السوق العربية المشتركة حلم طال انتظاره مشهد لافت ومؤثر يبعث على الحزن والأسى وروح الأمل المفقود، حصل عندما كان مندوب فلسطين عن العمال يلقي كلمته، مناشداً الحكومات العربية بالوقوف الى جانب الشعب الفلسطيني وتقديم العون له قائلاً: "في بلادنا نحن نعاني من الفقر والجوع والبطالة ولا نملك شيئاً سوى الصبر والشجاعة بينما عدونا لديه كل أسباب القوة ويملك نهراً من المال، فأين انتم"؟! حينها نظرت الى جانبي حيث كان يجلس وفد احدى الدول الشقيقة بجوارنا ورأيت الدموع تترقرق من عيني أحد المسؤولين بالوفد الشقيق، حين قام معانقاً رئيس وفد عمال فلسطين معرباً عن تضامنه معنا ومع فلسطين وعمال فلسطين قائلاً: "يا أخي لم اتمالك نفسي ما هذا الذي يحصل بكم وبأمتنا، ونحن أمة لديها من الثروات ورؤوس الاموال ما لا تملكه الأمم الأخرى". فعلى مدار أسبوع كامل في مدينة شرم الشيخ مدينة السلام عقدت الدورة (43) لمؤتمر العمل العربي، حيث نوقشت خلالها قضايا وهموم العمل والعمال في البلدان العربية وسبل تطوير السياسات التشغيلية التي تمكن اسواق العمل العربية من رفع قدرتها التشغيلية والخروج من ازمتها الخانقة الناجمة عن ارتفاع معدلات البطالة الى مستويات غير مسبوقة بالرغم من الوفرة الهائلة في رؤوس الاموال العربية، والقدرة الاستثمارية العالية لها لو توفرت الظروف والخطط الممهورة بالارادة السياسية الجادة ذات الابعاد والتوجهات التنموية الحقيقية والاستراتيجية. وكانت لفلسطين خصوصيتها الاستثنائية التي حافظت عليها في هذا الأمر كما في كل دورة، إذ تكاد لا تخلو أية كلمة من كلمات المتحدثين من الوزراء واطراف الانتاج العرب من التأكيد على التضامن والدعم الكامل لعمال فلسطين وشعب فلسطين في مجالات العمل والعمال وشتى المجالات الأخرى، بل ولعل ما يميز هذه الدورة لهذا العام هو انتخاب مدير عام جديد لمنظمة العمل العربية خلفاً للدكتور ابراهيم قويدر الليبي الجنسية الذي انتهت ولايته الثانية غير القابلة للتجديد وفقاً لنظام المنظمة. التنافس كان على أشده ما بين مرشحي اليمن والجزائر بعد انسحاب كل من مرشحي الاردن والعراق للمنصب المذكور، حيث سجلت هذه الدورة مستوى عالياً من الشفافية والتنافس الأخوي البناء ليعلن من الجولة الاولى انتصار الديمقراطية العربية الخالصة والخالية من المواد الحافظة الاميركية بفوز الوزير اليمني السابق د. احمد لقمان صاحب الخبرة الطويلة والثقافة العالية والذي تقلد عدة مناصب رسمية عالية محلية ودولية في بلاده بمنصب المدير العام للمنظمة. مثل هذه المؤتمرات والقمم العربية الهادئة والسلسة بحكم طبيعة وظيفتها وموضوعاتها التي تطرح سنوياً في ذات الموعد من كل عام، عاكسة تكراراً أو اجتراراً لخطابات ومقولات ورؤى ظلت تتبرد كقواسم حماسية مشتركة على ألسنة المتحدثين تحت قبة هذه القمة في كل عام. ظلت بشكل أو بآخر تمثل صورة حقيقية من صور وتجليات وأشكال التضامن العربي الرسمي مع هموم ومعاناة عمال وشعب فلسطين المتفاقمة والمتدهورة تحت ناظري الحاكم والمواطن العربي على الدوام، ما يجعل بعض التساؤلات الوجدانية مشروعة بحكم منطق الاشياء ومناطقية المسؤولية العربية في هذا الهم المركزي العربي. أليس من حق كل عامل عربي ان يقف اليوم متسائلاً: لماذا لا تفتح الأبواب مشرعة أمام عمال فلسطين لدخول الاسواق العربية لتلمس لقمة العيش التي سيَّجها الاحتلال بجدار اخطبوطي عنصري يفصل ما بين الانسان ولقمة عيشه والأراض وصاحبها والأم ووليدها لصالح الكولونيالية الاحتلالية البغيضة؟! وكيف يمكن لأمة العرب أن تصارع هذا التحدي وتسهم في الذود عن حياضها وفي دعم واسناد العامل الفلسطيني بشكل خاص والعربي بشكل عام، ونحن نرى منظمة العمل العربية في حالة تراجع وضعف مستمر جعلها تنتقل مع مرور الزمن منذ التأسيس وعوامل الحت والتعرية الوطنية للنظام العربي الرسمي، وحالة التصحر السياسي العام من منظمة رائدة ذات هوية سياسية صارخة المعالم والحدود والرؤى في الدفاع عن حقوق اطراف الانتاج في الوطن