أحمد الحبيشي -
سؤال الهوية والخصوصية
لا تخلو فعالياتنا الثقافية والإعلامية من المناقشات والتناولات التي تشير إلى مخاطر محتملة تهدد الهوية والخصوصية الثقافية من جرّاء تزايد الميول الموضوعية لتطور الحضارة الرأسمالية المعاصرة باتجاه العولمة. ولعل أهم ما يميّز تلك المناقشات والتناولات ظهور وجهات نظر مشبّعة بعُصاب أيديولوجي يرى بأن ثمة "غزواً فكرياً وثقافياً" يهدد بالالتفاف على مجتمعاتنا، وطمس خصوصياتها الثقافية، ومصادرة هويتها القومية والدينية، نتيجة انكشاف هذه المجتمعات أمام الفضاء اللامتناهي لثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات. على هذا الطريق سار أيضاً عدد غير قليل من كتاب المقالات والأعمدة في الصحف العربية.. ولطالما قرأنا تصورات مماثلة حول مخاطر مفترضة تهدد "الهوية والخصوصية"، حيث يذهب بعض الكتاب والصحفيين إلى الإفراط في التحذير من ميكانيزمات "الغزو الفكري والثقافي" التي أطلقتها العولمة الرأسمالية وتكنولوجيا الاتصال والمعلومات، الأمر الذي يستوجب "درء أخطارها العدوانية على هويتنا الثقافية" بحسب ما جاء في مقال أحدهم! .
لا يقترح هؤلاء المذعورون من تحولات العولمة وتحدياتها حلولاً محددة للتعامل مع هذا "الغزو" القادم عبر الفضاء، وحراسة الهوية و"الخصوصية"، ناهيك عن أنهم لا يرون في تحولات العولمة ومخرجات ثورة الاتصال والمعلومات سوى "الغزو" وليس التحدي، فيما يستغرقون كثيراً في حديث "المقاومة والدفاع والمواجهة" بدلاً من طرح سؤال "الاستجابة" ومحاولة الإجابة عليه !!
تشكل التحديات – على الدوام – اختبارا حقيقياً لموازين القوى، وتساعد في الوقت نفسه على استكشاف نقاط الضعف والخلل في بنية العلاقات المتبادلة بين الشعوب والأمم والحضارات والثقافات المختلفة.. وعليه فإن التفكير من منظور "مواجهة الغزو، والدفاع عن الخصوصية الثقافية" ربما يعكس شعوراً زائفاً بالقوة أو التعالي، فيما يقود التفكير من منظور الاستجابة للتحديات الحضارية بدلاً من مقاومتها، إلى نقد البنية الداخلية للثقافة السائدة، وفرز عناصرها المتكلّسة وغير القادرة على التجدّد، والعمل بعد ذلك على تطوير العناصر الفاعلة في بنية الثقافة بمنطق الإضافة والتجديد الإبداعيين، وصولاً إلى الاستجابة الحضارية للتحديات التي تفرضها فتوحات المعرفة ومنجزات العلم والتكنولوجيا، ومتغيرات الزمان والمكان، وتحوّلات الحضارة في أحد منعطفات التاريخ.
لا ريب في أن التحديات تشكل – بطبيعتها – فعل استثارة، وإشارة تنبيه إلى ضرورة اليقظة في لحظة ما، قد تكون حاسمة. ومن جانبها لا تكتمل اليقظة بدون معرفة طبيعة التحدي وقوتة ومصادره ووجهة سيره، وصولا إلى استنفار القدرات الكامنة في المجتمع الذي يواجه هذا التحدي، وفحصها والتأكد من صلاحيتها وقياس درجة قوتها ومدى استعدادها للتعامل مع أية تحديات محتملة.
إن الهدف المحوري لمجمل هذه العمليات التي تقع في منطقة وسط، بين الفعل وردود الفعل، هو اختيار درجة وقدرة مفاعيل هذه العمليات على الاستجابة للتحديات الحضارية، وإعادة تأهيلها إن كانت غير متوازنة مع قوة واندفاع التحديات الماثلة أمامها.. بمعني إعادة اكتشاف الذات ونقدها وغربلتها وتجديدها.
