أحمد الحبيشي -
أميركا واليونسكو .. وبينهما فلسطين
أثار قرار الإدارة الاميركية وقف تمويل حصة الولايات المتحدة الاميركية في موازنة منظمة «اليونسكو» العالمية في إطار العقوبات التي فرضتها على هذه المنظمة بسبب اعترافها بدولة فلسطين وقبولها عضواً كاملاً في عضويتها ، موجة من الغضب والاستنكار في العالم العربي وفي أوساط القوى المحبة للسلام والحرية، حيث تواصل الحكومة الاميركية موقفها المعادي لثورة الشعب الفلسطيني وكفاحه المشروع من أجل الحرية . والثابت أن الغضب العربي على السياسة الامريكية المنحازة لاسرائيل ينطلق من شعور متزايد في العالم العربي والاسلامي بخطورة تأثير اللوبي الصهيوني في المؤسسات الدستورية والاقتصادية والاعلامية الامريكية التي تلعب دوراً مؤثرا ً في صنع القرار السياسي، الأمر الذي يفسر حرص صانع القرارالامريكي على مراعاة الصوت الانتخابي اليهودي .
بيد أن ثمة سؤال لم يجب عليه الساخطون على نفوذ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الامريكية،وهولماذا ينجح أربعة ملايين من المواطنين اليهود الامريكيين،في ان يلعبوا دوراً أكثر فعالية من تسعة ملايين من المواطنين العرب والمسلمين الامريكيين الذين لا يوجد لهم أي تأثير مقابل الصوت الانتخابي للجالية اليهودية؟.. قبل محاولة الاجابةعلى هذا السؤال،لابد من الإشارة الى ان المشاركة الواسعة للجالية العربية والاسلامية الفرنسية في الانتخابات الرئاسية التي اسفرت عن فوز الرئيس الفرنسي جاك شيراك وهزيمة خصمه لوبن مرشح اليمين المتطرف الذي فاجأ الفرنسيين بنجاحه الكبيرفي الجولة الأولى ، ما كانت لتحدث لولا خوف أربعة ملايين من أفراد هذه الجالية، من خطرالتهجير الذي كان ولايزال حتى الآن كابوساً يقض مضاجعهم ،خصوصا بعد تزايد العمليات الارهابية في اوروبا وما يتبعها دائماً من تشريعات ومحاكمات تستهدف التضييق على الجاليات العربية والإسلامية في البلدان الاوروبية . وبوسعنا القول ان اسباب ضعف تأثيرالصوت الانتخابي لهذه الجاليات في اوروبا لا تختلف عن أسباب ضعف الصوت الانتخابي للجالية العربية والاسلامية في الولايات المتحدة الامريكية، على الرغم من تفوق عددها على عدد افراد الجاليات اليهودية في اوروبا وامريكا الشمالية .
لا ريب في أن نمط حياة وتفكيرالجاليات اليهودية في قارتي اوروبا وامريكا الشمالية على وجه التحديد،شهد تغيراً نوعياً منذ ظهور الحركة الصهوينية التي ادى ظهورها الى تخليص اليهود في هاتين القارتين من عزلتهم التي فرضوها على انفسهم طوال القرون الماضية داخل إطار نظام الجيتو، وإدماجهم بالحياة السياسية والاقتصادية والاعلامية والثقافية للمجتمعات التي يعيشون فيها، وتوظيف كل ذلك لصالح فكرة الدولة القومية للأمة اليهودية في فلسطين،والخلاص من الاضطهاد الذي لقيه اليهود في اوروبا على وجه التحديد بسبب نظام الجيتوالانعزالي الذي فرضوه على انفسهم ،وأدى الى تغدية الشعور بالكراهية تجاههم من قبل المجتمعات التي يعيشون فيها،واضطهادهم من قبل شعوب وحكومات هذه البلدان والمجتمعات.
ومن نافل القول أن التخلص من نظام الجيتو واندماج اليهود في المجتمعات الاوروبية التي يعيشون فيها،ارتبطا بالحاجة الى مستوى راق من التنظيم،ونمط جديد من التفكير.ولئن نجحت الروابط الصهيونية الحركية في انتاج الادوات التنظيمية التي تتطلبها عملية الانتقال من الجيتو الى الاندماج ، فإن نمط التفكير اللازم لتحقيق اقصى درجات الاندماج والتأثير لصالح المشروع الصهيوني، اقتضى ضرورة التفاعل مع افكار وثقافات المجتمعات والنظم السياسية التي يعيشون في ظلها .
