والكتابة والحساب، والمهارات الاجتماعية والحياتية، وفهم حياة المجتمع المحلي، وهو أمر ضروري لتحقيق المشاركة المسؤولة في المجتمع.. والمرحلة الثانية هي التعليم في مرحلة المتابعة، وتلي المرحلة التي تم فيها الحصول على الحد الأدنى الأوّلي من مهارات القراءة والكتابة والحساب، وتتضمن هذه المرحلة السابقة. وينبغي أن يكون الدارس في نهاية هذا المرحلة وصل إلى مستوى من القدرة على المضي قدما، والقيام بدور فاعل في عملية التنمية المتواصلة والسيطرة على بيئته عن طريق تعلم أسلوب اتخاذ القرار.
المعركة ضد الأمية.
لقد كانت مشكلة الأمية من بين أكثر القضايا الكبرى التي شغلت المجتمع الإنساني المعاصر خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، التي أعقبها تفكير ثوري لتغيير أوضاع المجتمعات، حيث تتطلب وتيرة التغيير في الحياة الاجتماعية والاقتصادية -إلى الأفضل- تغييرا في أحوال القوى المحدثة للتغيير، وهذه القوى هي الأفراد الإنسانيين، الذين وجد أنهم لن يتمكنوا من إحداث التغيير إلا إذا ما تغيرت قدراتهم إلى مستوى شروط إحداث هذا التغيير في المجتمع. وأولى الخطوات في هذا المجال تبدأ عادة بالتعليم وتحرير الإنسان من الأمية ورفع مستوى الوعي والمعرفة. وكما قال جيمس برساند" قبل أكثر من 70 عاما إن ابتكار الكتابة كان له أعظم تأثير في رقي النوع الإنساني، وهو أعظم من أي إنجاز فكري آخر في تاريخ حياة الإنسان إن معرفة القراءة والكتابة تعتبر ضرورة للتقدم الإنساني، فقد كانت كثيراً من البلدان المتطورة تقوم بتنفيذ حملات لمحو الأمية على أمل أن تحسن بذلك أداءها الاقتصادي، وينظر إلى هذه الحملات في الوقت نفسه باعتبارها استثمارات عائدها المتوقع هو تحسن المعيشة. وفي هذا الاتجاه ظهرت كثير من التدابير على المستويات العالمية والإقليمية الوطنية للقضاء على الأمية من خلال تطبيق برامج محو الأمية وتعليم الكبار لتمكين الأميين ومساعدتهم على تحسين معارفهم ومؤهلاتهم التقنية والمهنية، ليسلكوا بها سبيلا جديدا لتلبية حاجاتهم وحاجات مجتمعهم.
لقد نشأت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة ( اليونسكو) عام 1946م ورغم أن وظائفها ذات ارتباط بمختلف قضايا العلوم والتربية والثقافة إلا أنها منذ عام 1949 جعلت قضية محو الأمية وتعليم الكبار أظهر أو ابرز القضايا التي اهتمت بها أكثر من أي مجال آخر.. واحتلت مهمة محو الأمية وتعليم الكبار مكانة عالية في أولويات الدول.. فقد انخفضت نسبة الأمية بين السكان على المستوى العالمي من 51% عام 1950 إلى أقل من 20% حاليا، ولكن هذا النجاح الذي تظهره الأرقام على المستوى العالمي لم يتحقق بقدر متوازن في جميع البلدان.
وعند عودتنا إلى تقرير التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وكذلك تقرير البنك الدولي لعام 2001م لا حظنا أن هناك 16 دولة من دول العالم اليوم قد تخلصت من الأمية نهائيا، و 73 دولة أخرى تراوحت نسبة السكان الأميين فيها بين 1% و19% من إجمالي سكان تلك الدول، بينما هناك 22 دولة فقط ظلت نسبة الأمية فيها مرتفعة إلى أكثر من 50% وتقع 13 دولة منها في القارة الأفريقية جنوب الصحراء، وتحتل النيجر المرتبة الأولى في هذه المجموعة حيث يمثل الأميون فيها 86% من إجمالي السكان.