بطريقة لا تخلو من الخِفّة والتبسيط، يقترح بعض الذين كتبوا حول مخاطر العولمة على الهوية والثقافة بعض الحلول لمعالجة إشكاليات التعاطي مع هذه المخاطر المفترضة، بيد أن تلك الحلول تكرّس – في نهاية المطاف – مخرجات ثقافة الاستبداد الشمولية التي نشأت على تربة فقه التشدد ووجدت في بيئة الحرب الباردة، مفاعيل إضافية.
كان التفكير بواسطة تلك الثقافة يسوَّغ للسياسة والآيديولوجيا إقامة ستار حديدي حول المجتمعات، وفرض سيطرة صارمة ومطلقة على وسائل الإعلام والثقافة ومناهج التربية والتعليم، بهدف تشكيل وتعليب الوعي الاجتماعي للناس في تلك المجتمعات، انطلاقا من منظور ثقافوي يصادر حرية الاختيار، ويحرّم التعددية ويمارس الوصاية على العقل والحقيقة باسم خصوصية تاريخية أو دينية أو آيديولوجية أو قومية!!
ولئن كانت العولمة تفسح مجالاً أوسع لانفتاح متبادل بين الشعوب والمجتمعات والأفراد والجماعات في مختلف الحقول الاقتصادية والثقافية والإعلامية والإنسانية، فهي تخلق أيضاً إشكالياتها التي تولد من رحم مفاعيلها الجديدة.. فهل يؤدي هذا الانفتاح إلى انكشاف وتعرية الحقول الأضعف، مقابل سيطرة أحادية – نسبية أو مطلقة – للحقول الأقوى.. أم يؤدي إلى تعميق التعددية الثقافية والحضارية، وتوطيد أسسها في المجتمع البشري والبيئة العالمية ؟
بوسعنا القول إن ما يترتب على العلاقات بين الثقافات من إشكاليات ليس أمراً جديداً، لأن علم الأنتروبولوجيا توصّل منذ فترة – ليست قصيرة – إلى صياغة مفاهيم معرفية تساعد على فهم آليات الاحتكاك بين الثقافات، واكتشاف أنساق التفاعل فيما بينها، ومن هذه المفاهيم ما يُسمى بالتثاقف.
لا يمكن تجاهل حقيقة أن الإنجاز الأبرز لثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات هو حدوث اندماج عضوي بين الفضاء الطبيعي والفضاء الإلكتروني، أسفر عن ضغط الزمان والمكان وتقريب المسافات بينهما، وإزالة الحواجز الطبيعية والسياسية بين جغرافيا الأسواق وديموغرافيا المجتمعات وسوسيولوجيا الثقافات.
في هذا السياق يتوقف الحضور الإبداعي للثقافات في العالم الجديد على وجود استراتيجيات فاعلة للنهوض بالثقافات وتنشيط مفاعيلها في المجتمعات الضعيفة، على نحو يتنقل بها من النطاق الضيق لثقافات الهوية، إلى الفضاء الواسع لثقافات المشاركة.
لعل ذلك يستوجب تطور الوعي بطبيعة المشكلات القائمة، والخروج من نفق وعي المشكلات القديمة التي أفرزها عصر الاستعمار والسيطرة الكولونيالية، بما هي مشكلات تتعلق بالغزو الفكري والاستلاب الثقافي، وما يرتبط بهما من دفاع عن الهوية، وتمسُّك بالخصوصية الثقافية في إطار النزوع إلى السيادة والاستقلال.
تختلف إشكاليات الهوية الثقافية في عصر العولمة عنها في عصر الكفاح ضد الاستعمار والنزوع إلى الاستقلال وبناء الدولة الوطنية أو الدولة الأمة.. فيما ترتبط إشكاليات الهوية التي تفرزها تحديات العولمة وثورة الاتصال والمعلومات بفضاء طبيعي والكتروني تتفاعل فيه – على نحو غير مسبوق – فواعل اقتصادية وثقافية وسياسية وإعلامية وإنسانية، في عالم مترابط ومتكامل، بصرف النظر عن تناقضاته واختلالاته التي يستحيل معالجتها بالانعزال عن هذا الفضاء، بل بالاندماج فيه والمشاركة في تعديل شروط توازناته، وإعادة صياغة مفاعيله الداخلية وبنيته التراتببية.
