المؤتمرنت - علي حسين الصفّـار - في رحاب الجواهـري والبر دونــي
*ما بين رملة النجف وأزقة بغداد عمر لم يعتره الوهن رغم عاديات الزمن، وتجاعيد السنين، والذاكرة الممتلئة بالمحن.. ما بين أزقة الطوسي والبراق والمشراق والجلسات الطويلة في السراديب العبـقة، أو قبالة (سماور) الشاي في ليالي الشتاء، وصفاء الناس والسماء في مدينة النجف القابعة علي أطراف الصحراء العراقية والنابتة مثل الرمح في قلب التاريخ العربي، والغافية فوق كتف الكوفة عاصمة الخلافة العربية.
ما بين العمامة التي هربت منه فرحل بدونها إلى بغداد، حاملاً همومه وأحلامه وشعره المكتوب فوق العديد من القصاصات التي لا يدري أين تكون!! وآه من العمر لا يستريح. ويستلقي على ضفاف دجلة بعد أن تبادل العـــشق مع الفرات، فانشد لدجلة الخير ولأم عوف ولكر كرات الماء في الليل حين ينام الناس، متلطخاً بحــبر المطابع وهموم الصحافة ورحلة العمر وزوادة الشعر التي لا تغني من جوع ولا تقي من شر، غير أن النـــجف تبقى سره وأسراره، ليس لأن طفولته وصباه وتعليمه وثقافته الشعرية فيها بل لأنها تشكل عنده كل القيم الروحية واختلاجاتها المقدسة التي تجيش داخل روحه، وبالتالي فهي الومضة الأولي في عالم الشعر الذي يحمل سيفه وتاجه، فالشمس غير الشمس والعشق والنهار غير ذاك وقبضة من الشمس بين كفيه، منها أبتدأ أبو الطيب المتنبي ومنها يبتدئ الجواهري.
كيف يمكن ان يوصف الجواهري هل من الممكن ان يوصف بشاعر الغربة , أم بشاعر دجلة , عند كتابته (يا دجلة الخير) وهو في غربته في تشيكوسلوفاكيا عام (1962) يسبح في ذكرياته في بغداد حيث كان يجتمع مع الأحبة وتناسي الآلام رغم الحياة البسيطة حيث قال:
حييت سفحك عن بعد فحييني ... يا دجلة الخير ,ياأم البساتين
حييت سفحك ضمأناً ألوذُ به ... لوذ الحمائم بين الماء والطين
يا دجلة الخير يا نبعا أُفارقه ... على الكراهة بين الحين والحين
الجواهري الذي احب بغداد ,فيذكرها وهو حزين لفراقه لها فبرغم الحزن الموجود داخله يقول لبغداد :
أعد مجد بغداد فبغــــــــــداد روضة ... لدى موسم تذوي أخـــــــــر تعشب
يضربها جدب الرجال فتجدب ... وينعشـــها خصـــب النفوس فتخصب
فيعود اشتياقه للعراق من جديد ,ويشعر انه قد طال الفراق , ويسأل نفسه متى ينتهي هذا العذاب , متى يكحل عينيه بلقاء بغداد ويمشي في أزقتها وشوارعها ,ومتى يمشي بأزقة وشوارع مدينته (النجف) .
سهرت وطال شوقي للعراق
وهل يدنو بعيد باشتيـــــــــاق
وهل يدنيك انك غير ســـــــال
هواك وان حفنك غيــــــــــــــر
راقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
فتشيخ الروح ويطول الأمل والحلم وتتسع البلوى ومحنة الوطن الحزين وهو لم يزل يصرخ:
جيش العراق ولم أزل بك مؤمنا.. وبأنك الأمل المرجى والمنى... ثم يعيد الصوت لكنه يسمع الصدى وينتظر رغم أن الطيف جف في مآقي العيون ويطيل التلفت ويحلم وهو يغمض عينيه برملة النجف التي ما شابهتها رمال الدنيا.
وددت ذاك الشراع الرخص لوكفني
يحـــاك مـنـه غــداة البـيـن يطو يني
*قاهر العمى , واهبا حياته للثقافة والشعر وألا بداع, خارجا من ظلمته التي لازمته طوال حياته إلى النور , نور الأدب , نور الكتابة متحديا الصعاب متحديا كل شيء يقهر أي شخص يعيش حالته , خرج من قريته متجها إلى ذمار (كرسي الزيدية ) كما كان يطلق عليها آنذاك . وبدأ هذا الطفل القادم من (بردون ) ليتلقى علوم عصره في المتوكلية اليمنية , وحفظ القران الكريم عن ظهر قلب.
وهاهو يسطع في سماء الأدب ولم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره , ويقع في غياهم الشعر بادئا بكتابة أشعاره بعبقرية ودهاء وكأنه يكتب تنبؤاته للمستقبل , إذ تنبأ برحيل الاستعمار من الجنوب وانهيار الاستبداد الإمامي , وارتبط البرد وني بالهم القومي منذ النكبة وكتب عنها اجمل أشعاره في ديواني ( من ارض بلقيس ) و (في طريق الفجر) .
فهو شاعر ناضل في أشعاره ضد الامامية والاستعمار داعيا إلى التكاتف والوحدة وكسر حاجز الخوف وذلك لاستعادة الوحدة وحدة الشعب والبلاد .....
فيا سُهيل هل ترى ... أسئلة ُمدلهه
متى يفيق ها ُهنا ... شعب يعي تنبهه
وقبل ان يرنو إلى ... شيء يرى ما أتفهه
فينتقي تحت الضحى ... وجههُ المُنزِِِِّه
يمضي وينسى خلفهُ ... عاداته المُسفهه
ينفي بكل ذرَّة ... مِن أرضهِ المؤلّهه
هنا يحسُّ أنّه ... مواطن له وطن
شاعر يمتاز بالنقد اللاذع , يصف ما يمارسه الظُلاّم ضد الأبرياء , يكتب بكل شجاعة ودون خوف من البلاء , يكتب عن السلطان .. والثائر الشهيد الذي يطلب من الثائر السكوت والبقاء ساكنا في حياته كالأموات رافضاً الحرية والحياة للآخرين وكأنه هو الذي يحيي ويميت :
أسكنْ كـــالموتى يا أحــمقْ
نم... هذا قـــبـــــر لا خندقْ
ويقـــــول أيــــضــــاً :
من ذا أحـــيــاك أعـــــيــدوه؟
أعــــــيــــيتَ الشرطة والفــــيلقْ
ويتكلم بجرأة عن من يقوم بالتحقيق مع الثوار وكأنهم إرهابيين وأُناس ليس لديهم هدف سوى التخريب , و يبدأون بتنسيبِ التهم إليهم حتى وهم يطلبون السجائر من بعضهم الآخر, وكأنهم مجتمعين متآمرين :
وماذا عن الثوار؟ حتــماً عرفـــتهم ... نعمْ, حاسبوا عني, تَغدوا بجــانبي
وماذا تحدثتم؟ طلبتُ سـيجــارة ... أظنُّ وكــبـريتــاً.... بدوا من أقاربـي
وكأنه فعلا يتنبأ لما سيحدث في عصرنا الحديث وبالذات من كل مستعمر غابر , وهاهي قد صدقت تنبأته فهاهم الأغراب يحاسبوننا وهاهم الأعداءُ يحاكموننا وكأننا معقلا للجرم والإرهاب .
شاعر لا يعرف السكوت عن الظلم , شاعر يهوى التكلم بصوت الحقيقة, يعتز بالقومية , ويدافع عن الوطن الموحد , ويكره كل مستعمر أثم .
|