احمد الحبيشي -
لليمن..لا لعلي عبدالله صالح ..خطوط وظلال متداخلة بين حراك السلطة ومعارضتها بعد الوحدة
أشرنا في الحلقة الماضية إلى جانب مهم من نجاح الرئيس علي عبدالله صالح في تأهيل البيئة السياسية في الشطر الشمالي من الوطن بصورة منهجية قبل الوحدة، للتأقلم مع البيئة العالمية والاستجابة للتحديات الديمقراطية، مقابل تخلف كل من الحزب الاشتراكي اليمني والاخوان المسلمين (التجمع اليمني للإصلاح لا حقاً) في هذا الجانب، حيث وجد الحزب الاشتراكي اليمني والتجمع اليمني للإصلاح نفسيهما شريكين غير مباشرين في بيئة سياسية جديدة بعد الوحدة، يكاد أن يكون المؤتمر الشعبي العام -بقيادة الرئيس علي عبدالله صالح- هو الوحيد الذي بادر إليها وسعى الى إيجادها، وهيأ نفسه جيداً لها، بعد أن امتلك القدرة على إطلاق مفاعليها والتحكم بمفاتيحها.. فالحزب الاشتراكي اليمني انتقل إلى بيئة سياسية جديدة وجد نفسه فيها معنياً بانجاز مشروع جديد للتغيير لم يكن على الإطلاق في اجندته التي رسمت اللجنة المركزية خطوطها العامة في دورتها المنعقدة أواخرسبتمبر 1989، أي قبل شهر واحد فقط من الاجتماع المفاجئ للجنة السياسية المشتركة في تعز، وقبل شهرين من زيارة الرئيس علي عبدالله صالح غير المتوقعة لعدن وتوقيع اتفاق الوحدة، وقبل بضعة أشهر من قيام الجمهورية اليمنية الموحدة.
والحال نفسه ينطبق على التيار الإخواني الذي اختبأ في وقت لاحق تحت عباءة التجمع اليمني للإصلاح بعد ان أفرط هذا التيار في خطابه السياسي الرافض للوحدة مع الكفار الاشتراكيين عقب التوقيع على اتفاق 30 نوفمبر 1989، ثم ارتكب خطأ تاريخياً عندما امتنعت كتلته البرلمانية في مجلس الشورى عن التصديق على مشروع دستور دولة الوحدة واتفاق إعلان الجمهورية اليمنية في مجلس الشورى تنفيذاً لاتفاق 30 نوفمبر 1989، ومعارضته لدستور دولة الوحدة بعد الاستفتاء عليه من قبل الشعب.. ناهيك عن مواقفه الملتبسة ازاء القضايا الجوهرية المتعلقة بالديمقراطية وما يرتبط به من تعريف لسلطة الأمة،والدولة والقانون الدولي والعلاقات الدولية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحرية الفكر وسلطة الأغلبية ووحدة وتنوع العالم.
على مستوى الاجتماع السياسي كان ثمة حراك معارض للسلطة ومتقاطع معها في آن واحد، حيث حرص الجناح الشمالي للحزب الاشتراكي اليمني على إعادة تعريف الوضع الجديد للحزب خلال الفترة الانتقالية، وذلك من خلال اهتمامه بتشكيل إصطفاف معارض يضم الأحزاب التي كانت قبل الوحدة تعارض سلطة الرئيس علي عبدالله صالح، وصولا الى مشاركة هذا الجناح في صياغة خطاب سياسي وإعلامي معارض لتقاسم السلطة من جهة، وللتجمع اليمني للإصلاح من جهة أخرى، خصوصاً وأن الاخوان المسلمين وجهوا خطابهم السياسي والإعلامي وجندوا كل طاقاتهم لتشويه صورة الحزب الاشتراكي اليمني وإضعافه والسعي إلى إخراجه من السلطة.
في الاتجاه نفسه وكمحصلة موضوعية للحراك السياسي الناشئ عن الوضع الجديد نشطت بقايا المعارضات السابقة للحزب الاشتراكي ونظامه السابق في الجنوب، وانخرطت في إطار الاستقطابات التي فرضتها الأدوار المزدوجه لمختلف الأطراف، ما أدى إلى تورّم الحالة الائتلافية بين المؤتمر والاشتراكي وتحولها من الشراكة التي تتطلب بناء الثقة وتعميق القواسم المشتركة كشرط لحماية الوحدة وتعزيزها، إلى الصراع والإفراط في الاستقطاب الداخلي والشكوك المتبادلة.
