الفراغ وأصحاب القرار
الإثنين, 24-أبريل-2006ثريا الشهري -
تأملوا في حياة حكامنا العرب وطبيعة عملهم المتواصل، ثم تساءلوا عن تاريخنا الإنساني وعن أصحاب الأدوار في صفحاته، أنا فعلت ذلك فتمنيت لو أنني عرفت كيف كان تصرف هؤلاء مع أوقاتهم، فتراني لم أخرج من سياحتي بغير ما سأحدثكم به عن فلسفة السياسة التي لا تنفصل عن فلسفة الدنيا، فنحن غالباً ما نعتقد أن أوقات العمل تملكنا، فهل معنى هذا أن هناك فسحة من الوقت نستقطعها فنملكها! نعم وإلى حد كبير، وهي ما يُعرف بأوقات الفراغ، أو ميزان إيماننا بقيمة الوقت الذي هو المرادف الأول لقيمة الحياة، فليس معنى «وقت الفراغ» أن نبدده كيف نشاء، ولكنه الوقت الذي بقي لنا بعد قضائنا لوقت العمل مسخرين للالتزام وتكاليف الضرورة، هذا غير كونه الوقت الذي يعيد لنا صياغة الأشياء، فحوادثنا وقراءاتنا وأعمالنا هي في محصلتها نتاج لا نفيد منه إلا بمقدار ما نغربله ونوزعه على مواضعه من خزائن العقل والضمير، ولن تتيسر لنا هذه المهمة من التفنيد وترتيب الأمور في عقولنا في غير أوقات الفراغ، أو كما تسمى بساعة التخزين، فما الفائدة من الحرث والسقي والرعاية إذا لم يلها جمع الحصاد وتخزينه، لذا تجد أن ساعة الفراغ ألزم لنا من ساعات العمل، من منطلق أن إتقان هذا العمل والاستمرار فيه إنما هو موقوف على حسنة الفراغ في الراحة النفسية والتنفيس عن ضغوطات الأيام، ثم استخلاص خير ما ادخر من التجارب والعظات والمعارف، ولولا أننا نخشى اتهامنا بالمبالغة لقلنا إن سجلنا الإنساني من أوله إلى حاضره ومستقبله لمدين بفضله إلى ساعات الفراغ.
لقد تسابق الانجليز والفرنسيون على استعمار «كندا»، فنجح الانجليز في حين لم يفلح الفرنسيون، فلماذا؟! معروف عن سكنى الأرض القفار أنه يحتاج إلى قضاء الأوقات الطوال في غنى عن المدن وصخبها، وبما أن الانجليزي كانت لديه القدرة على الانفراد والانعزالية، على عكس الفرنسي الذي لم يحتمل أن يفرغ لنفسه ومع نفسه، لاشتياقه الدائم إلى المدينة بسهراتها واجتماعاتها، فقد حصل أن هجر الميدان للقادرين على شظفه، فإن كان الفرنسيون قد أخفقوا في احتلال كندا، فيجوز أن يكون أمرنا أخطر وأعظم قصة، فلعلنا لم نذهب فريسة الاستعمار إلا لأننا فارغون...إلا لأننا صرفنا أوقاتنا بدون تمييز، ولا نقول إن وقتنا كان فاضياً لأننا بالفعل شغلناه، ولكن في أحيان كثيرة بأفرغ من الفراغ نفسه، فهو ليس وقتاً على الإطلاق، إنما عدم خارج من وقت الزمان، وكم عرفنا أقواماً جنوا على أوطانهم أشنع الجنايات، لأنهم وجدوا أمامهم متسعاً من الفراغ لم يحسنوا استثماره، وكم عرفنا أقواماً أفنوا حياتهم في العمل ومع هذا ماتوا من دون علامات تذّكر بهم، فالفارغون عاشوا فراغاً ذميماً في أهم نواحيه، والمشغولون قضوا أيامهم في ما لا ملامح فيه، فأتت النتيجة على التساوي، فلا فارق كبيرا بين من ضر وطنه وبين من لم ينفعه!