في هذا الفضاء لم يعد بمقدور أي جماعة بشرية أن تعيش بشكل مستقل وبوعي مستقل وبممارسة تاريخية مستقلة، خارج سيرورة الحضارة الإنسانية المعاصرة، وبمعزل عن امتلاك شروطها المعرفية وفواعلها المادية.
بالقدر ذاته يتطلب الالتحاق بالعصر والاندماج في حضارته الحديثة فواعل وموارد بشرية وثقافية ومعرفية نشطة ومتجددة. وبدون ذلك لا يمكن فهم ومعالجة الإشكاليات الحقيقية للهوية والخصوصية المفترضتين، وفي مقدمتها إشكاليات التقليل من خطر التماهي مع السلفية التي تنزع إلى الإقامة الدائمة خارج العصر، وتتمسك بثقافات ضعيفة وعاجزة عن الاستمرار والتجدد.
يقيناً أن الثقافات والخصوصيات ليست حتميات مثالية وثوابت مطلقة، بمعنى أنها ليست عناصر ثابتة عبر التاريخ. لأن الإنسان هو الذي يصنع تاريخه وهويته عبر سيرورة حضارية متجددة وغير ثابتة.. ولو لم يكن الأمر كذلك لما كانت هنالك ثقافات وحضارات وهويّات سادت ثم بادت عبر التاريخ، رغم أن أطلالها وآثارها الباقية تشهدان على أنها كانت قوية ومتألقة في زمانها ومكانها، غير أن تحوّلها إلى آثار ماضوية تاريخية، يعد دليلاً أكيداً على عجزها عن التجدد والاستمرارية، وفشلها في الاستجابة لتحديات حضارية واجهتها في منعطفات حاسمة من تاريخ تطور المجتمع البشري.
يعلمنا تاريخ الحضارات – بما فيها الحضارة العربية الإسلامية – أنه لا توجد ثقافة مستقلة كلياً عن الثقافات الإنسانية الأخرى، لأن الثقافات محكومة بآليات وأنساق التفاعل والتثاقف والتلاقح حتى وأن كان ذلك يتحقق بنسب متفاوته.
وما من شك في أن التفاوت الذي نقصده، محكومٌ هو الأخر بقدرة كل ثقافة على التجدد والاستجابة لتحديات التحول في أزمنة الانعطافات التاريخية الكبرى، أي بقدرتها على إبداع حلول معاصرة للمشاكل الجديدة التي تبرز وتستجد في مجرى تطور مجتمعاتها، بدلاً من النزوع إلى الإقامة الدائمة في الماضي، والمحافظة على البنى المتكلّسة للثقافة الموروثة، والإفراط في الوهم بإمكانية إعادة إنتاج حلول ماضوية لإشكاليات ثقافية معاصرة، أوالاستنساخ الأعمى لحلول جاهزة أبدعتها ثقافات أخرى.
اللافت للنظر أن الذين يحذرون بصوت عالٍ من خطر العولمة على الهوية والخصوصية الثقافية، لا يحدّدون طبيعة المخاطر ولا يحلّلون محتواها بدقة، ولا يجتهدون في مقاربة ونقد الهوية والخصوصية والتعرّف على وجهة كل منهما باعتبارهما أهدافاً لهذه الأخطار المفترضة التي يتحدثون عنها بقلق شديد !!.
إن التحليل الدقيق للخطر المفترض، والتوصيف الدقيق للهدف الذي يسعى إليه هذا الخطر، ضائعان تماماً في عموم المناقشات والتناولات التي أشرنا إليها في مفتتح هذا المقال.. ولعل ذلك يعود إلى هروب نمط التفكير المألوف في حياتنا الثقافية التقليدية من النقد الموضوعي لثقافة العولمة، والذي سيفرض علينا بالضرورة نقداً موازياً لثقافة الهوية والخصوصية.. فبدون ممارسة النقد وتعظيم دوره الوظيفي لن نستطيع بلورة موقف سلبي أو إيجابي من "خطر ثقافي" مفترض تحمله إلينا رياح العولمة، ولن نستطيع أيضاً التمييز فيما إذا كان هذا الخطر يهدد احتياجات النهوض الحضاري للقوى الجديدة والنامية في المجتمع، أم يهدد مصالح البنى التقليدية للمجتمع ونزوعها إلى المحافظة على ثقافتها المتكلسة والمهيمنة ؟.