القرار السياسي والتشريع
وكانت قضية مواجهة الأمية في البلاد العربية قد ارتبطت تاريخياً بمرحلة ما بعد الاستقلال والتحرر الوطني من الاستعمار، أو مع قيام الأنظمة الوطنية المستقلة في البلاد العربية التي أقامت نظما حديثة للتعليم لرفع المستوى التعليمي للسكان، ونوقش النظام التربوي العربي في أكثر من مستوى وإطار منها مؤتمر التربية العربي بطرابلس ليبيا 1966م الذي وضع فيه متخذو القرار هدفا عاديا هو البدء بتطوير التعليم وتعميم الخدمة التعليمية في المرحلة الابتدائية لجميع التلاميذ العرب بحلول العام 1980.. في مجال محو الأمية وتعليم الكبار تبنت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) مع كل من جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إقامة الفعالية الإقليمية الدورية المعروفة بمؤتمر الإسكندرية حول الأمية في البلاد العربية، الذي يهتم عادة بمناقشة مشكلة الأمية وقضاياها المختلفة وعقد منها حتى الآن ستة مؤتمرات ابتدأت بالمؤتمر الأول بمدينة الإسكندرية عام 1964من وحتى المؤتمر السادس بأبو ظبي عام 2000م ونذكر في هذا السياق أول استراتيجية عربية لمحو الأمية وضعت في العام 1975م والتي أقرت بالإجماع في مؤتمر الإسكندرية الثالث ببغداد عام 1976م، وتتكون من عدة عناصر أهمها رصد الواقع العربي في مجال محو الأمية وتحليله وتحديد الأهداف والمبادئ والاتجاهات الأساسية لها والإجراءات التنفيذية. وهذه الاستراتيجية أعدت بناءً على توصيات ممثلي الدول العربية في اللجنة الاستشارية للمركز الدولي للتعليم الوظيفي للكبار التي اجتمعت منتصف يناير 1974م حيث دعا الممثلون فيها إلى اجتماع للدول العربية على مستوى عالياً لبحث استراتيجية جديدة للقضاء على الأمية في البلدان العربية تستهدف خفض نسبة الأمية في هذه الأقطار إلى أدنى حد ممكن خلال الفترة 1976- 1985م على ان يتواكب ذلك مع جهود لجعل التعليم الابتدائي إلزاميا، والوصول إلى نسبة استيعاب كامل للفئة العمرية 6-12 سنة من الأطفال العرب قبل سنة 1985م. وفي وقت لاحق أعد الجهاز العربي لمحو الأمية وتعليم الكبار (ارلو) ما سمي بالخطة القومية لتعميم التعليم الابتدائي ومحو الأمية في الوطن العربي بحلول عام 2000م لكن تلك الأهداف لم تتحقق في موعدها كما لم تتحقق بحلول العام 2002م حيث غابت عن هذه الاستراتيجيات أهم وأول المبادئ المطلوبة لأي استراتيجية وهي القرار السياسي والتشريعات القانونية وبدلا من ذلك زاد عدد الأميين العرب من 35.8 مليون عام 1985م إلى 43.6 مليون أمي عام 1990م لكن لو أخذنا الدول العربية كل دولة على حدة فالصورة تبدو جيدة، إذ تشير الأرقام الى تحقق قدر كبير من النجاح في مجال التعليم العام ومكافحة الأمية وتعليم الكبار في بعض الأقطار، وصعوبة الحالة في بلدان أخرى.
فهناك ست دول عربية تتراوح نسبة الأمية بين السكان فيها بين 8% إلى 20% وهي لبنان والأردن والبحرين والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة. وتأتي في الوسط ليبيا 23% والسعودية 26% وسوريا 28% وكل من عمان وتونس 22% هم الجزائر 39% بينما يكاد التساوي في المساوي يجمع بين بقية الدول العربية التي تتراوح نسبة الأمية فيها بين 44-60% من السكان البالغين.
على أن الوضع بالنسبة للإناث أسوأ حالا فهناك نحو 50 مليون امرأة عربية بالغة أمية، ويبدو التفاوت بين الدول العربية في مجال تعليم الإناث وأمية النساء أظهر ما يكون. وتعكس هذه الحقيقة الأرقام الخاصة بمعدل القراءة والكتابة لدى الإناث البالغات ونسبة الإناث المقيدات بالتعليم الابتدائي المسجلة عام 1999م، فهناك ما بين 18-20 من النساء البالغات في الكويت والبحرين وقطر والأردن ولبنان والإمارات أميات، أما في اليمن وموريتانيا والصومال والمغرب وجيبوتي فتبلغ نسبة النساء الأميات أكثر من 70% من إجمالي النساء البالغات بينما تتراوح هذه النسبة بين 50- 60 من النساء في بقية الدول العربية..
