محمد علي عناش - لن تمروا أمام هذا الهوس وهذا الجنون الذي يتدافع خلف راية اليماني، لكنه اليماني القادم من قلب العصيمات، لا كما تناولته الروايات، وبشرت به الطموحات والبرامج والخطابات، وكأنه إمعان تاريخي بأن لانتجاوز عنق الزجاجة، وأن لانصل بصخرة «سيزيف» إلى رأس الجبل، أمام هذا الخراب وهذه المآسي والجراح اليومية، باسم ثورة الشباب المغدور بها من قبل نفس القوى التقليدية التي غدرت بسبتمبر وأكتوبر، أمام إلحاح الكثير من الأصدقاء بأن أؤمن بالثورة على هذه الشاكلة، تذكرت ذلك الفلاح الروسي العجوز في رواية «أرضنا البكر» لشوموخوف عندما وقف على ربوة يخاطب نفسه في يوم ماطر شديد البرق والرعد «كيف يريدونني أن أؤمن بنظريتهم، وأنا مع كل لمعة برق وصرخة رعد، ترتعد فرائصي من خشية الله».
وأنا أيضاً كيف يريدونني أن أؤمن بهذا الجنوح الثوري، وهذا الاسترخاص للآدمية، والانتهاك الصارخ لحرمة الوطن.. لن أؤمن بثورة على هذه الشاكلة، يصنعها فاشيون ورجعيون ومتطرفون، يرفضون الحوار، ولايقيمون أي وزن لوطن يمزق ويدمر وشعب يذبح، ولم نتجن عندما قلنا منذ البداية أنهم لابسو أقنعة وتجار مبادئ ليس إلاّ..
ليست ثورة يأبى من يأبى ويشاء من يشاء، فقد سلبوها كل الإمكانات والسمات الثورية الحضارية، جردوها من كل شيء جميل، ومارسوا عليها أقوى عملية مسخ ممنهج، جعلها بلا ذات وبلا هوية وبلا كيان مستقبلي، سوى أن اسمها ثورة، وكل القنوات منذ ثمانية أشهر مازالت تقول عنها ثورة من باب صب الزيت على النار وإشعال المزيد من الحرائق، والشباب لم يفيقوا بعد، لكي ينظروا ماذا حل بثورتهم وبأحلامهم وطموحاتهم، لكي ينظروا إلى حقيقة من اعتقدوا أنهم حماة للثورة، كيف ملأوا شوارع صنعاء وحاراتها بالدبابات والمصفحات وراجمات الصواريخ ومختلف آلات الموت وقتل الحياة، ترى من تستهدف سوى «اليمن» وماذا تريد؟ سوى أن تتسلط وتتطرف وتفسد أكثر، سوى أن تملأ اليمن مآتم ومجالس عزاء، وتحرق أكباد الآباء والأمهات، كما فعلتها ذات المصفحات والراجمات في جبال صعدة ووديانها، وعسكر زعيل هو نفسه عسكر زعيل، من يتنقل في كل مكان يوزع الأحزان والمآتم والفقدان، ويستلم الأجر والمخصصات، ويتفنن في الاستحواذ عليها، وزعيل هذا قائد عسكري طارئ ظهر في مسرح الأحداث اليمنية المؤلمة، وقد أثري ثراءً فاحشاً في مدة قياسية من تجارة العذابات والمآسي في سوق الحروب والصراعات، هو نسخة طبق الأصل من قائده الجنرال علي محسن الأحمر، لن تستحضرهما ذاكرة هذا الجيل اليمني، كأبطال وثوريين، وإنما سيرتبطون بذاكرة مآسيهم، وأسوأ فترات حياتهم..
موت ثورة
حان الوقت أن يدرك الشباب الأحرار من يحملون قضية وطنية، ومن ينطلقون من إرادة حقيقية صادقة أن استهداف الوطن بأعمال التخريب واستنزاف إمكاناته وقدراته باسم الثورة والتغيير، ومن قبل قوى انتهازية ومتطرفة، لا يعد فعلاً ثورياً سوياً، وإنما فعل تمرد وتخريب، وتعبيراً عن ثقافة قوى تريد أن تصل إلى السلطة بهذه الطريقة وهذه الثقافة، لأن الثورة قيم ومبادئ وطنية وإنسانية سامية وإرادة مبدعة خلاقة..