العربي، وتنمية وتطوير قدراتها بما يخدم الوطن والمواطن والدور السياسي الفاعل الذي كانت تمثله المنظمة في التأثير بمجمل الفعل العربي السياسي في كل بلد لصالح الانتصار العلني الفاعل للحق العربي والحق الفلسطيني الذي ظل يشكل دائماً نواة حلم الأمة وهمها الشاغل وقلبها النابض ابداً بالدفق الوطني، الى منظمة اكثر مهنية وبعداً عن المعنى والمغزى السياسي الوطني والقومي لدور هذه المنظمة، فكان تراجع موازنة هذه المنظمة من 61 مليون دولار سنوياً في السنين الخوالي من مراحل عمرها وبدايات تجربتها لتصل اليوم لموازنة لا تتعدى 5،3 مليون دولار محملة بالالتزامات والمسؤوليات الباهظة اذا ما قيست بحجم اعباء و مسؤوليات ذلك الزمن من الماضي السحيق من عمر التجربة بالمنظور النسبي، مؤشراً صريحاً على صدقية ما أسلفنا، وهو ما يعني حجم التراجع والضعف في قدرات هذه المنظمة على اداء دورها الفاعل والحقيقي الذي يعبر عن طموح العامل والمواطن العربي بشكل عام ويغطي متطلبات واعباء المسؤولية اللازمة والملحة لصمود العامل العربي في اسواق العمل امام غول البطالة والفقر المدقع الذي تجاوز كل الحدود السياسية والانسانية والأخلاقية. صحيح ان الوعود كثيرة، والمتضامنين مع عمال فلسطين كثر، والتقارير والمداخلات التي قدمت في المؤتمر اظهرت ان لا أحد من الاشقاء العرب يعارض تقديم التسهيلات للفلسطينيين لدخول اسواق العمل العربية، والكل يبدي حماسه لذلك، إلاّ ان الجانب الآخر لمشكلة الاسواق العربية بات يتجلى في منافسة اليد العاملة الآسيوية الرخيصة، ليس لليد العاملة الفلسطينية والعربية وحسب، بل حتى للعمالة المحلية في البلدان العربية، ما يزيد الأمر تعقيداً امام العمالة الفلسطينية في البلدان العربية ودول الخليج العربي بوجه خاص. ما يعزز سالف قولنا كبعدٍ آخر في المشكلة، هو ما نشهده اليوم من سياسات واستراتيجيات عربية تسمح بانسياب رؤوس الاموال وتنقلها عبر الحدود العربية بحرية، بينما تمنع اليد العاملة وتوضع الحواجز والمحاذير امامها، مع ضرورة أن نلحظ بأن رؤوس الاموال المناسبة والسائبة تتنقل بحرية عبر تلك الحدود، لكنها موجهة ضمن نظم وضوابط تجعل حرية حركتها تنحصر بشكل عام واساسي في نشاطات عقارية وخدماتية اكثر مما هي استثمارية تنموية. وهذا له معان ودلالات وابعاد في السياسة والاقتصاد تحت مظلة عالم ليس لنا، لكننا نسخر أموالنا وثرواتنا في خدمة اهدافه وسياساته سواء من حيث ندري أو لا ندري. السياسات والاستراتيجيات والبرامج النظرية والتحليلية العربية موجودة وتناقش في كل عام، مكلّلة بالوعود النظرية السخية، وتكاد لا تجد أي طرف يخالفك أو يعترض على طلباتك واحتياجاتك تجاه فتح اسواق العمل العربي امام العامل الفلسطيني، لكنك تصطدم في كل مرة بامكانات التطبيق، مع أن مؤتمر التشغيل الفلسطيني الذي عقد خصيصاً لهذا الأمر قد أعلن للملأ ومن خلال وزارة العمل الفلسطينية المخولة بالتصرف في ابرام الاتفاقيات الخاصة بهذا الشأن مع الدول العربية المعنية، كل على حدة، وضمن الشروط والاحتياجات والالتزامات والضمانات التي تضمن تشغيل العامل الفلسطيني وتحفظ أمن واقتصاد البلد المعني وفقاً لما تحدده تلك الدول وترضاه، وبما يضمن للعرب إبعاد شبح مخاوف التوطن في بلادهم وللفلسطينيين عدم هجر الوطن وتفريغه. في ضوء ما سبق، ومع كل هذا الانحدار والتراجع غير المعزول عن مجمل التراجع الذي حصل في مجمل سياسات وادوار النظام العربي الرسمي في مواجهة التحديات التي عصفت وما زالت تعصف بالأمة بأكملها، وبحكم المتغيرات العالمية عموماً، الاّ أن للمواطن العربي وللعامل بشكل خاص حقاً على اصحاب القرار بأن لا يألوا جهداً ويسعوا حثيثاً من أجل تقديم كل ما من شأنه ان يسهم في إيجاد السوق العربية المشتركة، الحلم القديم الجديد والمتجدد أبداً في زمن باتت التكتلات والاصطفافات فيه تشكل مقولة أساسية من مقولات هذا العصر وجزءاً مكوناً له وذلك اضعف الايمان. فهل يرقى الحلم الى مستوى الواقع وحيز التطبيق؟ * كاتب فلسطيني . |