المؤتمرنت - الشرق الاوسط - صراع داخل الجنين.. بين جينات الأب والأم في ظل قوانين مندل للوراثة، بإمكانك أن تشكر الأم والأب على حد سواء على جميع الصفات البارزة التي ورثتها.
بيد أنه كان هناك منذ فترة طويلة، بعض التفاصيل الدقيقة التي تشير إلى أن جينات الأب والأم لا تلعب أدوارا متساوية تماما. وتشير الأبحاث المنشورة في شهر أغسطس (آب) الماضي إلى أن عدم تماثل الأدوار هذا قد يكون أكبر بكثير من المفترض. وقد يمثل عدم التماثل، القائم على آلية جينية تسمى «الدمغ» imprinting، بعض الاختلافات بين عقول الذكور والإناث وبعض الاختلافات في إسهامات الأم والأب في السلوك الاجتماعي.
* يحصل الفرد على مجموعة واحدة من الجينات من كل من الوالدين. وبصرف النظر عن الصبغيات (الكروموسومات) الخاصة بالجنس، فإن المجموعتين متكافئتان، ومن حيث المبدأ لا يهم ما إذا كان الجين يأتي من الأم أو الأب. وأتى الدليل الأول على أن ذلك ليس دوما صحيحا من التجارب، التي تم فيها إخضاع أجنة الفئران إلى هندسة وراثية لجعلها تحمل مجموعتين كاملتين من الجينات الذكورية، أو مجموعتين كاملتين من الجينات الأنثوية. وماتت الفئران التي تحمل مجموعتين من الجينات الذكورية والفئران التي تحمل مجموعتين من الجينات الأنثوية في الرحم. ومن الواضح أن الطبيعة تتطلب جينوما (مجموعة كاملة من الجينات) واحدا من كل واحد من الوالدين.
وبعد ذلك جعل الاختصاصيون في علوم الحياة، الأجنة قابلة للحياة عن طريق خلطها في بعض الخلايا الطبيعية. وكانت النتيجة المذهلة هي أن الفئران التي كان لديها مجموعتان من الجينوم الذكوري كان لها أجسام كبيرة وعقول صغيرة، وحدث العكس مع الفئران التي لديها مجموعتان من الجينوم الأنثوي. ومن الواضح أن الجينوم القادم من الأم والأب لديها تأثيرات معاكسة على حجم الدماغ.
* تعطيل الجين
* وأصل عدم التماثل هو إجراء يسمى الدمغ الجيني، الذي يتم فيه إخماد نسخة من جين معين من الأم أو الأب. ويتعلق أفضل مثال ناجح بجين عامل النمو المشابه للأنسولين 2 (IGF-2)، الذي يعزز نمو الجنين. ويعد جين عامل النمو المشابه للأنسولين - 2 نشطا في الجينوم الذي يأتي من الأب، لكنه مدموغ أو خامد في الجينوم الذي يتلقاه الجنين من الأم.
والتفسير الرئيسي للدمغ هو نظرية تتسبب في الصراع بين الأقارب. وتعتقد هذه النظرية، التي طورها ديفيد هيغ، المتخصص في علم الأحياء التطوري بجامعة هارفارد، أن هناك تضارب مصالح بين الجنين، الذي يهدف إلى استخراج أكبر قدر ممكن من التغذية، وبين الأم، التي تكمن مصالحها في تخصيص مواردها بالتساوي لجميع الأطفال الآخرين الذين قد تحملهم في المستقبل.
وفي مسار التطور، تتم تسوية هذا الصراع في أحد المستويات الجينية، حسب تفسير الدكتور هيغ، لأن الأم والأب لديهما مصالح مختلفة. وبالتحدث عن الثدييات (اللبائن) بصفة عامة، فإن ما يقود هذا الصراع هو ممارسة الأنثى الجنس مع أكثر من ذكر. وتريد الأم اقتسام مواردها بين الأولاد الذين قد يكون لهم آباء مختلفون، في حين أن الأب لا يهتم سوى ببقاء طفله على قيد الحياة. وعليه، فإن الأب يمنح دوما جين عامل النمو المشابه للأنسولين - 2 في الصورة النشطة، وتورث الأم دوما هذا الجين في صورة مدموغة أو صامتة. ويحدث دمغ الجين في الفئران والبشر وثدييات أخرى كثيرة.