الإنفاق على التعليم
في جانب الإنفاق على التعليم يشار عادة إلى ارتفاع نسبة هذا الإنفاق من إجمالي النفقات الحكومية سنويا كمؤشر على تحسن خدمات التعليم. والحقيقة أن الإنفاق السخي على التعليم يعد ضروريا لتحسين وضع التعليم والحالة التعليمية للسكان عموما ولكن الإنفاق الضخم على التعليم يعد عنصرا واحدا من مجموعة عناصر كثيرة مؤثرة في تحسين خدمات التعليم ورفع كفاءته كالمناهج والمعلمين وطرق ووسائل التعليم والدليل على ذلك أن دولا مثل اليمن وموريتانيا والمغرب هي من أكثر الدول العربية التي تخصص للتعليم في ميزانياتها نسبة كبيرة من إجمالي الإنفاق الحكومي السنوي فيها، حيث يتراوح بين 18-23% من إجمالي الإنفاق في معظم السنوات المالية، لكن هذه الزيادة لا تعكس تحسنا في خدمة التعليم ونعتقد أن ذلك يرجع إلى سببين أساسيين الأول هو أن الإنفاق مهما كان مرتفعا يعد عنصرا غير كاف لتحسين التعليم أو رفع كفاءته إذا غابت العناصر الأخرى المتعلقة بكفاءة التعليم من حيث التوزيع العادل للخدمة التعليمية وتعميمها للأفراد أينما وجدوا وبمختلف فئاتهم، ومن حيث المناهج التعليمية والمعلمين وأساليب وطرائق التعليم. والسبب الثاني يتعلق بكشف الغموض في العلاقة بين ارتفاع نسبة الإنفاق على التعليم وبقاء حالة التعليم متدنية أيضاً، فارتفاع نسبة الإنفاق لا تمثل شيئا ذا قيمة بالنسبة للقيمة الفعلية في السوق لذلك الإنفاق نتيجة التضخم، كذلك فإن نحو 90% من هذه الإنفاق كما في اليمن مثلا يلتهمه باب الأجور، كما تظهر ضآلة قيمة ذلك الإنفاق إذا ما قورن بالناتج الملحي الإجمالي أو الناتج القومي الإجمالي ففي حالة مثل اليمن يقدر الإنفاق على التعليم بنحو 6.1% من الناتج القومي وقد أنفقت دولة عربية أخرى مثل سوريا 4.2% من ناتجها القومي في نفس العام وهو العام 1996م أي أقل من اليمن بنحو الثلث، لكن الناتج الإجمالي القومي في سوريا قدر بنحو 16.6 مليار دولار عام 1997م وكان الناتج المحلي الإجمالي 17.9 مليار دولار بينما كان الناتج القومي المحلي اليمني 404 مليار دولار و 5.7 مليارات على التوالي. أما مقارنة اليمن بدولة أفضل حالا مثل السعودية فإن هذه الأخيرة تفوق الأولى 25 مرة.
العلل الحضارية
إن الأمية الأبجدية تعيق قدرة الإنسان على تحسين سلوكه تجاه مختلف المواقف اليومية وتعيق تحسين أوضاعه والمشاركة في تنمية أسرته ومجتمعه. والأمية الوظيفية مشكلة كبيرة أخرى تعكس نفسها من خلال ضعف الأداء حتى في بعض البلدان المتقدمة وهي لا زالت مشكلة أكثر انتشارا مما كان يعتقد. فهناك دراسة قامت بها الوكالة الحكومية الفيدرالية الكندية للإحصاء وجدت أن ما يزيد من 38% من الكنديين لديهم نواحي قصور في الإطلاع تؤثر في إمكانياتهم في العمل، ومشكلة الأمية تتصف بأنها حضانة لمشكلات أخرى تعيق تحسين الأوضاع المعيشية للسكان، وهي مشكلة لها امتدادات على جبهات التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي. ومن أجل ذلك كان محو الأمية وسيلة للوصول إلى المواطنة الصالحة وتنمية الصفات الخلقية التي يحتاج إليها المواطنون في أي مجتمع ديمقراطي وتحقيق تحسن في الحياة الاجتماعية. فمحو أمية شخص يساعد على تقبل الأفكار الجديدة والثقة بالنفس، وممارسة حقوقه السياسية وتحقيق تقدم في العلاقات الاجتماعية مع الناس.
وقد أصبح معروفاً أن تدني الناتج القومي مرتبط ارتباطا مباشرا بتدني الإنتاجية وشيوع البطالة. فتدني الإنتاجية أو ارتفاعها مرتبط بمستوى الحالة التعليمية للعامل. وتعتبر الأمية أهم العناصر المؤثرة في تدني الإنتاجية لدى العامل الأمي كما يعتبر التعليم العنصر الرئيسي في ارتفاع إنتاجية عامل آخر يعمل في نفس الظروف التي يعمل فيها العامل الأمي، وكشفت دراسة عن تأثير أمية البالغين في الأداء الاقتصادي أن الأمية الوظيفية تجلب خسائر للأعمال تقدر بملايين الدولارات سنويا، كما أن ارتفاع نسبة الأمية يؤدي بالمقابل إلى انخفاض في الدخل القومي أو الفردي وفي بلدان كثيرة تنخفض فيها الأمية لوحظ ارتفاع في الدخل الفردي فيها: فنسبة الأمية ومستوى الدخل القومي مرتبطان ببعضهما.
