تركيا وأوروبا.. والعجز العربي خطت تركيا خطوة اولي ولكن حاسمة علي طريق الانضمام الي الاتحاد الاوروبي. جاء ذلك مع تحديد القمة الاوروبية التي انعقدت قبل ايام في بروكسيل الثالث من اكتوبر 2005 موعدا لبدء المفاوضات الهادفة الي ضم تركيا الي الاتحاد الأوربى. سيحتاج انضمام تركيا الي الاتحاد الاوروبي كي تصبح عضوا كاملا فيه وقتا طويلا، لكن قبول بدء المفاوضات معها وتحديد موعد لذلك يشيران الي ان لا اعتراض علي انضمامها من حيث المبدأ وان اوروبا ليست في وارد البقاء ناديا مقتصرا علي الدول التي فيها اكثرية مسيحية واضحة. علي العكس من ذلك انها مستعدة للانفتاح علي العالم وعلي الدول القريبة منها خصوصا التأكيد ان في الامكان قيام تعددية في اطار الوحدة . وهذا التعبير استخدمه رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان في رسالة مفتوحة الي اصدقائه الاوروبيين داعيا الي قبول بلاده في الاتحاد الاوروبي. لعل الرسالة التي يوجهها الموقف الاوروبي من تركيا انه من الخطأ الاعتقاد ان هناك عداء اوروبيا للاسلام، علي العكس من ذلك، هناك تفهم اوروبي للاسلام كدين عصري وحضاري ومتسامح ليس علي صدام مع الاديان والحضارات الاخري كما ان الاديان والحضارات الاخري ليست في صدام معه. هناك مشكلة مع المتطرفين والمتعصبين والمتشنجين الي اي دين انتموا. والدليل علي ذلك ان مفاوضات دخول تركيا الاتحاد الاوروبي سيبدأها الاتحاد مع حكومة تركية يسيطر عليها اسلاميون معتدلون بزعامة اردوغان، ومن وجهة نظر الاتحاد، لم تحل اسلامية الحكومة دون ان تكون علي تواصل معه وان تكون اكثر قدرة من الحكومات التي كانت تشكلها الاحزاب العلمانية علي التعاطي مع العالم الخارجي. أما الرسالة التركية الي اوروبا، فيمكن اختصارها بأن ما تستطيع حكومة اسلامية مستنيرة القيام به تعجز عنه حكومات اخري بما في ذلك الاعتراف الضمني بقبرص اليونانية التي تتمتع بالعضوية الكاملة للاتحاد الاوروبي، اكثر من ذلك ان الحكومة الاسلامية في تركيا حكومة تحافظ علي الحريات وقادرة علي السير في الاصلاحات السياسية والاقتصادية الي النهاية، والأكيد ان العامل الذي سيحسم موضوع دخول تركيا الاتحاد الاوروبي كي تصبح دولة ذات عضوية كاملة فيه هو الاصلاحات السياسية والاقتصادية. هذه الاصلاحات هي التي ستجعل من تركيا دولة عصرية مؤهلة للانتماء الي النادي الاوروبي، وما لا بد من ملاحظته هو أن الذي قاد الي اتخاذ الاوروبيين موقفا ايجابيا من تركيا كون المجتمع المدني التركي بدأ يتطور في السنوات الاخيرة وصار هناك وجود فعلي للمنظمات غير الحكومية. وصار لهذه المنظمات تأثير علي الحكومة ومجلس النواب والمؤسسات الاخري. تكفي الاشارة الي الدور الذي لعبته الحركات النسائية التركية في مرحلة الاعداد للقانون الجنائي الجديد الذي اقر حديثا، ان هذا القانون عدل تحت ضغط هذه الحركات بما يحفظ حقوق المرأة ويؤكد دورها الكامل في المجتمع مثلها مثل اي امرأة اوروبية. ما مكن تركيا من الاقتراب اكثر من اوروبا هو سيرها في خط الاصلاحات السياسية والاقتصادية. واعتمادها هذا الخط، خط الاصلاحات سيجعلها تدخل السنة ،2005 في اجواء متفائلة. لن تبدأ تركيا التفاوض مع الاتحاد الاوروبي في اكتوبر المقبل فحسب، بل ستحصل علي قروض من صندوق النقد الدولي بما قيمته عشرة مليارات دولار ايضا، وستسمح لها هذه القروض من الانتهاء من عملية اعادة هيكلة اقتصادها من جهة وتغيير عملتها من جهة اخري. ستكون هناك عملة جديدة سهلة الاستخدام