نجيب غلاب -
محاولة مختلفة في فهم دعوة الانفصال ومآلاتها المدمرة
الخطاب الذي يتبناه الحراك الجنوبي بوجهه الإنفصالي يعاني من تناقض بين مضمون القيم التي يدافع عنها ويسعى إليها وبين الواقع الذي يعمل فيه والهدف الحقيقي الذي يسعى إليه، فالخطاب يخفي بوعي أو بدون وعي مشروعاً متناقضاً كليا مع القيم التي يؤسس لها على مستوى الشعار، فالخطاب يتحدث عن المظالم ولكنه لا يريد حلها بل يعمل على تدمير الآليات التي يمكن من خلالها تجاوز تلك المظالم، ويتحدث عن السلم في نضاله والعنف هو النتاج الطبيعي لخطابه وأهدافه، ويتحدث عن تحرير الجنوب من المحتل وهو يريد أن يحتله بالقروية والبداوة التي بدأت تتمظهر بفكر جهادي اسلاموي متعنصر للجغرافيا في ظاهره وهو يريد ان يحتل اليمن لتحويلها إلى منطقة توحش للقاعدة لمحاربة العالم من أجل إقامة الخلافة، يتحدث عن الظالمين ليستغل انفعالات الشباب وبلا وعي يدفعهم إلى محرقة لتحقيق الرغبة في الانتقام، لذا فهو خطاب متوتر ويملؤه اليأس والإحباط والعجز، وهو يتحرك في مسارات تؤسس للقتل والدمار.
والخطاب غارق في تقليديته ويحمل بذور فنائه في مقولاته المركزية، فدعوة الانفصال في سياقاتها النضالية الرثة والهزيلة لا تعبر عن واقعها بل هي نتيجة لخيانة الفاعلين في بنيته للمشروع الوطني ولتاريخ أصحابه، لذا لم يجد اصحابها أمامهم لتحقيق أهدافهم إلا الغرائز في تعبئة الجمهور، فالحراك في نهاية التحليل انتجته الصراعات السياسية على المصالح بين القوى الفاعلة في المجتمع في الجنوب والشمال وفي دولة الوحدة، خسر فيها طرف وكسب آخر، وبدل البحث عن معالجات منطقية وواقعية من خلال الإصلاحات المختلفة يتم المراهنة على تخريب المعبد على الجميع.
ولأن الفاعلين في الحراك يخافون من انكشاف الحجب لذا فإنهم يمارسون الخداع وانتجوا مقولات عائمة ومشتتة في فهم الواقع المحيط بهم، ويعملون على تقديم تفسيرات لطبيعة الصراع وظيفتها الأساسية تعزيز غريزة القتال مع الآخر وإلغائه وتدميره، وهذه اللعبة المحترفة تديرها طبقة سياسية اعتمدت في تاريخها على حبك المؤامرات وتوظيف الواقع وتناقضاته والمظالم فيه لتحقق أهدافها المعلنة والخفية وتعتمد على قيادات وسطية غير بارزة لكنها مدربة أمنيا، والجميع غير مبال بنتائج المآلات التي ستنتج من إثارة الغرائز.
هذه الطبقة السياسية مهووسة بنزعاتها المكبوتة لذا لا يمكنها أن تتحدث عن مشروع عقلاني مستند على القيم الانسانية لحماية اليمن لأن مشروعاً كهذا لن ينتج العنف لذا فقد أعتمدت على الثقافة القبلية ووعيها الغائر في العقول، وتعمل جاهدة على إثارة هذه الغرائز من خلال توظيف العنف الذي ينتجه الصراع لتفجير القنبلة المدمرة ليس للنخب الحاكمة بل لليمن وأبنائه وهذا مهم جدا لدى البعض، لأن ذلك سيقود الجنوب إلى المشاريع العدمية كما يتجلى في الراهن بالتعاطف مع "القاعدة".
المسألة المخفية أيضا في الخطاب الإنفصالي أن لدى بعض أطرافه عاطفة غرائزية ينتجها جرح عميق لنرجسية جماعات كانت هي المهيمنة وصاحبة القول الفصل في حكم الجنوب قبل الوحدة، وبعد تحقيقها كانوا شركاء وقادهم صراع النخب إلى معركة لم يكونوا مقتنعين فيها لأنهم وحدويون، والبعض مقتنع أن الانفصال في 94م كان مؤامرة تم جرجرة الجميع إليه من قبل قوى في الشمال لكن الأخطر أن البعض مقتنع أن على سالم البيض اتجه إلى الانفصال ولديه خطة محكمة لضرب القوة العسكرية والأمنية الموالية للحزب في لحج والضالع بالقوى المقاتلة من أجل الوحدة وبالتالي انهاكهم بعد ان تلقى إهانات كبيرة بعد 86م منهم، بل أن الوحدة كانت خيار البيض للتخلص من هيمنتهم واستغلال وحدويتهم ثم خنقهم بها.
