الجابري : كيف نحدد مفهوم المجتمع المدني؟ *من المفاهيم (الرائجة) في خطابنا العربي الراهن مفهوم (المجتمع المدني). وقبل التفكير فيما يعنيه هذا المفهوم في أصل معناه من جهة وفي الخطاب العربي اليوم من جهة أخرى، يجدر بنا أن ننبه إلى أن تاريخ خطابنا العربي في القرنين الماضيين يشير بوضوح إلى أن رواج مفهوم من المفاهيم في شعاراتنا وأدبياتنا لا يعني بالضرورة أن ذلك المفهوم يجد ما يسنده أو يؤسسه في واقعنا ومعطيات حياتنا اليومية. نحن نذكر جميعا كيف أن الفكر العربي قد انشغل خلال حقبة الستينيات والسبعينيات، التي شهدت "عصر الأيديولوجيا" في العالم العربي، انشغالا زائدا بمحاولة تطبيق مقولات الماركسية على الواقع العربي، الماضي منه والحاضر، مقولات الإقطاع، والبورجوازية، والصراع الطبقي، وأسلوب الإنتاج إلخ.وباستثناء الخطاب الماركسي الرسمي، خطاب الأحزاب الشيوعية العربية، الذي تعامل مع الماركسية كقوالب جاهزة يجب أن (يخضع) الواقع العربي لها خضوعا تاما، فإن كثيرا من الباحثين العرب ذوي النزعة الماركسية المستقلة قد عانوا من قلق فكري، إيديولوجي، بسبب أن الواقع العربي، الماضي منه والحاضر، لا يستجيب بصورة واضحة، أو لا يستجيب بالمرة، لجهاز التحليل الماركسي.فالطبقات والصراع الطبقي وأساليب الإنتاج كما تحددت مضامينها في الفكر الأوروبي لا يجد لها الباحث الماركسي مضامين واضحة ومحددة في الواقع العربي. ومن هنا ذلك التوتر الفكري العام الذي مرده هذا النوع من عدم التوافق بين شبكات التحليل وبين موضوعات التحليل، القلق الذي عبر عن نفسه، أحيانا كثيرة، بالنزوع نحو نوع من الخطاب المشحون بالاستثناءات والاستدراكات والتحفظات إلى درجة تفقده وضوح الدلالة وسلامة التعبير، وتجعله مشوشا للرؤية بدل أن يكون مرشدا للعمل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى انشغل بعض الباحثين، خلال الفترة نفسها، بموضوعات وتساؤلات وإشكاليات كان يمليها (النموذج السلف)الذي ينطلق منه فكر هؤلاء الباحثين، وهو في الغالب التجربة الأوربية.وهكذا سادت أسئلة من نوع:لماذا كان كذا في أوروبا ولم يكن نفس (كذا) في العالم العربي؟ والإشكالية التي طرحها المستشرق الفرنسي الماركسي المعروف ماكسيم رودنسون في هذا الصدد من خلال كتاب له جيد، والتي شغلت الأذهان لحقبة من الزمن، هي من أقوى الإشكاليات التي طرحت في هذا الإطار. لقد تساءل رودنسون :لماذا لم تتطور الأوضاع في العالم العربي خلال القرون الوسطى إلى نظام رأسمالي من النوع الذي عرفته أوروبا، على الرغم من أنه كان يتوفر على جملة المعطيات التي أدت إلى قيام الرأسمالية في الغرب (قطاع رأسمالي، قوامه اقتصاد تجاري بضاعي مزدهر)؟.وبما أن هذا النوع من الأسئلة يستعصي عن الجواب، لأن السؤال العلمي يتجه إلى ما حدث بالفعل وليس إلى ما لم يحدث، فإن الجواب الذي اختاره ماكسيم رودنسون هو من ذلك النوع من الأجوبة التي تقتصر على استبعاد عامل أو جملة عوامل من مجال التأثير السببي في حدوث الظاهرة، جواب يقول :إن الإسلام كدين وتشريع لم يكن هو العائق أمام تطور الأوضاع في العالم العربي خلال القرون الوسطى إلى نظام رأسمالي، ومن هنا العنوان الذي اختاره لكتابه (الإسلام