تحل مكان الليرة المعتمدة حاليا والتي لا تساوي شيئا مقابل الدولار. فعدد الاصفار في العملة المستخدمة حاليا يجعلها تصلح لكل شيء ما عدا لان تكون عملة عملية. تصالحت تركيا مع نفسها اولا، استطاعت الانتقال من امبراطورية وصل جيشها الي ابواب فيينا مرتين في العام 1529 و 1683 الي دولة عاديةبعد انهيار الامبراطورية العثمانية اثر الحرب العالمية الاولي. الي جمهورية علمانية.. ثم الي دولة تسعي الي امتلاك مؤسسات عصرية. قطعت تركيا شوطا بعيدا علي طريق التحول الي دولة عصرية بكل معني الكلمة والي ان تكون يوما جزءا من اوروبا علي الرغم من ان معظم اراضيها في آسيا. والنجاح التركي الذي استطاعت ان تكرسه حكومة اردوغان التي لم تخش الحملات الداخلية اثر اعترافها ضمنا بقبرص اليونانية الرافضة ضم قبرص التركية اليها، يعود اولا واخيرا الي السياسة البراغماتية التي اتبعت في السنوات الاخيرة والتي ساهمت في تحويل البلد الي جسر بين الحضارة الاوروبية والحضارة الاسلامية. انه الدور الذي لم يستطع العرب لعبه نظرا الي ان معظم دولهم ظلت عاجزة عن فهم المتغيرات التي يشهدها العالم بما في ذلك معني انتهاء الحرب الباردة او معني دخول امريكا في حرب علي الارهاب بعد 11 سبتمبر ،2001 او اخيرا معني الاحتلال الامريكي للعراق والنتائج التي ستترتب علي ذلك اقليميا. واذا كان من الصعب توجيه اي لوم الي جامعة الدول العربية التي عجزت لأسباب كثيرة عن ان تكون في مستوي الاحداث، فأين مشكلة تجمعات اقليمية مثل مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي لم يستطع حتي الدخول في حوار مع دولة مثل اليمن يفترض ان تشكل خزانا بشريا له بدل اللجوء الي يد عاملة من دول بعيدة لا يمكن ان تفيد أيا من دول المجلس في المدي البعيد. قطر وحدها استطاعت اتخاذ موقف طليعي ودعت منذ العام 1996 الي الانفتاح علي اليمن والذهاب بعيدا في الاندماج معه، في حين أن اكثرية الدول الاخري في المجلس بدت وكأنها تخشي اليمن وتخشي نظامه الديمقراطي وتخشي الحياة البرلمانية فيه وتخشي الانتخابات. انها دول تخشي تظاهرة! ما الذي يحصل في العالم العربي،أليس مستغربا ألا يثير موضوع في اهمية البحث في انضمام تركيا الي الاتحاد الاوروبي تساؤلات علي ارفع المستويات في شأن الاسباب التي دعت اوروبا الي التأكيد بواسطة اكثر من مسؤول فيها ان حوارها مع تركيا دليل علي ان نظرية صدام الحضارات غير صحيحة؟ لماذا عجز العرب في معظمهم عن فهم معني التحولات التي يشهدها العالم؟ لماذا تذرعوا بقضية فلسطين في الماضي وباحداث العراق حاليا لتفادي القيام بالاصلاحات المطلوبة؟ ان تركيا علي حدود العراق ومن اكثر الدول تأثرا بما يجري في العراق، لكنها لم تتردد في فهم ان لابديل من اصلاحات سياسية واقتصادية ولا بديل من اصلاحات تؤدي الي تطور المجتمع المدني، وفهمت خصوصا ان الطريق الي اوروبا والي دور اقليمي جديد يمر عبر الاصلاحات. ان الشجاعة التي امتلكتها تركيا والتي تمثلت في عدم جعل قضية قبرص ذات الحساسية البالغة تحول دون دخولها في حوار جدي مع الاتحاد الاوروبي سيجعلها دولة ذات مستقبل. دولة قادرة علي معالجة مشاكلها بطريقة عصرية وبدعم اوروبي. عرفت تركيا ان عليها البحث عن دور جديد في ضوء انتهاء الحرب الباردة وانتفاء الحاجة التي جعلت منها رأس الرمح الغربي في تلك الحرب. عرفت كيف تتكيف مع هذا العالم والأكيد انها كانت بين أول المستفيدين من حالة العجز التي تسود العالم العربي. * كاتب لبناني < الراية > |