ومن المفارقات العجيبة ،ان الجاليات اليهودية في اوروبا وامريكا خرجت من عزلتها، وحطمت نظام الجيتو الذي فرضته على نفسها، وتعرضت بسببه لموجات متلاحقة من الاضطهاد ومشاعرالكراهية ، بينما قامت الجاليات العربية والاسلامية بفرض عزلة شديدة على نفسها، واستعارة نظام (الجيتو) عن اليهود تحت دعاوى مختلفة ، ما ادى الى تهميشها واضعاف تأثيرها .
الاخطر من ذلك، ان الجاليات العربية والاسلامية لم تكتف بالعيش وفق نظام (الجيتو) الذي فرضته على نفسها ، بل انها تعاملت مع المجتمعات والنظم السياسية التي تعيش في ظلها بافكار بعيدة كل البعد ، ليس عن تلك المجتمعات والنظم السياسية ، بل عن العصر والحضارة الحديثة!!
واذا كانت الجاليات اليهودية تميزت بوحدتها وقوة تنظيمها اللذين وفرا لها امكانية الانتقال من نظام ( الجيتو ) الى الاندماج الكامل ، فان الجاليات العربية والاسلامية تميزت بضعفها وتشرذمها .. وما كان لذلك ان يحدث لولا انتشار الكثير من الافكار المتطرفة والمتخلفة التي أدت إلى إضعافها وتمزيق وحدتها ، على الرغم من انها تعيش في بلدان متطورة ، وفي قلب الثورات الصناعية والتكنولوجية والعلمية المعاصرة!
المثير للدهشة انه عندما كانت الجاليات اليهودية تنخرط بهمة ونشاط في الحياة السياسية والاقتصادية والاعلامية التي افرزتها الحضارة الحديثة ، وبالتزامن مع نشوء الكيان الصهيوني العنصري في فلسطين المحتلة واندلاع الصراع العربي- الاسرائيلي، كانت الجاليات العربية والاسلامية بالمقابل أسيرة أفكار ماضوية متشددة، أسهمت في احياء انقسامات طائفية وصراعات مذهبية وفتن تاريخية قديمة ، وعطلت قدراتها على النمو والإبداع ، ومزقتها إلى فرق وطوائف تزعم كل واحدة منها ،بأنها وحدها الناجية من النار، وترمي غيرها بالكفر والضلال .
ومازالت اتذكر اثناء زيارتي للولايات المتحدة الامريكية في عام 1992م لقاء ضمني مع البروفيسور هارولد سيتوارت الاستاذ بجامعة ميتشيغن ، والذي يرأس جمعية لتحسين التفاهم بين الاعلاميين العرب والامريكيين، بحضور الدكتور عبدالجليل احمد رئيس المركز الثقافي اليمني الامريكي، حيث ابدى البروفيسور ستيوارت قلقه من انتشار الافكار المعادية للديمقراطية والحضارة الغربية وسط الجالية العربية والاسلامية الامريكية ،مشيراً إلى ان (الإيباك) وهو اتحاد للجماعات اليهودية الامريكية ،لابد وانه يشعر بسعادة عميقة تجاه انشغال العرب والمسلمين الامريكيين بالافكار والفتاوى التي تضع الديمقراطية والانتخابات على النقيض من الاسلام، وتنصح العرب والمسلمين في الولايات المتحدة الامريكية بعدم التعامل مع البنوك والمؤسسات المصرفية، وعدم استثمار اموالهم في اسواق اسهم الشركات وأذونات الخزانة الامريكية ، باعتبارها مؤسسات ربوية ، وعدم المساهمة في شراء أسهم الموسسات الاعلامية والسينمائية الأمريكية بدعوى انها تنشر ثقافة غير اسلامية !!
في هذا السياق اشار البروفيسور سيتوارت الى أن انتشار هذه الافكار ادى الى عزوف الكثير من ابناء الجالية العربية والاسلامية عن المشاركة في الانتخابات والانخراط في الحياة السياسية والاقتصادية، وافساح المجال للجالية اليهودية قليلة العدد وحسنة التنظيم والتوجيه كي تتقدم لاحتلال مواقع مؤثرة وفعالة في المجتمع الامريكي ،ما أدى الى تعاظم نفوذها ، مقابل قيام الجالية العربية والاسلامية بتهميش وعزل نفسها بنفسها !!تذكرت هذا اللقاء وانا استحضر من الذاكرة صوراً مؤلمة عن أوضاع الجالية العربية والاسلامية اثناء زيارتي للولايات المتحدة الامريكية في انتخابات الرئاسة عام 1992م، حيث لاحظت اهتمام الكثير من المنظمات الاسلامية بإعادة طباعة ونشر وتوزيع بعض الكتب التي تنضوي على أفكار متطرفة ومناهضة للديمقراطية والقبول بالآخر المغاير !!