والرأسمالية). أردت بالتذكير بما سبق أن أنبه إلى أننا نكرر اليوم ذات السلوك الفكري من خلال مقولة (المجتمع المدني) وما ارتبط بها من مقولات، أصبحت تشكل اليوم عنوان الحداثة والتحديث والفكر الحر المتجه إلى أمام (حتى لا أقول (التقدمي) ولا (الليبرالي)). وهكذا نجد أنفسنا ننهمك في استعراض تعريفات الباحثين والفلاسفة الأوروبيين لهذه المقولات، محاولين أن نجد فيها ما يستجيب لرغبتنا في (اكتشاف) أو قيام (مجتمع مدني) في هذا القطر أو ذاك من عالمنا العربي.ليس الهدف من هذه الملاحظات التشكيك، لا من قريب ولا من بعيد، في جدوى الاهتمام بقضية المجتمع المدني والتحول الديمقراطي.كلا.إن هدفي من هذه الملاحظات هو الدعوة إلى معالجة هذه القضية بأكبر قدر من الاستقلالية. إن المرجعيات الأوروبية في الموضوع، سواء كانت واقعا تاريخيا أو اجتهادات فكرية، يجب أن تبقى مرجعيات استشارية لا غير.يجب ألا تنقلب إلى (نموذج سلف) يهيمن على الفكر ويوجه الرؤية.وإذن، فالمطلوب هو أن نتجه مباشرة إلى الواقع العربي لنلتمس منه تعريف (المجتمع المدني)، مستعينين في ذلك باستحضار الظروف والملابسات التي جعلتنا نطرح هذا الشعار كمطلب، بعد أن كان غائبا عن مجال تفكيرنا في العقود الماضية، على الرغم من أنه كان موجودا منذ قرون كمقولة من مقولات الفكر الأوروبي ولكن دون أن يثير اهتمامنا. إذا نحن تساءلنا: ما الذي جعلنا في وقت من الأوقات ننتبه إلى ضرورة الاهتمام بـ (المجتمع المدني) والمطالبة بالعمل على فسح المجال له لينشأ وينمو، فإننا سنضطر إلى ربط ظهور الحاجة عندنا إلى هذا الشعار بفشل النموذج المجتمعي الذي يشيد على الأرض العربية، من خلال دولة الحزب الوحيد، ودولة (الضباط الأحرار) ودولة الملكيات المطلقة والرئاسات القبلية والفردية. من هنا سنجد أن مضمون المجتمع المدني عندنا يرتبط بتصفية (مجتمع العسكر) و(مجتمع القبيلة) و(مجتمع الحزب الرائد القائد)، وبالتالي فسح المجال لقيام مجتمع المؤسسات القائمة على التعبير الديمقراطي الحر.وبناء على ذلك فالبحث في المجتمع المدني يجب ألا يتقيد بنفس البداية بالنسبة لجميع الأقطار العربية.إن تفاوت التطور واختلاف التجارب في العالم العربي تقضي أن ننظر إلى مضمون (المجتمع المدني)من مؤشرات متعددة، وأن تكون نظرتنا هذه قابلة للارتداد، مع اعتبار الخصوصية في هذا المجال. ومن مظاهر الخصوصية في أقطار عالمنا العربي أن الطريق إلى (المجتمع المدني) قد مر ويمر عبر الانتقال - مثلا - من القبيلة إلى الطريقة الصوفية (المهدية، السنوية، القادرية، الشاذلي...). وقد يتم الانتقال مباشرة من الطائفة إلى الحزب والنقابة والجمعيات المهنية وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني على الطريقة الأوروبية. كما قد يحدث أن تتزامن تلك الأطر الاجتماعية العربية وتتعايش مع بعضها ومع قيام الحزب والنقابة دون أن يكون ذلك بديلا عنها. إن عدم الأخذ بهذا المسار في فهم الواقع العربي قد ينتج عنه، وهذا ما حصل فعلا، انفصال خطير بين (المجتمع المدني) كما تتصوره وتريده النخبة العربية العصرية وبين (المجتمع المدني) كما هو بالفعل في واقع الحياة العربية . * مجلة المجلة [email protected] |