نضير الخزرجي* - تدور حياة الانسان مدار التكوين والتشريع، فهناك امور يكون الانسان حرا فيما يختار، كاختيار اللباس والأكل والزوجة ونوع الدراسة والسكن وما أشبه، وبعضها خارجة عن ارادته كخلقته ووجوده في الحياة، بلحاظ ان: "التكوين هو الخلق والايجاد الذي هو من تصرف الباري جل وتعالى، والتشريع هو الأمر والحكم"(1)، والتشريع الذي يقع على الانسان ودوره في الحياة، يدور مدار الوجوب والحرمة وما بينهما المكروه والمستحب والمباح، ويأتي دور التشريع لتنظيم حياة الانسان وفق ارادة الخالق، وهي ارادة تحيط بالانسان من كل جوانبه لا تتخلف عنه، والا فُني الانسان، ولمّا كان الخالق أعرف بخلقه وهي مسألة عقلائية، فان الله أعرف باحتياجات البشر، ولذلك ما شرعه لجنس البشر ينسجم مع تكوينهم وخلقتهم وفطرتهم فمن عدل الله ان ما اجراه من أحكام انما هي متناغمة تماما مع ما أودعه في فطرة الانسان، التي يعرفها الامام علي (ع) بانها "كلمة الاخلاص"، ويصفها الباحث السوري، استاذ الفلسفة والمعارف الاسلامية بجامعة السوربون، الدكتور عضيمة، بقوله: "في الانسان الفطرة هي مادته الاولى التي فطره الله عليها, وهي خالية من أي اثر ومستعدة لقبول أي اثر يباشرها، وهي تأخذ التسمية من الاعمال التي تكتسبها، فاذا اكتسبت صلاحا فهي صالحة، واذا اكتسبت فسادا فهي فاسدة"(2).
ولا يمكن ان يكون هناك تعارض بين التكوين والتشريع، لان هذا التناقض يعني الجهل او العبث وهو ما يؤدي الى الظلم، والله سبحانه منزه عن ذلك كله: "وبالعدل الالهي الذي يتجلى بانعدام التناقض بين التكوين الفطري للانسان والتشريع الالهي كان الاسلام دين الفطرة، وكان دينا واقعيا يتعامل مع طبيعة الانسان التكوينية وواقعه، كما خلقه الله سبحانه"(3).
الحرية كونية طبيعية
من الثابت ان الله خلق الانسان وأوجد معه لوازم الحياة والاستمرار فيها، ومن هذه الضروريات الملازمة لحياة الانسان ابتداءاً وانتهاءاً هي الحرية، فهي معجونة مع صيروة الانسان، ومندكة في إنيّته، مذ كان ويكون، حتى يقف يوم القيامة في محكمة العدل الالهية، يقول المحامي والاكاديمي والباحث المصري الدكتور العوا: "ان حرية الانسان مقدسة - كحياته سواء بسواء- وهي الصفة الطبيعية الاولى بها يولد الانسان: (ما من مولود الا ويولد على الفطرة) وهي مستصحبة ومستمرة ليس لاحد ان يعتدي عليها"(4)، اما الباحث الايراني، حميد حيدري، المتخصص في القانون الدولي، فهو يلفت أنظارنا، الى ان: "الامام الخميني (1902-1989م) بعنوان عالم اصولي - في مقابل الاخباريين- يعتقد بان الاصل الاول هو الحرية، اما الاحكام الصادرة عن الخالق سبحانه فتأتي في الدرجة الثانية، الاصل الاول هو الحرية اما الحدود الشرعية والقانونية فهي ثانوية، بدون ادنى شك، ان الاصل الاول – مثل اصالة الحِلِّية واصالة الإباحة وعامة الامور والاشياء على وجه الارض خلقت واوجدت من اجل الانسان – هو انه يجوز الاستفادة بأي شكل كان من كل شيء ما لم يثبت الدليل على حرمته"(5).
اما رجل الدين والتربوي الفرنسي المولد، الكندي المسكن، مونتمورنسي دي لافال (Montmorency De Laval) (1622-1708م) فانه يعتبر الحرية قضاءاً مبرما وحتما، وعلى قاعدتها تقع جميع التبعات، فهو يرى ان: "الانسان يصنع وجوده بحريته، ان (الحرية) كل غير قابل للتحليل، واطرها هي هذه الوقائع والغايات، وانها لا توجد الا في موقف، غير ان الموقف لا يوجد الا بها، فالانسان مقضي عليه ان يكون حرا، اني مسؤول عن كل شيء، ولكن لست مسؤولا عن مسؤوليتي، انا لست اساسا لوجودي، اني هذه (الحرية) التي يؤكد الوجود بها نفسه، وفي العقل الذي اكتشف به هذه هي الحرية"(6).
