عبدالرحمن مراد -
إيديولوجيا «الإخوان» (1)
كنت قد تحدثت في موضوع سابق عن حلم «الإخوان» في قيادة البشرية، ومعوقات الحلم وبعض مرتكزات أيديولوجيتهم وقد رأى الكثير ممن يقرأ ما نكتب أن نكشف ما تيسر لنا من جوانب الفكر الاخواني زيادة في الفائدة وإلماماً بجوانب الموضوع المختلفة، وبقدر حرصي على الإحاطة والإلمام ولو بشكله الجزئي إلا أني التمس العذر من أولئك الأصدقاء المتابعين لما نكتب كون الموضوع شائكاً وهو ليس سهلاً كما يذهب حسن ظنهم إليه، ولكني سأحاول الإبانة بقدر ما تسمح به المساحة المخصصة لي في هذه الصحيفة. كنت قد أشرت في الموضوع السابق إلى «الحاكمية» و«الجاهلية» كمفهومين اشتغل الفكر الاخواني عليهما طوال نصف قرن من الزمان.. ولعل القارئ الممعن في تفاصيل وأبعاد الواقع يدرك نتائج ذلك الاشتغال الذي انتقص من الإسلام ولم يزده ماهو به جدير.
ومفهوم المجتمع الجاهلي كما قال بها سيد قطب وأصبح سائداً في منهج حركة الإخوان يتحدد في قوله: «إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم.. وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا: إنه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده.. متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي وفي الشعائر التعبدية، وفي الشرائع القانونية. وبهذا التعريف الموضوعي يدخل في إطار «المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً». «ويدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة». «ويرى أن المجتمعات المسلمة لا تدخل في إطار المجتمع الجاهلي لأنها لا تعتقد بإلوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضاً.. ولكنها تدخل في إطار المجتمع الجاهلي لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها، فهي وإن لم تعتقد بإلوهية أحد إلا الله - تعطي أخص خصائص الإلوهية لغير الله.. فتدين بحاكمية غير الله، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها وشرائعها وقيمها وموازينها وعاداتها وتقاليدها.. وكل مقومات حياتها..» والمتأمل يدرك أن هذا المفهوم يتداخل بصورة جدلية بين ما هو إلهي وما هو بشري، وبين ما هو زمني وما هو غير زمني، وبين ما هو عقائدي وبين «أنتم أدرى بشؤون دنياكم» كما وردت على لسان الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - كما أن هذا المفهوم يتضاد مع مبدأ «إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق» ومصادر التشريع التي قال بها علماء أصول فقه المعاملات من إقرار العرف كمصدر من مصادر التشريع ومبدأ الإجماع وهي قضايا يجب الوقوف أمامها بمهارات التحليل والتركيب والتنظيم وإعادة البناء والتقييم والتوظيف وصولاً إلى قيم معرفية جديدة تواكب مستجدات الحياة وتطوراتها بعيداً عن القول إن الدولة المدنية كفر لأنها تتجاوز حاكمية الله انطلاقاً من الأساس الفكري الذي ترسخ في ذهن حركة الإخوان من قول سيد قطب: «.. أو استمدتها من هيئات مدنية «علمانية» تملك سلطة التشريع دون الرجوع إلى شريعة الله.. أي أن لها الحاكمية العليا باسم «الشعب» أو باسم «الحزب» أو باسم كائن من كان ذلك أن الحاكمية العليا لا تكون الا لله سبحانه، ولاتزاول إلا بالطريقة التي بلغها عنه رسله»، والثابت من سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام أنه حين تدخل باسم الله في زراعة نخل المدينة تعطلت وسائل الإنتاج وقيمه، ولذلك قال: «أنتم أدرى بشؤون دنياكم» وفي ذلك بيان بالفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي ويرى قطب أن الأصول المقررة للاجتهاد والاستنباط مقررة كذلك، ومعروفة وليست غامضة ولا مائعة.. فليس لأحد أن يقول لشرع يشرعه هذا شرع الله، إلا أن تكون الحاكمية العليا لله معلنة وأن يكون مصدر السلطات هو الله سبحانه لا (الشعب) ولا (الحزب) ولا أي من البشر، وأن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله لمعرفة ما يريده