بدون هذا النقد لا نستطيع تعيين سبل وأشكال الدفاع عن خصوصية وهوية مفترضتين، ومعرفة ما تنطوي عليه البيئة الثقافية لهذه الهوية والخصوصية من قابلية للانكشاف أمام التحديات الحضارية، أو قدرة على الاستجابة لها.
أزعم بأن الخطر الحقيقي الذي يهدد التطور الحضاري لمجتمعاتنا العربية الإسلامية لا يكمن في العولمة وتحدياتها، بل في الاعتقاد الموروث بتماهي الخصوصية الثقافية التي يجري الحديث عنها مع العقيدة الدينية التي لا خلاف على دورها في تشكيل هوياتنا وثقافاتنا.
إن جانباً أساسياً من أزمة التطور الحضاري لمجتمعاتنا يكمن في واقع أن الثقافة السائدة التي تهددها تحديات العولمة، لا تمثل الإسلام الحقيقي كعقيدة دينية لهذه المجتمعات، رغم محاولات تلفيق نوع من التماهي الزائف بينها والدين الإسلامي في موروثنا الثقافي الذي تشكّل على أساسه الوعي الاجتماعي منذ فترة طويلة، وهو ما سنسعى إلى توضيحه لاحقاً.
ثمة مبالغة في مفهوم العولمة عند أغلب إن لم يكن كل الكتابات والتناولات التي أشرت إليها سابقاً، خصوصاً حين نلاحظ ما يشبه الإصرار على تكثيف هذا المفهوم وحصره في نطاق نتائج ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات فقط، وهو تعريف تقني، ومبتسر ينظر إلى العولمة بوصفها ظاهرة جديدة، ويحصر إشكالياتها في نطاق ضيّق لا يتجاوز البعد الثقافي فقط.
يُخطئ من يعتقد بأن العولمة الرأسمالية ظاهرة جديدة يسهل مناهضتها ومقاومتها بالاحتجاجات والمظاهرات والمقالات والدعاء بالمساجد، فثمة ميول قديمة للعولمة ارتبطت بتطور نمط الإنتاج الرأسمالي وميوله نحو العالمية التي عزّزتها وضاعفت مفاعليها إنجازات العلوم الحديثة، ونتائج الكشوفات الجغرافية ومخرجات الثورة الصناعية الأولى في منتصف الألفية الثانية من التاريخ الميلادي، لتتحول بعد ذلك إلى نظام عالمي للإنتاج والتسويق والاستهلاك نشأت على تربته حروب وخطوط السيطرة على الأسواق ومصادر الخامات وممّرات الملاحة الدولية في مختلف القارات!!
صحيح أن الاستعمار وحروب التوسع الاستعمارية أسهما في إيقاظ الوعي الوطني وظهور الحركات القومية التي تتوّجت بولادة الدولة الأمة، على أنقاض الدول الإمبراطورية الجامعة والهويات الدينية والعصبية والمانعة، وما ترتب على ذلك من إشكاليات ثقافية نجمت عن ظهور نزعات مصاحبة للدولة القومية مثل الشوفينية والتعصّب القومي، ووصلت ذروتها في النازية والصهيونية و"الأبارثيد".
بيد أن المظهر الأبرز للعولمة في الحقبة الجديدة والراهنة من عصرنا، بقدر ما اكتسب طابعاً ثورياً نتيجة لثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي اختصرت المسافات، وتجاوزت الحدود السياسية والقومية والثقافية، بقدر ما أسهم في تقويض الأسس المادية للشوفينية وضيق الأفق الوطني والتعصّب القومي، وصولاً إلى إفساح الطريق أمام توسيع فرص وإمكانات تلاقح الثقافات، وتحفيز الشعوب والأمم المختلفة لبناء نظام عالمي للقيم الإنسانية.