ربما كانت حضرموت هي خيار الانفصال في عام 94م وترك عدن وما جاورها لحروب منهكة للجميع، المسألة الأخرى ما يعمق الجرح أن البعض لم يقبل الهزيمة، فالمعركة التي انفجرت من أجل حماية الوحدة التي طالما دافعوا عنها وخذلتهم حسابات القادة المرتدة عن الهدف الذي استحكم على نضالات الحركة الوطنية اليمنية شوهت صورتهم، والمشكلة أن الخصم اللدود المهزوم في 1986م صار هو المتقدم واصبح يمتلك شرف حماية الوحدة، وهذا أحدث جرحاً عميقاً ومزدوجاً ومؤلماً لدى القيادات السياسية والعسكرية المهزومة.
يتم معالجة الجرح من خلال الاغراق ربما بلا وعي بمساعدة أطراف جنوبية تريد للمرض أن يتعمق في النفوس من خلال استغلال واقع المظالم بإثبات صحة القرار وخطأ العدو المنتصر للوحدة خصوصا الجنوبي وجرجرته إلى مربع الردة لسلبهم وطنيتهم ووحديتهم وسلطتهم ودفع الجنوب لكراهيتهم أنتقاما من دورهم في حماية الوحدة التي أدت إلى خروجهم وتشويه دورهم النضالي الوحدوي، وهو بدوره يدرك اللعبة ويعمل على أغراقهم في خيانتهم لتاريخهم.
ولأن الحراك الانفصالي نتاج تحولات متناقضة مع طبيعة الفاعلين فيه وتاريخ مناطقهم الوحدوي وتاريخ الحزب الذي عاشوا من أجله ثم خانوه، سنجد أن الحراك لم يتمكن من صناعة قيادات من وسطه بل مرتهن للقيادات التاريخية التي يتحكم فيها نزوع انتقامي من الجميع، وعادة ما يتماهى الضعيف الباحث عن مخرج لمأزقه المرضي مع من يكرهه ومع من يريد ان يجعل منه بيدقاً في معاركه طالما والقائد يتماهى مع المريض ويدافع عن هدفه الذي انتجه المرض لا أهدافه الواقعية وحاجاته الطبيعية.
كانت المسألة الطبيعة أن يتم نقد التجربة السابقة ومعالجة الأخطاء بإعادة بناء المشروع الوطني والمطالبة بالإصلاح الكفيل بالتأسيس لمستقبل يحمي الجميع ويتجاوز أخطاء الحرب ويحقق العدالة، إلا ان سيطرة رجل الأمن السابق والعسكري الخاسر والمثقف الذي فقد مشروعه وأصبح بلا مشروع جعل التحرك من داخل المشروع الوطني خطر لا يقود إلى القوة التي يبحث عنها الخاسرون، وليس مهما أن تكون حركتهم متناقضة مع عامة الناس، فالعامة ليسوا إلا أدوات قد خانتهم في المعركة السابقة لذا لابد من إعادة تعبئتهم بما يخدم القيادات وربما بلا وعي الانتقام منهم من خلال إدخالهم في معارك خاسرة.
المشكلة أن الوحدة لم تتجاوز صراعات الجنوب، فالقيادات القادمة من الجنوب لم تستحمل وجود الرئيس على ناصر وتم توجيه ضربة مؤلمة له من خلال خروجه من اليمن ضمن صفقة الوحدة، بمعني آخر أن صراع 86م لم يمت مع تحقيق الوحدة، وعلى ما يبدو واتمنى ان أكون مخطئاً أنه مازال مهيمناً حتى اللحظة في وعي القيادات وقد عمقته صراعات الوحدة خصوصا في 94م والمعركة الآن تدار بخبث شديد والضحية اليمن كله.
وليست فكرة التصالح والتسامح إلا الوجه الآخر لصراعات النخبة الجنوبية وحضورها في خطاب الحراك دليل حيوية تلك الصراعات وهنا لابد من إشارة مهمة لا ينتبه لها حتى المتصالحون وهي أن الحراك الانفصالي لا يمكنه تجاوز تلك الصراعات بل يعمقها ويوسعها لأنه يؤسس لفعله من خلال الوعي الذي انتجها، قد يبدو أن العدو يتجسد الآن في دولة الوحدة لكنه في العمق وإن كان يوسع دائرة التناقضات إلا أنه ضروري لخلق التماسك الشكلي للحراك الانفصالي والهدف من خلقه أيضا هو تصدير الأزمة من عمق الحراك وهذه الآلية العلاجية الساذجة أعاقت فكرة التسامح نفسها وأسست لصراع أكثر عمقا في بنية الحراك الانفصالي وداخل المجتمع اليمني، والتصالح والتسامح سينفجر ويأخذ في حالة التهور مجرى عنيفاً بمجرد أن يتعقل طرف من الحراك الانفصالي ويراجع نفسه لصالح المشروع الوطني.