الله، ولا يكون هذا الكل من يريد أن يدعي سلطاناً باسم الله كالذي عرفته أوروبا ذات يوم باسم «الثيوقراطية» أو «الحكم المقدس» فليس شيء من هذا في الإسلام.. وما يملك أحد أن ينطق باسم الله إلا رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وإنما هنالك نصوص معينة هي التي تحدد ما شرع الله..».. ولعل القول بالنصوص التي تحدد حاكمية الله يضعنا في دائرة جدلية لا تنتهي عند موضوع العام والخاص والخطوط العريضة والتفاصيل الصغيرة من اليوميات والجزئيات ذلك أن بعض الأحكام قد بلغت غاية تشريعها وتعطلت وهي ثابتة وقطعية الدلالة ولا يمكن لنا إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء حتى نتمكن من تمثل تلك الأحكام تحقيقاً لحاكمية الله، ولو كانت الحاكمية تعني المزج بين ما هو ديني وما هو دنيوي لأصبحنا في حاجةٍ إلى قرآن يتداخل في قضايا وجزئيات اليومي من حياة البشر، والثابت أن القرآن تعامل مع الإنسان بملامح عقائدية وتشريعية عامة وعريضة وبذلك استطاع ان يحدد الفواصل النظرية بوضوح تام بينه وبين تيارات الفكر في العالم أجمع، وهما (أي القرآن والفكر) متقاطعان عند قضية محورية هي الإنسان ولم يثبت في التاريخ البشري ما يدل على سير التشريع السماوي والتشريع الوضعي في خطين متوازيين قد يحدث انحراف جزئي أو كلي فتأتي الرسالات السماوية للتعديل والتصويب، والقضية ذات جدل طالما والفكر الديني لم يتمكن من وضع حد للتناقض المعرفي الحاصل في علاقة النص القرآني بالرواية، إذ أن هناك من يعترف بالرواية وهناك من يستبعدها وهناك من يعترف بها مع قناعته باستبعادها - بوصفها خبراً ظنياً- عن مجال التفسير للنص ولعل ما يذهب إليه بعض أرباب الفكر المعاصر من القول بوجوب إحداث قطيعة مع مرحلة التكون الأولى، وإعادة إنتاج العلوم الإسلامية على أساس عقلي قرآني وبحيث يمكن على الصعيد المعرفي، وطبقاً لمنهج علمي الخروج بنتائج تحكمها ضوابط علمية منها تقدم اليقين على الظن، وقد تتمكن الأمة المسلمة حينها من قيادة البشرية لأنها حينها تكون قد تجاوزت معوقات التفكير النقدي الذي يقف حائلاً دون تقدمها ويجعلها تراوح مكانها تخوض جدلاً عقيماً لا يلبي مقاصد الله وغاياته بل يراكم تخلفها، ويجعلها في مربعات ضيقة من أسئلة العصور والأزمنة بسبب من خطأ النظرة الانتقائية ومحاولة إضعاف الخصم افتعالاً حتى تسهل هزيمته بتشويه رأيه وعدم الأمانة في عرض موقفه وتأويل مقولاته دون التحليل والتركيب واستخلاص المعرفة وإعادة البناء والتركيب كما نقرأ ذلك في ايديولوجيا الأخوان التي لا ترى في النظرية الاشتراكية إلا الجزئية الانتقائية المتمثلة في المادية والتفسير الجدلي للتاريخ فهي تهاجمها وتشكك في الدوافع والنوايا ولم نقرأ لها تفنيداً أو رؤية ذات سند علمي يقيني يدحض وقس مثل ذلك الليبرالية التي تهاجمها في جزئية أخلاقية دون النفاذ إلى جوهرها. ولعل الجدل الحاصل الآن بين حاكمية الله والدولة المدنية خير دليل على الانتقائية، فالذين يقولون بكفر الدولة المدنية لا يفعلون أكثر من التشكيك في الدوافع والنوايا والتنديد بالأفعال والعلاقات ولكنا حتى الآن لم نقرأ تفنيداً ودحضاً وتعليلاً منطقياً يقول بفساد الدولة المدنية وتعارضها مع حاكمية الله وفي ذلك دلالة على تعطيل قوى الابتكار والإبداع وهو ما يتعارض مع مقاصد الله في القرآن حيث دلت النصوص على إعمال الفكر وتفعيل دور العقل في اليقين والوصول إلى الحقيقة..
والسؤال الأبرز: ما وجه التعارض بين الدولة المدنية القائمة على شروط الالتزام بالعقد الاجتماعي «الدستور» وبين الدولة الدينية «الخلافة»؟ ندرك أن مفهوم الأمة في لحظة ازدهار الحضارة الإسلامية كان أساس الانتماء فيه الالتزام بشروط العقد الاجتماعي ويتضح ذلك من خلال نص «صحيفة المدينة» تلك التي اعتبرت «اليهود أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم»، أي أن لأهل الأديان الأخرى حق المواطنة الكاملة .. وللحديث بقية.