وهكذا أصبح المشهد ملتبساً بين سلطة ائتلاف مخترقة من قبل عدة أطراف معارضة لطرفي الائتلاف من جهة.. وبين معارضات مفترضة لكنها تستمد برامجها من تناقضات الائتلاف الحاكم من جهة أخرى. وزاد من خطورة هذا الوضع دخول بعض الخطوط والظلال القائمة إلى صورة هذه المشهد الملتبس بالتناقضات والتقاطعات، حيث اسهمت أعمال العنف والإرهاب والاغتيالات التي حدث بعضها في فنادق مدينة عدن، ومطار عدن الدولي، واستهدف بعضها الآخر قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي، في إلحاق أضرار كبيرة لم تشمل فقط الائتلاف الحاكم بل امتدت لتمس مباشرة البيئة السياسية الجديدة التي كان للمؤتمر الشعبي العام فضل المبادرة في تأسيسها تحت قيادة الرئيس علي عبدالله صالح منذ وقت مبكر بهدف تأهيل اليمن للاندماج في النظام العالمي الجديد ، والاستجابة لتحديات التحول نحو الديمقراطية على نحو ما أوضحناه في حلقات سابقة.. فقد أدت تلك الاعمال الإرهابية إلى إنعاش رواسب النزعات الشمولية القديمة، وإحباط قوى التغيير والتجديد داخل مختلف أطراف المنظومة السياسية للدولة والمجتمع بدون استثناء.. ولم يعد خافياً على أحد ضلوع بعض الجماعات المتطرفة في تلك الأعمال التي أدى دخولها على خطوط وظلال ذلك المشهد الائتلافي الملتبس، إلى تسويد جزء كبير من الصورة الداخلية للوحدة من جهة، ولأول تجربة ائتلافية في الجمهورية اليمنية التي اقيمت في الثاني والعشرين من مايو 1990 على قاعدة النظام الديمقراطي التعددي من جهة أخرى.
في خضم ذلك التداخل والتوازي والتقاطع كان الائتلاف المفترض بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني يواجه أحد خيارين.. خيار الإقامة في وضع ملتبس تغيب عنه محددات الائتلاف ووظائفه، وما يترتب على ذلك الخيار من إعادة تعريف الفترة الانتقالية والعواقب الناجمة عنها، أو خيار إعادة تعريف الائتلاف نفسه ، مع المحافظة على المحدّدات والوظائف التي اقتضت قيامه وتوجب استمراره.
ومن نافل القول ان هذا الالتباس يعود الى أن الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين كان قد انطوى على قدر كبير من التبسيط والدوغمائية على نحو ما تجسد في بعض الإطروحات السياسية والنظرية بصدد الوحدة اليمنية وسبل تحقيقها خلال السبعينات والثمانيينات.. وقد استند جزء كبير من هذه الأطروحات إلى قاعدة من التصورات النظرية التي تم نقلها من مراجع خارجية وإسقاطها بصورة تعسفية على الواقع اليمني. ولا نبالغ حين نقول أن المجتمع اليمني شهد منذ ظهور الدولتين الشطريتين نوعاً من الإستقطابات الآيديولوجية المحمومة، ما أدى إلى كبح تطور العملية الثورية المعاصرة التي مرت بمخاض عسير وغير طبيعي، نتجت عنه تشوهات واختلالات في الوعي السياسي لأقسام واسعة من الناس بسبب الإستقطابات الآيديولوجية التي اشتركت – برغم تنافرها – في موضوعة واحدة ترى بأن الوحدة اليمنية لا يمكن تحقيقها بين نظامين متمايزين بدون اسقاط أحدهما وتعميم النموذج الآخر!