وقد يبدو الأمر غريبا أن يكون هناك صراع جيني داخل الجنين، مع طلب نسخة الأب من جين عامل النمو المشابه للأنسولين - 2 المزيد، ورفض نسخة الأم طلب أي شيء، لكن من المفترض في سياق التطور أن الأفراد الذين حملوا هاتين النسختين المتصارعتين من الجينات خلفوا ذرية أكبر من الأفراد الذين حملوا هذا الجين في أي صورة أخرى.
* جينات معطلة
* حتى الشهر الماضي، لم يكن هناك سوى مائة جين مدموغ معروف، وبدت الآلية وكأنها انحراف مثير من علم الوراثة الخاص بمندل. وأظهرت الأبحاث التي أجراها كريستوفر غريغ وكاثرين دولاك من جامعة هارفارد أن الدمغ أكثر شيوعا وتعقيدا بكثير من المفترض.
وبإجراء الأبحاث على الفئران، أظهر فريق جامعة هارفارد أنه يتم دمغ نحو 1300 جين. وقالت الدكتورة دولاك إنها تتوقع أن يتم دمغ نسبة كبيرة في الناس، ربما نحو واحد في المائة من الجينوم، لأن نسبة أحادية الزواج بين البشر أكبر من الفئران، وبالتالي فإن مصالح الوالدين أكثر اتساقا.
وكان الدكتورة بولاك قادرة على اكتشاف عدد كبير للغاية من الجينات الجديدة المدموغة عن طريق الاستفادة من السهولة التي يمكن بها الآن فك شفرة الجينات. قامت بتهجين سلالتين مختلفتين للغاية من الفئران، مما يضمن أن نسخ الأم والأب من كل جين سيكون لها سلاسل مختلفة من الحمض النووي المنقوص الأكسجين «دي إن إيه» DNA.
وعندما يتم تنشيط أي جين، فإن الخلية تسجله في الحمض الريبي النووي «آر إن إيه» RNA، الشقيق الكيميائي المقرب للحمض النووي DNA. وبفك شفرة جميع نسخ الحمض الريبي النووي في خلايا الفأر، استطاعت الدكتورة بولاك اختيار هذه الجينات، التي يتم فيها تسجيل نسخة الأب بصورة أكبر بكثير من نسخة الأم، والعكس بالعكس.
وإلى جانب اكتشاف جينات مدموغة بصورة أكبر من المتوقع، حصلت الدكتورة بولاك أيضا على أنماط غير متوقعة بالطريقة التي تم بها التعبير عن الجينات. وكانت جينات الأم أكثر نشاطا في مخ الجنين، بيد أن جينات الأب أصبحت أكثر نشاطا في البالغين.
* تأثير الجينات
* وفي نمط آخر جديد، عثرت بولاك على 6 اختلافات في الجينات المدموغة في منطقة مختلفة من المخ، لا سيما الجينات المتعلقة بالتغذية وسلوك التزاوج. ويتم تنشيط جين يسمى إنترلوكين - 18 من نسخة الأم في منطقتين مهمتين في المخ. ويعد هذا التباين مهما لأن هذا الجين في البشر يرتبط بتصلب الأنسجة المتعدد، وهو مرض يسود بين النساء.
وإجمالا، اكتشفت الدكتورة بولاك 347 جينا، تم فيها إظهار نسخة الأب أو الأم بنشاط في مناطق معينة من المخ. وفي العادة يتم إرجاع 6 اختلافات في المخ إلى تأثير الهرمونات، لكن الاختلافات القائمة على الجنس في عملية الدمغ قد تكون آلية أخرى تعزل بها الطبيعة عقول الإناث والذكور عن نفس الجينوم.
وقالت الدكتورة بولاك: «في مخك، يواصل والدك ووالدتك إخبارك بما يجب أن تفعل.. إنني أضحك كثيرا عندما أفكر في ذلك».
وفي القشرة الخارجية للمخ، اكتشفت الدكتورة بولاك نوعا آخر غير متوقع من التباين. تمتلك النساء اثنين من كروموسومات إكس، واحدا منهما من الأم والآخر من الأب. وتتمثل القاعدة المعتادة في أنه في كل خلية يتم اختيار أي من نسخة الأم أو الأب بصورة عشوائية ليتم إغلاقها. لكن في الخلايا العصبية في القشرة الخارجية، هناك فرصة أكبر بكثير في إغلاق الكروموسوم إكس من الأب. وقالت الدكتورة بولاك: «لذا، مرة أخرى، إنه الصراع بين الأب والأم، كل منهما يحاول استخدام الكروموسومات المختلفة للتأثير عليك».