حان الوقت أن يدركوا أن مكوثهم في الساحات لأكثر من مائتين وأربعين يوماً حتى اللحظة لم يعد بكل المقاييس اعتصاماً ثورياً، وإنما اعتقالاً وسجناً وموتاً سريرياً لثورة كانت يمكن ان تكون ثورة حقيقية، وتصحيحاً لمسار سبتمبر وأكتوبر والوحدة المباركة، عبر منظومة متكاملة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يتم الضغط شعبياً من أجلها حتى توضع موضع التنفيذ والممارسة دونما اللجوء إلى الزحف والحسم الثوري والصواريخ والاغتيالات وتدمير ونهب المنشآت، لكن مع الأسف والحسرة والندامة أولاً على وطن صار يدمر، وثانياً على إرادة ثورية سلبت وزورت، فلحظة التغيير الثورية سلمت لقوى ليس لها أية علاقة بالتغيير المنشود، وإنما لها علاقة بالانقلابات المسلحة، ومشدودة كوعي وثقافة وتنظيم إلى الدولة العشائرية والمال العام ومنطق القوة، لذا استنسخوا من لحظة التغيير ما يسمى «ثورة» بنكهة البارود وبشكل الدم، ونزق قحطان والصبري، وضوضاء الأضرعي بوصفه فاعلاً ثورياً كمهرج، وعلامة الامتياز الثورية للمستقبل ثورة كانت ناتج معادلة كيمياء الوعي المتناقض والمتشظي مع الضمير المتفسخ والمستلب، لذا أمعنت هذه الثورة المستنسخة، أن يكون أول ضحاياها، هم أول من هتفوا في ساحة التغيير بالحرية والديمقراطية والدولة المدنية، وجسدوا بشعارات التحديث التي رفعوها روح الثورة الحقيقية، لم يكن الأمر عفوياً، بل مقصوداً وبإمعان، لإطفاء جذوة التغيير الحقيقية، وأيضاً هو دلالة على أن القضية قضية وعي حديث المستقبل لا قضية ساحة مزروعة الغام، أو قضية مشترك متأسس على وعي الظاهر والباطن.
انتصاراً للشعب والوطن
يجب أن ندرك ويدرك معنا كل وطني حر وغيور، وكل من يتألم من هذه اللحظة الثورية البشعة، أن الحقائق لايجب أن نظل نزيفها أو نتجاوزها أو نلتف عليها، مهما بلغت المكاسب السياسية، لذا حان الوقت أن نتعاطى مع الحقائق كحقائق، فقد صار الأمر فظيعاً وغير معقول، أن تجير إرادة وطموحات هذا الشعب الطيب، لحساب طموحات وثارات أفراد وأحزاب سياسية، أظهرت قدراً كبيراً من الاستهانة بالدماء التي تسفك، وقدراً كبيراً من اللامبالاة وعدم الإحساس بالمعاناة الشعبية، والإمعان في تزوير الحقائق وممارسة الغش بكل أشكاله، لإخفاء وطمس جرائمهم بحق الوطن والشعب، ويريدوننا أن ننحت لهم تماثيل كقادة ثوريين وقديسين ورموز نضال وطني.. لن نعمل ذلك، وإنما سنبدع جداريات للحصبة المدمرة وبرج الطيران المحترق، ونقول للعالم وللأجيال القادمة: إنكم من فعلتم ذلك، وسنرسم جدارية الحسم الثوري يومي 18،19 سبتمبر 2011م، أطفالاً وشباباً يتدافعون نحو المنشآت والوزارات، ومن خلفهم جنود ومصفحات ودبابات الثورة، وستعنونها بـ«فظائعكم» كونكم من أمرتم بذلك، سنجعل من كل لحظة من لحظات هذه الأزمة الفوضوية، مادة إبداعية ننزع بها كل الأقنعة، ونكشف بها الوجوه الحقيقية لهذه الفوضى، حتى لا تستنسخكم الأجيال القادمة.
إن هذه الأزمة الوطنية الخطيرة، بما تحدثه من أحداث مأساوية وما أظهرته من مستويات سياسية هابطة ومتجردة من كل المعاني الجميلة والقيم السامية، حتى الوطن صار بلا معنى وبلا قيمة لدى هذا التجمع من تجار الحروب والدين وناهبي الأراضي ومتهربي الضرائب وفقهاء السياسة الثأرية، إلاّ أننا ندين لهذه الأزمة، بجانب ايجابي وحيد، وهو أنها أحدثت حالة فرز واسعة، كشفت الكثير من الأقنعة، ومزقت أوصال التحالفات التي أعاقت بناء دولة النظام والقانون وأعاقت التحولات الديمقراطية والاجتماعية في بلادنا، ومن المؤسف أن تقع أحزاب سياسية تقدمية كالتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري والحزب الاشتراكي اليمني، في مصيدة وشباك هذا النوع من التحالفات التقليدية، التي تسيئ لفلسفة الثورة الناصرية ومشروعها الحضاري العربي وتسيئ لمشروع التنوير والتحديث للاشتراكية العلمية التقدمية، والنتيجة أن يحدث ما يحدث من خراب ومآسٍ بالتوافق ما بين تقدمي ورجعي وانتهازي..