الحقت تلك الاستقطابات أضراراً كبيرة بمسار العملية الثورية المعاصرة في اليمن، حيث انتعشت النزعات المعادية للديمقراطية والحداثة تحت تأثير البنى التقليدية الداخلية والتدخلات الخارجية، وشكلت الدعوة الى الأصولية السلفية بيئة مثالية لمعاداة للديمقراطية والحداثة، ومصادرة الدور النقدي للعقل، ومحاصرة منابع التنوع الفكري في المجتمع تحت شعار محاربة الأفكار المستوردة.
في الاتجاه نفسه تم تمزيق أوصال الفكر الاجتماعي الجديد، وسد المنابع التي تساعد على إثرائه وتنويعه تحت شعار محاربة الأفكار البرجوازية والرجعية، وصولاً إلى تنميط الوعي الأيديولوجي، وتعليب الممارسة السياسية في قوالب جاهزة، ما أدى الى فرض الوصاية على العقل ومصادرة الحرية والإدعاء بامتلاك الحقيقة واحتكار ميراث الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، وإلغاء التعدد والتنوع في الحياة السياسية والفكرية.
هكذا برزت التصورات الرافضة للمغايرة كشرط للوحدة التي تراوحت مفاهيمها الآيديولوجية بين الدولة ذات التوجه الديني والدولة ذات التوجه الاشتراكي، فيما كان الواقع الإجتماعي بخصائصه الوطنية والتاريخية غائباً وضائعاً بين هذه المفاهيم التي لم تجد مرجعها المعرفي فيه.
نقول ذلك لأن إنغلاق هذه المفاهيم على ذاتها أدى إلى دخولها بشكل دائم وثابت في حالة صدام ليس فيما بينها كما يبدو من ظاهر الأحداث التي شهدتها الساحة اليمنية، بل إلى دخولها بشكل مشترك في صدام موضوعي مع الواقع من جهة، ومع الميول الموضوعية لتطور الحياة والعالم من جهة أخرى.
ما من شك في أن مفاعيل البنية التقليدية أسهمت بقدر لا يستهان به من آليات الكبح المعيقة للتغيير، بيد أن أقساماً لا يستهان بها من النخب الجديدة وقعت في مستنقع النزاعات الذاتية التي جعلت من السلطة هدفاً لها، حيث سعت إلى البحث عن صيغ جاهزة للتنمية الشطرية المنغلقة وغير المتكاملة، ثم عملت على تحصين تلك الصيغ بسياج كثيف من آليات الدولة التقليدية التي جرى بناؤها وتنميطها عن طريق الاستعانة بخبرات بعض الدول التي تعرضت للتشطير بفعل نتائج الحرب العالمية الثانية وأجواء الحرب الباردة التي تلتها.
استغرقت الدولتان الشطريتان زمناً ليس هيناً في إعادة انتاج مكوناتها الموروثة عن العهود السابقة لتطور العملية الثورية المعاصرة التي جاءت كنفي تاريخي ومعرفي لتلك العهود وثورة على مخلفاتها.. وبتأثير تراكم ذلك الاستغراق المنغلق على الذات الشطرية برزت هوة سحيقة بين الدولتين كأجهزة ومنظومات من جهة، وبين المجتمع بوصفه كياناً بشرياً ينمو ويتجدد في سياق عملية ثورية تاريخية من جهة أخرى، الأمر الذي أدى إلى عجز كل من الدولتين الشطريتين عن تلبية وتجديد احتياجات المجتمع اليمني.
ولئن كانت انجازات علم الاجتماع المعاصر ترى في أن قيام كيان معين لا بد وأن يخلق قوى تتلاءم معه، ويخلق تبعاً لذلك تأقلماً أيديولوجياً محدوداً بفعل قوة العادة التي تجعل الجيل الناشئ في ظل المناخ الخاص للأيديولوجيا متسماً بروح الانتساب إلى ذلك الكيان الذي نشأ فيه، ومنضبطاً في توجيه سلوكه اليومي للتعامل مع منظوماته وأجهزته، فإن تناقض الكيانين الشطريين قبل الوحدة مع اتجاه تطور العملية الثورية المعاصرة للشعب اليمني فرض عليهما السير في اتجاهين: الإيمان بضرورة الوحدة من جهة، وتكريس التشطير بصيغ أيديولوجية من جهة أخرى.. وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على مأزق وتخلف الجهاز المفاهيمي للآيديولوجيا التي استمد منها كل كيان على حدة شرعية تبرير وجوده، وإفتعال العوائق لتأجيل الدمج الموضوعي للكيانين الشطريين في دولة وطنية واحدة.