وعطفاً عليه، نعرج بكلامنا على أصحاب المناصب لنتفكر قليلاً في أمرهم، فما هي الظروف النفسية التي يتخذون فيها قراراتهم؟! وكيف هي عاداتهم في الاختلاء بأنفسهم ومراجعة أحداثهم من حيث هم بشر يخطئون كما يصيبون؟! وإلى أي مدى تحتل أوقات الفراغ سير برامجهم وجداول مواعيدهم؟! فالحياة الصحية هي مزيج من عمل وراحة، فهل روعي في العمل نوعية العمل، أم هل اتسعت الراحة لغير البذخ والترف بين الحلي والحلل؟! وعلى كل، وكما يحبذ قضاء الفراغ فيما هو خير، غير أننا لو خيرنا بين الفراغ بخيره وشره وبين ضياعه كله، لاخترنا أهون الشرين، فنحن لا نملك المجازفة بالجانب الطيب الذي يعود علينا من حكمة الفراغ حتى مع اختلاطه، وإنما أملنا أن يأتي علينا يوم نفك فيه الالتباس المتأصل في أعماقنا بين ما يعنيه وقت الفراغ وبين اللهو والرمي به مع الهباء.
كل من بيده السلطة يغير العالم على طريقته، ولكن الوسائل تختلف، والمواقف تختلف، والنفوس أيضاً تختلف، ولا يكون اختلافها سوى بقدر قناعاتها وثقافاتها وسلوكياتها، وهذه الأخيرة بالذات يتحكم فيها الجهاز العصبي للإنسان، ولنا أن نتصور أداء صاحبه وهو المحمل بأنواع الهموم والأعمال! فالحاكم على سبيل المثال ليس مجموعة من العضلات، بل هو طاقة روحية، وسلطة فكرية تتقدم السلطات، فإن لم يكن مزيجاً من قيود و«حرية يتنشقها»، فكيف ستكون القرارات التي عليه اتخاذها سوى انعكاس لروح مكبلة، وحديثنا هذا ليس فيه كثير من مثالية، ولكن قد يظن أنه بعيد عن الواقعية لاحترافنا لفن العادة وأسرها، والحفاظ على أصول الكآبة في تناولنا لأبسط نواحي حياتنا، مع أن الخروج المتزن عن المألوف حالة عاقلة وغنية، وإلا تحول المرء في غيابها إلى معلم حساب لا يعرف منه سوى جداول الضرب وبدائية الجمع والطرح.
لكل امرئ أسلوبه في الترويح عن نفسه، وأحوج الناس إلى تجديد المكان والوجوه هم أولئك الذين يعتمدون في أعمالهم على قدراتهم الدماغية، فالمجهود الجسدي لا يرهق بقدر ما يفعل تشغيل العقل وتركيزه، أما إن كان التغيير سيقود إلى إنهاك أكبر من سابقه، يحتاج المرء معه إلى إجازة من الإجازة فليس هذا بالمقصود، ولكنه الاسترخاء ومراجعة دفاتر الانجازات بروية بلا إرباك، فلغتنا العصبية التي ألفناها لم تأت بالصدفة، ولكنها أخذت منا عشرات السنين حتى تكونت، كما أنه ليس صحيحاً أن تكون الحلول واردة الحضور بمجرد استدعائها، وكل أزمة ويقاس نجاح انفراجها بمدى القدرة على اتخاذ القرار المناسب في أضيق الأوقات وأحرجها، وعليه، لا أكون مخطئة لو قلت إن الكثير مما تفوهنا به وأقررناه في تاريخنا كان من الممكن أن نعطيه شكلاً أبدع وذوقاً أتقن لو أن نفوسنا التي كانت تقرر وهي تنظر إليه كانت أهدأ ومزاجها كان أجمل...لو
الشرق الاوسط