ولعل تلك الميول تنطوي على أبعاد إيجابية من شأنها تحفيز مختلف الثقافات على الإبداع في مجال القيم الإنسانية المشتركة، وما يترتب عن ذلك من تعظيم فرص مطالبة الشعوب والمجتمعات المختلفة بالديمقراطية والعدالة والمساواة، ومكافحة جميع أشكال التمييز بين البشر رجالاً ونساءً، وفي المقدمة منها التمييز ضد المرأة!
من نافل القول أن الاستجابة لتحديات العولمة في طورها الجديد لا تتحقق بواسطة طرح سؤال الخصوصية والهوية من منطلق دفاعي انعزالي، لأن النزوع إلى الدفاع أو المقاومة الدفاعية قد ينطوي على رفض مموّة للقيم الإنسانية المشتركة، وهروب متعمد من واجب دفع استحقاقات الالتحاق بالعصر والاندماج في الحضارة الحديثة، وصولاً إلى العجز المطلق عن إضفاء أبعاد ثقافية على هذه القيم المشتركة، والانسحاب من مباراة تطوير وتأهيل الثقافات لاستيعاب مطالب واحتياجات الشعوب والمجتمعات في هذه الحقبة من تاريخ تطوُّر الحضارة البشرية المعاصرة.
ليست الخصوصيات الثقافية عناصر ثابتة لا تخضع للتطور التاريخي الحضاري، ولسنا بحاجة إلى التذكير بان الثقافة السياسية المهيمنة على العالم العربي والإسلامي تصدّت للأفكار الدستورية والديموقراطية تحت شعار مقاومة " التغريب "، ومحاربة "الأفكار المستوردة". كما عارضت الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ورفضت – بعناد شديد – تلبية مطالب المجتمع الدولي الحديث بإصدار تشريعات وقوانين وضعية لتحريم الرق. وكانت تلك المواقف الرافضة للحداثة تتغطّى دائماً بذرائع "الهوية والخصوصية الدينية والثقافية"!!
لم يكن الفقهاء في عاصمة دولة الخلافة العثمانية يفكرون خارج الخصوصية الثقافية حين عارضوا في رسالتهم الشهيرة إلى السلطان العثماني في القرن السابع عشر الميلادي التوقيع على "معاهدة ويستفاليا" (1648) التي فرضتها حاجة الرأسمالية الصاعدة والثورة الصناعية في عصر النهضة لوقف حروب التوسع الإقطاعية، وتأسيس فكرة السيادة الحدودية الوطنية، وتمهيد الطريق لولادة الدولة القومية وبناء منظومة جديدة للعلاقات بين الأمم والدول.
كان فقهاء الدولة العثمانية في العالم الإسلامي يرون في التوقيع على هذه المعاهدة "تعطيلاً لآيات (السيف) وإنكاراً لفريضة الجهاد التي تُوجب نشر الدعوة الإسلامية والتمكين لدين الله في الأرض بواسطة الغزوات الجهادية" ، وكذلك الحال عندما أفتى الفقهاء في القرن التاسع عشر بعدم جواز الخضوع لمطالب الدول الأجنبية بتحريم الرق، لأن التحريم المطلوب تشريعٌ وضعيٌ لا أساس له في الشريعة الإسلامية التي تُبيح للرجال التسّري بالجواري ونكاح ملك اليمين !
ومما له دلالة أن علماء اسطنبول والقاهرة ومكة وطنجة وقُم وصنعاء اتّهموا آنذاك أوروبا وأمريكا التي كانت تضغط في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الميلادي، لإصدار تشريعات تحرّم الرق، بأنها تسعى إلى تغيير القرآن والتدخل في نمط ومناهج حياة المسلمين.
من خلال ما تقدم نستطيع تفسير أسباب تأخر العالم العربي والإسلامي عن الاستجابة الثقافية لتحديات الموجة الأولى والمبكرة للعولمة الرأسمالية والحضارة الصناعية الحديثة، اللتين استوجبتا صياغة أسس جديدة ومعاصرة للعلاقات بين الدول والأمم والأديان على نحو ماتضمنته معاهدة ويستفاليا في القرن السابع عشر، ومعاهدة تحريم الرق التي سعت الثورة الأميركية بالتعاون مع أوروبا الرأسمالية إلى تدويلها في أواخر القرن التاسع عشر.