ويقول الدكتور هيغ إن نظريته الخاصة بعملية الدمغ لا تفسر فقط الصراع بين الأم والجنين، لكن أيضا السبب في وجود جينات مدموغة في المخ.
يتعلق كل ذلك بالمصالح المختلفة لأسرة الأم وأسرة الأب، التي تجذب الفرد في الاتجاهات المختلفة. ويدخل الأقارب في هذه الجدلية، لأنهم يتقاسمون نسبا متباينة من جينات الفرد.
* صراع الجينات
* ويعتمد التلاؤم التطوري على تمرير الجينات من الفرد إلى الجيل المقبل، لكنه مهم أيضا في تمرير الجينات المتماثلة التي ورثها بصورة مشتركة أشقاء الفرد وأعمامه وعماته. واقترح المبدأ، المعروف باسم الملاءمة الشاملة inclusive fitness، المتخصص في علوم الأحياء ويليام هاميلتون في ستينات القرن الماضي، ويعد مقبولا على نطاق واسع، على الرغم من وجود نقاد. وتعرض للانتقاد الشهر الماضي في دورية «نيتشر» من الاختصاصي في علوم الأحياء إي أو ويلسون واثنين من زملائه.
وأشار الدكتور هيغ إلى أنه في إطار الملاءمة الشاملة كان من الممكن حدوث صراع للمصالح بين أقارب الأب وأقارب الأم نظرا للأنماط المختلفة للتشتيت للرجال والنساء. وفي أغلب الأحيان، كانت المرأة هي التي تترك قرية أسلافها وتذهب لتعيش مع أسرة الزوج.
وتعد جينات الأم مؤهلة للفوز إذا كانت المرأة أنانية بقدر الإمكان وتركز فقط على رفاهيتها ورفاهية أطفالها. لكن بما أن الأب يرتبط بأي شخص آخر في القرية، فإن جينات الأب ستكتسب من سلوك الإيثار. وسينتج عن هذا الصراع جينات مدموغة، مثل المعركة بين الأم والجنين حول موارد المرأة، في وجهة نظر الدكتور هيغ.
* الإيثار والأنانية
* ووضع اثنان من الاختصاصيين في علم الأحياء التطوري، فرانسيسكو أوبيدا من جامعة تينيسي وأندي غاردنر من جامعة أكسفورد بإنجلترا، نموذجا رياضيا لتقييم نتائج امرأة تعيش في قرية زوجها، بين أناس لا ترتبط بهم. وقال الاثنان في مقال نشر في العدد الحالي من دورية «إيفوليوشن» إن الاختيار الطبيعي سيفضل تنشيط جينات الأب التي تشكل سلوك الإيثار وجينات الأم التي تعزز الأنانية. وقال الدكتور غاردنر: «تريد جينات الأب لديك أن تكون أكثر لطفا مع جيرانك مما تريد جينات الأم».
وفي معظم الأفراد تعمل دوافع الأنانية والإيثار في نوع معقول إلى حد ما من التوازن. بيد أن الجينات المدموغة تحمل ضعفا خطيرا: بما أنها صامته، فإن التحول إلى نسخة أخرى من الممكن أن يكون كارثيا. وقد تكون أمراض مثل التوحد متصلة بالاضطرابات في الجينات المدموغة، حسبما يقول الدكتور غاردنر.
وقد يلعب الدمغ، بصرف النظر عن أنه مثير من الناحية الجينية لفضول العلماء، دورا رئيسيا في الاختلافات الجنسية والمرض النفسي، إذا كان تفسير الدكتور هيغ صحيحا. وتأتي معظم الأدلة المتاحة من الفئران، وقد يكون الأفراد حرروا أنفسهم إلى حد ما من الدمغ عندما طوروا نظام التزاوج القائم على أحادية الزواج قبل نحو مليون عام. بيد أن هذا النظام لا يعني الزواج الأحادي الكامل، وفي انحرافاته عن الكمال، هناك مساحة كبيرة لازدهار الدمغ.
* خدمة «نيويورك تايمز»
|