لقد عكست ظاهرة الأمية نفسها في أداء الأجهزة الحكومية في دول عربية حاولت إجراء إصلاحات اقتصادية ومالية وإدارية بينما يضم جهازها الوظيفي عدداً كبيراً من الأميين ومحدودي التعليم. ويظهر أثر ذلك من خلال ضعف الإنتاج، وعدم تطوير أساليب الأداء الوظيفي وسوء استغلال الموارد وشيوع الفساد، والتسيب والإهمال ومع ذلك فإن محاولة إصلاح هذه الأوضاع يتم بمعزل عن أي برنامج لتطوير مهارات العاملين أو أي برنامج موجه للذين يعانون من الأمية الاجتماعية أو الأبجدية أو الوظيفية، رغم أهمية مثل هذه البرامج لتحقق أهداف أي برنامج للإصلاحات.
كما تلعب الأمية دوراً خطيرا في عدم تحسين ظروف أو كفاءة الفرد الأمي، إذ أثبتت الدراسات أن تدريباً واحدا للأميين وللمعلمين لا يؤدي إلى نتيجة واحدة فقد لوحظ من خلال برنامج تدريب أن كفاءة وزيادة الإنتاج لدى عاملين حاصلين على مستوى جيد من التعليم تفوق 50% نتيجة خضوعهم لبرامج تدريب وتأهيل بينما زادت إنتاجية الأميين إلى 16% رغم حصولهم على نفس التدريب الذي حصل عليه أقرانهم المتعلمين. كما تؤكد دراسات لحالات الفقر وجود ارتباط بين الفقر والأمية وارتباط هذه الأخيرة بمشكلة البطالة وغياب دور المجتمع في إنجاح برامج التنمية المختلفة في تحقق أهدافها المرسومة أو المخطط لها في تلك البرامج، خاصة ما يتعلق منها بالجانب الخدمي، بيد أن غياب هذا الدور لا ينفي وجود قصور في البرامج ذاتها لعبت دورا مهما في تغيير النتائج المراد تحققها.
سباق إلى المستقبل:
على صعيد أنماط السلوك الاجتماعي فإن الأمية لها تأثيرها في سلوك الأفراد تجاه قضايا مثل التربية والمشاركة السياسية والسلامة النفسية والبدنية والصحية للأبناء، واستغلال الموارد والتطور الثقافي والعلاقات الاجتماعية داخل الأسرة أو بين أفراد المجتمع. كما توجد صلات وثيقة بين التعليم والصحة والتغذية وتحفيز العمل السياسي، وأكد ذلك دراسات كشفت نتائجها أن معدل نقص التغذية مثلا- يصل إلى 20% بين أطفال النساء اللاتي لم يتجاوزن في تعليمهن المرحلة الابتدائية، بالمقارنة مع الأمهات الأميات، وأن الحصول على تعليم أعلى تعليم يمكن أن يحفز العمل السياسي للمطالبة بمزيد من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وقد لاحظ البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أنه في سيرلانكا -على سبيل المثال- تعززت دولة الرعاية الاجتماعية استجابة لوجود ناخبين متعلمين وملاحظة العلاقة بين التعليم والتطور. وتظهر أن عمليتي التطور والتغيير تحدثان بانسجام وفي وقت أسرع في المجتمعات التي ينتشر التعليم بين أفرادها، إذ أنه كلما زاد عدد المتعلمين في بلد من البلدان كلما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي فيه، بل إننا على المستوى الاجتماعي والعائلي نلاحظ أنه كلما كانت الأم متعلمة انخفض عدد وفيات الأطفال، وكلما كان الأب متعلما تحسنت مستويات التحصيل الدراسي للأبناء، وتلعب الأم والأب في العائلة العربية دورا رئيسيا في التنشئة الاجتماعية ويمكننا تقدير حالة الأطفال في أسرة يقودها أميان.
على أن مخاطر الأمية قد تأخذ أشكالاً أخرى في المستقبل مع استمرار الأميين. فبصورة إجمالية تصل نسبة القيد الإجمالي في التعليم الأساسي في الدول العربية نحو 86% من إجمالي الفئة العمرية في سن الالتحاق، وهناك 10% منهم يتسربون قبل الوصول إلى الصف الخامس. فقد أدى عدم التغلب على مشكلة تدني حالة الالتحاق بالتعليم. وزيادة أعداد المتسربين من الصفوف الأولى من التعليم يعني أن هناك مئات الآلاف من الأطفال ينضمون سنويا إلى صفوف الأمية وهؤلاء الذين لا يلتحقون بالتعليم وأولئك المتسربين من المدارس الذين سيصبحون أميين سيتكون منهم مجتمع الغد، ما يعني أن مخاطر الأمية لا تتوقف على الحاضر، بل هي تسبقنا إلى المستقبل.
|