ومما له دلالة أن تكون اليمن والسعودية – اللتان لم تخضعا لأي استعمار أجنبي– آخر دولتين حرّمتا الرق في العالم، حيث أصدر مجلس قيادة الثورة في الجمهورية العربية اليمنية في الخامس عشر من أكتوبر 1962م أي بعد ثورة 26 سبتمبر بثلاثة أسابيع مرسوماً جمهورياً قضى بتحريم الرق والتوقيع على المعاهدة الدولية لتحريم الرق، وهو الأمر الذي كان يوجد حقيقة في اليمن، ودفع المملكة العربية السعودية إلى الإسراع – في وقت متأخر جداً – بإلغاء الرق رسمياً في الثامن والعشرين من نوفمبر 1962 ".
في هذا السياق يمكن القول بأن أغنية "جيشنا يا جيشنا" التي بثتها إذاعة صنعاء لأول مرة مصحوبة بالآلات الموسيقية الشرقية، فور قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، دشّنت أول ممارسة ثقافية مغايرة لثقافة التحريم الذي فرضتها المؤسسة الدينية الثيوقراطية للنظام الإمامي البائد، وحرّمت بموجبها الأغاني والآلات الموسيقية بذريعة حراسة الدين ومكافحة المحرّمات والمفاسد، والدفاع عن الهوية وحماية الخصوصية، علماً بأن ما تبقى من رواسب تلك الثقافة البالية ما يزال "يجاهد" من أجل البقاء، بذريعة التمسك بالهوية والخصوصية أيضاً !!.
لا نحتاج إلى القول بأن تحريم الرّق في العالم الإسلامي تم بمقتضى ضغوط الحضارة الصناعية الحديثة، والموجة الأولى من "العالمية" التي رافقت ظهور وتطور نمط الإنتاج الرأسمالي كنظام اقتصادي عالمي في العصر الحديث، وقد نتج عن تحريم الرّق تراجعٌ مطلقٌ لخصوصيات ماضوية في النظام القيمي والحقوقي لثقافتنا، وأهمها حقوق الرجال في التسرّي بالجواري، وحقوق الأحرار في التمييز بينهم وبين العبيد في المعاملات والعقوبات الجنائية، بحسب ما ينص عليه تأويل الفقهاء الأسلاف للشريعة الإسلامية.
لم يكن بروز مثل تلك الإشكاليات شيئاً جديداً في التاريخ الثقافي للمجتمعات الإسلامية، فقد ظل العالم الإسلامي يرفض استخدام المطبعة تحت ضغط الفتاوى الفقهية التي شكلت عنصراً طاغياً في النسيج التقليدي لثقافتنا.
كان رأي الفقهاء في المطبعة – على سبيل المثال – أنها مفسدة من شأن السماح باستخدامها فتح الباب على مصراعيه لانتشار الكبائر والموبقات مثل طباعة الرسوم وتغيير حروف القرآن، والقضاء على الكتابة بالخط العربي الذي كان حرفةً مجزيةً يرتزق منها الفقهاءُ والقضاة وكبار موظفي الدواوين في بلاط دولة الخلافة، ويحصلون من ورائها على الحظوة والمال وعلوّ الشأن.
بسبب هذه الثقافة لم يفطن المسلمون لقيمة المطبعة في التطور الحضاري، ولم يستوعبوا جيداً دورها الوظيفي في إطلاق مفاعيل التعليم والثقافة والعلوم والمعرفة، وتحويلها إلى فواعل اقتصادية واجتماعية وحضارية. ولذلك كان نظام التعليم في العالم الإسلامي حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين محصوراً في الجوامع والكتاتيب التي اكتفت بتحفيظ القرآن و شرح الأحاديث النبوية وأقوال الفقهاء، بالإضافة إلى تلقين قواعد اللغة العربية والنصوص الشعرية، كما كانت الدراسة في الجوامع والكتاتيب ترتدي طابعاً نخبوياً ضيقاً، وتنحصر في نطاق أبناء الطبقة السياسية الحاكمة والنخب المحيطة ببلاط السلطان مثل القضاة والفقهاء وقادة الجيش والجواسيس والتجار.