هل تساءل الناصريون والاشتراكيون: لماذا لم تحض ثورة اليمن بتأييد المجتمع الدولي، كما حصل مع ثورتي تونس ومصر؟ لأن المجتمع الدولي يدرك منذ أن تشكل اللقاء المشترك أنه تحالف سياسي غير طبيعي، قد يثمر بالتوافق في تهيئة الملعب السياسي، وأن يكون عاملاً مساعداً في توفير أجواء مناسبة لتحقيق المزيد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، أما أن يكون هذا التحالف السياسي المتشظي لصناعة ثورة الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي، فيدركون أن في الأمر كذبة، ولن يكون المستقبل كما يدعون، لاعتبارات سياسية وثقافية جوهرية لايمكن استبعادها، مهما أسند للاشتراكيين والناصريين وبعض الأكاديميين المستقلين، مهمة تسويق الثورة إعلامياً، كثورة مدنية وتقدمية، لأن الآخر يدرك تماماً أن المنظومة الاجتماعية والثقافية التقليدية والمتطرفة في اليمن هي من تملك أدوات القوة، وترسم مسار الأحداث ومآلاتها المستقبلية، وهي الفاعل الرئيسي في الحالة الثورية الفوضوية كما في الحصبة وبعض شوارع صنعاء، وفي أبين وأرحب ونهم وتعز، أما تلك الأحزاب فيكتف منها أن تبارك هذا التخريب وهذه الفوضى برضاها أو دون رضاها، ومن المخجل حقاً أن يأتي يوم تتهم فيه هذه الأحزاب وشباب الثورة، تنظيم الأخوان المسلمين وقواه التقليدية والعسكرية بسرقة الثورة، كما هو حاصل اليوم في مصر..
الفئة الصامتة ثورة قادمة
يجب أن يفهم الجميع أننا لسنا أعداءً للثورة أو مناهضين للتغيير، أو أننا نحمل وعي وثقافة خضوع واستسلام، كما يعتقد البعض من الذين يستهينون بما يحدث من خراب وانتهاكات باسم ثورة الشباب المسروقة، لأنه لايمكن أن نكون أعداء للثورة والتغيير، فقط لأننا نتألم من مشاهد الدماء التي تسفك والدمار الذي يحدث للوطن، لا يمكن أن نكون كذلك لأننا رفضنا تزوير الحقائق ورفضنا الأعمال المسلحة والتوجه الانقلابي، مثلما لايمكن للفاسد أن يتطهر ويتحول إلى قديس بمجرد نزوله إلى الساحات، ستكون هنا المعادلة مختلة وغير منطقية..
تكلمنا منذ البداية، أن الثورة الحقيقية لايصنعها متطرف ولا مثقف وسياسي انتهازي، وأن الثورة لايمكن أن ترفس بالبيادات وتعتقل الثوار وتهينهم، وتقنصهم من الخلف في كل مرحلة تصعيد، قلنا أن الثورة لا يصنعها أو يحميها باحث عن سلطة وجاه، مكملة لسلطته المالية والاجتماعية التي راكمتها ثقافة القوة والاستبداد الاجتماعي، وفترات الزواج الكاثوليكي النفعي مع السلطة، لايمكن لمن تعهد أن يهدي «صماطته» لأول شهيد، أو من يملك في جعبة وعيه الكارثي مائة ألف صك شهادة في سبيل الله، أن يكون ثورياً أو بالأحرى إنساناً..
حقيقة إن الوضع المأساوي في بلادنا لايجب السكوت عليه، فقد حان الوقت للأغلبية الصامتة، أن تقول كلمتها أكثر، كي توقف هذا النزيف والخراب، وتمنع هذا الانقلاب المسلح، أن تنزل إلى الساحات والشارع السياسي، حاملة مشروع التغيير، أن تصنع من هذه اللحظة المهمة والخطيرة في تاريخنا، ثورة تغيير حقيقية، وأن يسمع العالم صوت هذه الفئة التي تناساها الانقلابيون والغوا وجودها وتكلموا بالنيابة عنها، زوراً وبهتاناً، حان الوقت أن تقول لهذه القوى كفى لن تمروا من هنا كي تعبثوا بحاضرنا ومستقبلنا مرة أخرى..
1- نحن مع الانتخابات المبكرة والانتقال السلمي الآمن للسلطة وضد التخريب والانقلاب المسلح للوصول للسلطة.
2- نحن مع الاصلاحات السياسية، نحو نظام حكم برلماني ونظام القائمة النسبية، لما يمثله ذلك من ضرورة وطنية في ترسيخ الوعي السياسي وتطوير الممارسة الديمقراطية.
3- نحن مع الحوار الوطني البناء، لاجدل السياسة العقيم، والطموحات الفردية والحزبية والتصلب في الآراء والمواقف.
4- نحن مع الاصلاحات الاقتصادية وضرورة تجفيف منابع وبؤر الفساد في كافة مؤسسات وهيئات الدولة.
5- نحن مع الدولة المدنية وتعزيز حضورها وتغلغلها في جميع الاتجاهات والجوانب.
6- نحن ضد التطرف والإرهاب وضرورة محاربته وتجفيف منابعه ومؤسساته الثقافية والفكرية.
|