الغريب في الأمر أن تلك المنظمات كانت تعتبر إعادة طباعة نشر تلك الكتب، بانه أحد مظاهرالصحوة الاسلامية، ومنها على سبيل المثال ( جاهلية القرن العشرين) لمحمد قطب و(معالم على الطريق) لسيد قطب، وكتاب ( الفريضة الغائبة ) لمحمد عبدالسلام فرج، وكتاب(في سبيل الخلافة ) لشكري مصطفى،وكتاب (الحصادالمر) للدكتور أيمن الظواهري وشرائط فيديو تتضمن فتاوى عن (الجهاد ) للشيخ عمر عبدالرحمن والشيخ عبدالله عزام وبعض شيوخ الخليج ! جميع هذه الكتب والفتاوى تحرم المشاركة في الانتخابات وترمي الديمقراطية بالكفر، وتصف الحضارة الحديثة وكل المجتمعات العصرية بالجاهلية وتدعو الى محاربتها !!
أما أغرب ما قرأته من مطبوعات تتداولها الجالية العربية والاسلامية في الولايات المتحدة الامريكية فهو كتاب لشكري مصطفى يحرّض ضد التعليم العصري جاء فيه : (( ان جماعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانت لا تتعلم لمجرد العلم ، ولا تتعلمه للدنيا ولكن للعبادة وكل علم يتعلمه الانسان لنفسه او ما يسميه العلمانيون لخدمة المجتمع والتنمية الاقتصادية، فقد تعلمه لغير الله، وهذا شرك صريح .. وان الرسول يتعوذ من علم لا ينفع)).
ويمضي شكري مصطفى قائلاً : ((النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يقرأ ولا يحسب ... بل إن أمته وهي خير أمة أخرجت للناس كانت كلها آمية ، ولايمنع ذلك ان تكون جماعة و المسلمون في آخر الزمان أمة أمية ايضا))!!؟ المثير للدهشة ان الكثير من الميسورين في الولايات المتحدة الامريكية انشأوا عشرات الشبكات التلفزيونية المحلية التي تخاطب مشاهديها باللغة العربية نفسها، وتبث برامج مشبعة بأفكار التعصب المذهبي والجمود العقائدي والتطرف الفكري والسياسي، فيما لا توجد شبكة واحدة تخاطب المجتمع الامريكي بلغته!!
واذا كان ثمة حضور عربي واسلامي في بعض البرامج التي تبثها شبكات التلفزة الامريكية والاوروبية، فأنها تكون على شاكلة حوارات تقدم صورة مشوهة للعرب والاسلام، فقد ظهر الشيخ عمر عبدالرحمن عدة مرات في محطة (فوكس) ومحطة ( NBC ) وهو يهاجم الديمقراطية والحضارة الغربية ، ويدعو المسلمين في الولايات المتحدة الامريكية واوروبا الى عدم الاندماج في هذه المجتمعات ، والامتناع عن المشاركة في الحياة الساسية والاقتصادية والاعلامية العلمانية ، ويصف الدعوة الى الاندماج بأنها ((مخطط صليبي يهودي يستهدف اقناع المسلمين بالتخلي عن الاصول والقواعد الشرعية التي تنظم العلاقة مع الكفار والمجتمعات الكافرة ، والتنكر للحاكمية واستبدالها بحكم طواغيت الجيوش والمال والاعلام )) !!؟
على غرار مافعله الشيخ عمر عبدالرحمن فعل ياسر السري وعمر بكري وأبو الحمزة المصري وابو قتادة وغيرهم من شيوخ التطرف الذين ظهروا في أكثر من مرة عبر شبكات التلفزة في فرنسا وبريطانيا، ونددوا بالديمقراطية والانتخابات بدعوى تناقضها مع الاسلام والشريعة الاسلامية.. أما رشيد قبلان زعيم جماعة (دولة الخلافة) فقد ظهر في بعض شبكات التلفزة الالمانية قبل اعتقاله ومحاكمته وهو يهدد الشعب الالماني، بأن جماعته سوف تستخدم الديمقراطية فقط من اجل انتزاع السلطة من الطواغيت، وإقامة دولة الخلافة الاسلامية وبعد ذلك فانها ستحرق البرلمان والدستور العلماني الكافر، وستسلم الحكم لله وحده!!؟