المعروف أن الطباعة العربية بالحروف ظهرت في أوائل القرن السادس عشر في إيطاليا، بأمر البابا يوليوس الثاني ودشنها البابا ليون العاشر سنة 1516م، وهو العام الذي طبع فيه أول كتاب ديني عن المسيحية، تلاه طبع سفر الزبور سنة 1516، وبعد قليل طبع القرآن الكريم في البندقية، ثم أعدمت طبعته خوفا ًمن تأثيره على معتقدات النصارى.، بيد أن الإيطاليين طبعوا في روما ترجمة للقرآن الكريم باللغة الإيطالية سنة 1547م كما طبعوا قانون ابن سيناء في مجلد ضخم عام 1593 م وهو الكتاب الذي أفتى الفقهاء المسلمون بإحراقه وتعرض لهجوم شديد على يد أبو حامد الغزالي وابن تيمية. وقد كثرت المطابع العربية في أوروبا وطبعت فيها مئات من كتب الفلاسفة العرب والمسلمين الذين أضطهدهم الفقهاء وتعرضت كتبهم للإحراق بعد تكفيرهم، وكان أكثر هذه المطابع في لندن وباريس وليبسك وليدن وغونتجتن وروما وفينا وبرلين وبطربسبرج وغيرها.
اللافت للنظر أن العالم الإسلامي عرف الطباعة لأول مرة في أوائل القرن السادس عشر في الآستانة عاصمة دولة الخلافة العثمانية لكن الفقهاء قاوموا وجودها بقوة، الأمر الذي دفع يهود الدولة الإسلامية إلى الاستفادة منها بطبع ترجمة عربية للتوراة، أما الطباعة باللغة العربية فقد دخلت العالم الإسلامي لأول مرة في منتصف القرن الثامن عشر على يد محمد جلبي وابنه سعيد.. وكان الجلبي سفيرا ً للدولة العثمانية في باريس فشهد وابنه سعيد فوائد الطباعة، ونجح بصعوبة بالغة في إقناع الفقهاء الذين أصدروا عام 1728 م فتوى بطباعة الكتب غير الدينية فقط.
وعندما لاحظ الفقهاء انتشار كتب الحكمة والفلسفة واللغة والأدب والتاريخ والطب والفلك والجغرافبا والفيزباء والكيمياء ورخص أسعارها، شعروا بالانزعاج، فأصدروا فتوى أخرى تجيز طبع الكتب الدينية وآذنوا بطبع وتجليد القرآن الكريم، الأمر الذي أفسح المجال لانتشار المطابع وظهور الصحف والمجلات والمدارس الحديثة التي تعتمد على الكتب المدرسية المطبوعة.
من المفارقات المؤلمة، أن المسلمين كانوا يصنعون ورق الطباعة ويصدّرونه إلى مختلف البلدان، وفي مقدمتها الصين التي اشتهرت بصناعة وتصدير المطابع اليدوية القديمة إلى الأمصار المختلفة في العصور الوسطى، باستثناء العالم الإسلامي الذي رضخ للفتاوى الخاصة بتحريم الطباعة باسم الدين، ثم أُجبر بالقوة على التعامل مع المطبعة، بعد إن عرفها لأول مرة في القرن الثامن عشر الميلادي على يد نابليون بونابرت الذي أحضرها مع الحملة الفرنسية على مصر، وطبع بها كتاب "وصف مصر" الشهير، وهو أول كتاب يطبع باللغتين العربية والفرنسية في العالم الإسلامي.
وعندما فكر الباب العالي في عاصمة دولة الخلافة – اسطنبول – في استخدام المطبعة، بعد أن بدأ الاهتمام بفوائدها على أثر دخولها مصر، وطبع كتاب "وصف مصر" باللغة العربية، ثارت ثائرة الفقهاء الذين اعتبروها بدعةً وغزواً ثقافياً شيطانياً، وأصدروا فتوى مماثلة لفتوى عدم جواز التوقيع على "معاهدة ويستفاليا" في القرن السابع عشر والفتوى المعارضة لمعاهدة تحريم الرق التي صدرت في وقت لاحق.!