من جهة أخرى فإن خطاب الانفصال واعتماده على وعي القبيلة الرافض للآخر والمستند على الاقصى الجغرافي يؤسس للبداوة والقروية ونتيجة خيانته لتاريخ منتجيه لذا فإنه سيعيد إنتاج الصراع نفسه بين أطرافه بشكل تلقائي دون تدخل أي طرف خارجي، أما إذا تفحصنا الواقع ووجدنا أن هناك تياراً قوياً على مستوى القيادات الجنوبية وابناء الجنوب يرى أن الوحدة هي الخيار الذي لا يمكن تجاوزه سنجد أن الخطاب الانفصالي يؤسس للعنف بين أبناء الجنوب أنفسهم ويقود نفسه إلى الانتحار في حالة استمراره وخصوصا إذا اندفع نحو العنف.
الإشكالية العويصة التي تجعل الحراك خطراً جسيماً ليس على اليمن فحسب بل وعلى نفسه هو محاولة هيمنة "القاعدة" على الحراك، فانعدام المشروع واستناده على وعي عصبوي والعمل على دفع القوى الشابة الجنوبية إلى بنيته وبلا أفق سوى مقولات الانفصال المؤسسة على الحقد والكراهية سوف يسهل لحملة المشروع الجهادي توظيف الغضب وإعادة أدلجتهم وفق الايديولوجية الاسلاموية المنتجة للإرهاب وهذا إن حدث فإنه سيدخل الجنوب في معركة مدمرة ستقودها قوى إقليمية ودولية، بمعنى أن الظلم الذي يحاول معالجته من خلال الانفصال سينتج محرقة جديدة لأبناء الجنوب ولليمن كله لا باسم حماية الوحدة وحماية المشروع الوطني بل باسم مواجهة الإرهاب، وهذا ما يجعل الحراك في مأزق لا مخرج منه إلا بالعودة إلى المشروع الوطني والنضال من داخله إن كانوا يعقلون.
ومسألة إبتلاع القاعدة للحراك بدأت ملامحه الأولية باختراق الفضلي للحراك وجره إلى خطاب أكثر تطرفا مؤسس على عنصرية مذهبية وجغرافية، ونتيجة انعدام الثقة المتبادلة بين قوى الحراك وتناقضاته العميقة والمخفية الباحثة عن الانتقام، فإن الفضلي يعمل على بناء منظومته في الحراك بمعزل عن الآخرين والتحركات الخفية في أوساط الشباب من قبل مختصي التجنيد من الجهاديين في تصوري أنها تعمل على قدم وساق وستجعل الشباب الذي لا يعاني من عقد الكبار ويبحث عن مشروع ينخرط في "تنظيم القاعدة" في ظل واقع الصراع والثقافة التي أسس لها الحراك.
المشروع الإسلاموي الارهابي سيكون أكثر فاعلية لأن قتل المشروع الوطني لصالح الفراغ المعبأ بالعصبية المنتجة للحقد والكراهية سوف يكون أكثر قدرة على تحفيز الشباب ليس بمستقبل دنيوي بل بجنة عرضها السماوات والارض، وعندئذ فإن قيادات الحراك في حالة انتصر الفكر الجهادي فإن قياداته أمام خيار الانخراط في مشروع صارم لا يطالب بالمواجهة مع الشمال بل مع الكفار وأذيالهم في اليمن كله أو الاتهام بالخيانة وهذا سيخلق صراعاً دموياً في الوسط الاجتماعي للحراك وفي اليمن كله، لأن الانفصال ليس خيار "القاعدة" بل الحرب الدائمة لبناء الخلافة الاسلامية.
أكبر الخاسرين في هذا الصراع هي عدن ومدنيتها أولا، فالباحث عن الانفصال يقاتل في الريف وعينه مفتوحة على عدن فبدونها تبدو مطالبه بلا معنى، اما الحراك القاعدي فعدن ستكون محطته لإثبات وجوده من خلال التفجيرات الانتحارية، ثم اليمن بشماله وجنوبه وغربه وشرقه.
السؤال الأكثر أهمية: هل سيتمكن الحراك من العودة إلى المشروع الوطني والتحرك من خلاله وتجاوز خطابه لصالح السلام والأمن والعدالة والمساواة والأخوة أم ان الوقت قد تأخر كثيرا وأصبح المهيمن على فعله هو صاحب القول الفصل؟ وهنا نؤكد أن إنقاذ أبناء الجنوب واليمن بحاجة إلى قوة مضادة عاقلة ومتزنة تخرج من قلب الحراك خصوصا من القيادات العاقلة والمتزنة وأيضا من القيادات الشابة، تتجاوز خطابها الانتحاري وصراعات القادة المهووسين بالانتقام لتنقذ اليمن من لعبة خطيرة تنتجها قوى مريضة اتخذت من المظالم وسيلة لتدمير ذاتها وانصارها وادخال اليمن في صراع مؤلم لا محالة أن الوحدة ستنتصر فيه، لكن بعد معارك عبثية الجميع فيها خاسر وأعظم الخاسرين هو الوطن وأبناؤه لا القيادات.
إن قبول الحوار في المرحلة الحالية تحت سقف الوحدة والديمقراطية ربما يكون القرار الثوري لبعض قيادات الحراك للخروج من المأزق. هو الحل إن كانوا يعقلون.