لا ريب في أن كلاً من الكيانين الشطريين السابقين برر لنفسه التمسك بعملية الاستغراق في تكريس وتجديد الدولة الشطرية إنطلاقاً من الوهم بموضوعية الكيان النموذج الذي سيفرض نفسه بصورة امتداد أو إلحاق عن طريق افضلياته، ولذلك وصلت المحصلة النهائية لحالة الاستغراق في تنمية وتطبيع التشطير إلى مأزقها الموضوعي بحكم لا تاريخية ولا موضوعية تلك الحالة، لأن الدولة الشطرية استنفذت قدرتها على معالجة أوزار ومخلفات الماضي وإرثه الثقيل، وباتت عاجزة عن مواكبة الميول الجديدة لتطور العالم المعاصر.
استند الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين قبل الوحدة إلى ميراث فكري وطني وقومي كان ينظر إلى التشطير من موقف رافض، ويقوم بتعريفه على أنه من صنع الإستعمار ومخلفات القرون الوسطى، لكن هذا الخطاب قام بتكريس التشطير وإنتاج جهاز ضخم من المفاهيم الأيديولوجية التي تبرر بقاءه.
وبصرف النظر عن ما كان يميز بنية ذلك الخطاب الشطري من رؤى متباينة لدولة الوحدة، إفترضت وجود وجهتي تطور متمايزتين، احداها تنادي بالتوجه الإسلامي والأخرى بالتوجه الاشتراكي، فإن ذلك التباين لم يكن يستند إلى الواقع، ولم يتجاوز نطاق صراع الإرادات والأوهام الآيديولوجية القابلة للإختبار والتغير في مجتمع يخوض معركة حضارية ضد التخلف والتشطير والبنى التقليدية الموروثة.
ثمة مصادر فكرية مشتركة لصراع تلك الإرادات والأوهام وهي أن الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين كان ينتسب إلى الفكر القومي العربي الكلاسيكي الذي كان يربط تحقيق الوحدة العربية بعدد من الشروط، وبضمنها وحدة أداة الثورة العربية، وضرورة قيام قوة ثورية إقليمية تتكون من قطر عربي أو أكثر، وتضطلع بدور مركز الاشعاع والجذب، وتلعب دور " القاعدة " التي ينطلق منها التغيير الوحدوي الريادي.
وقد تم تحوير المفاهيم المكتسبة من الخطاب القومي العربي الكلاسيكي بعد إكسابها صياغات آيديولوجية جديدة، وبعد تنميطها في نطاق محلي قطري بل وشطري، الأمر الذي أدى إلى حدوث تعديل في مضمون الخطاب السياسي الوحدوي بعد ظهور الدولتين الشطريتين في اليمن أواخر الستينات.. وكانت نتيجة ذلك التحوير وصول عملية الإستقطابات الأيديولوجية الصارمة إلى مأزقها، وتفاقم تناقضات الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين، وتكريس التشطير على المستوى الوطني، وهو المأزق نفسه الذي وصل إليه الخطاب القومي الكلاسيكي ، وسوف نأتي الى ذلك بمزيد من التفصيل عندما سنعود في حلقة لاحقة الى تناول اشكاليات الخطاب السلفي العام ونقد موقفه المعادي للولاء الوطني والفكر القومي.
وهنا يتطلب الأمر نقد الوعي الأيديولوجي الذي ساد في حقبة التشطير،، وكرّس طائفة من المفاهيم التي خلطت بين عملية التوحيد الوطني كضرورة في سياق مشروع التغيير الذي دشنته الثورة اليمنية ( 26 سبتمبر – 14 أكتوبر )، وبين فرضيات الإنتقال بهذه العملية إلى الوجهة الإشتراكية أو الوجهة الرأسمالية أو تحويلها إلى " قاعدة " لإستعادة دولة الخلافة الاسلامية وفق تصورات نظرية مبسطة لا تمتلك مرجعاً معرفياً لها في الواقع اليمني والسياق التاريخي العالمي، وهو ما سوف نسعى إلى توضيحه في الحلقة القادمة من هذا المقال.