والحرية كما يؤكد، مفكران اسلاميان ومنظران حركيان، هما، الفقيه محمد الشيرازي (1928-2001م) والفقيه محمد باقر الصدر (1935-1980م)، انها جعلية كونية طبيعية، يقول الباحث العراقي محمد غالب أيوب، أن: "الامام محمد الشيرازي لانه منظر اسلامي ويدافع عن وجهة نظر محدد يستنطق القران والسنة في الاستدلال على هذه الاصالة الذاتية للحرية، ومن هذه النصوص: (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا) و(الناس كلهم احرار..)، وكلا النصين لامير المؤمنين علي (ع)، والنص الاول يجسد تماما وببراعة فذ اصالة الحرية، لانه يعني: ان الحرية بالنسبة للانسان جعلية، ذاتية، طبيعية، وان الحرية ليست اضافة خارجية، وانما هي خلق رباني.".
ويضيف غالب: "وهذه الحرية الكونية التي طبع عليها الانسان، وقد اصطلح عليها السيد محمد باقر الصدر بالحرية الطبيعية، يقول الصدر: (الحرية الطبيعية عنصر جوهري في كيان الانسان، وظاهرة اساسية تشترك فيها الكائنات الحية بدرجات مختلفة، تبعا لمدى حيويتها، ولذلك كان نصيب الانسان من هذه الحرية أوفر من نصيب أي كائن آخر، وهكذا كلما ازداد حظ الكائن من الحياة، عظم نصيبه من الحرية الطبيعية)، وهذه الحرية الكونية او التكوينية بتعبير أدق هي احدى: (المقومات الجوهرية للانسانية، لانها تعبير عن الطاقة الحيوية فيها، فالانسان بدون هذه الحرية لفظ بدون معنى)"(7)، وكما يقول الفيلسوف الايراني المولد، السيد محمد حسين الطباطبائي (1903-1981م) صاحب تفسير الميزان: "ان الانسان مختار في الافعال المنتسبة اليه الصادرة عنه باختياره أي انه مطلق العنان بالنسبة الى الفعل والترك بحسب الفطرة غير مقيد بشيء من الجانبين ولا مغلول وهو المراد بحرية الانسان تكوينيا"(8)، أو قول السيد الخميني، ان الحرية: "حقا أوليا وفطريا طبيعيا وهبة إلهية للبشر"(9)، أو قول السيد جمال الدين الافغاني (1839-1897م): "ان من الاشياء ما ليس يوهب، فأهما بلاشك الحرية والاستقلال.."(10).
في الواقع لا يمكننا الا أن نسلّم بان: "الحرية حقيقة تكوينية في الانسان، وليست تشريعية معطاة، فالتشريع أي تشريع كان، لا يمنح الانسان الحرية، لسبب اساسي، وهو ان الحرية موجودة تكوينيا في الانسان، فالانسان خلق حرا، وكل ما على التشريعات سواء كانت وضعية ام إلهية هو ان تمنع مصادرة هذه الحرية او العبث بها"(11)، اي الحيلولة دون تجاوز احد على احد، او استئثار احد بحرية فائضة عن حدوده تستقطع من مساحة حرية الآخر دون وجه حق.
الحرية مظهر الوجود
واذا كانت الحرية جعلية كونية، وهي كذلك بالفعل، فانها وبمعنى آخر أصيلة في تكوين الانسان، وان الاصل في الانسان الحرية في مقابل العبودية في معناها اللغوي، فهي اصيلة في كينونة وفطرة الانسان، اذ: "ليست الحرية من ضرورات الحياة فقط، بل هي فطرة شكلت حقيقة وجودنا الانساني وجوهره، فلا بديل للانسان عن الحرية ولا غنى له عنها، فهو يحتاجها كما يحتاج الى الخبز والماء، ويتعطش اليها كما تتعطش الوردة الضاحكة في فم الرابية الى الماء والتراب"(12)، فالفطرة اذن هي ذات قيمة، وهي قيمة ملزمة كما يقول العوا: "كفلها الاسلام للانسان منذ كان، حتى عدت فطرة مما فطر الله الناس عليها، تؤكدها سيرة رسل الله جميعا وتثبتها نصوص القران والسنّة"(13).
والفطرة عند الاسلاميين كمصطلح، هي الطبيعة والجبلّة (Natural)، عند المفكرين الغربيين، من هنا فان الفيلسوف الانجليزي جون لوك (John Locke)(1632-1704م) قال: "ان الناس احرار بالطبيعة"، فالانسان كموجود هو: "حر ومستقل بشكل طبيعي وان جميع افراد البشر متساوون فيما بينهم ولا احد يمكنه حرمان الانسان من هذا الكنز العظيم (أي الحرية) ولا ان يجبره على طاعة قوة سياسية بدون رضاه، والرضا يحصل عن طريق التوافق مع الاخرين"(14)، وهي كذلك فكرة مسلّمة عند الفيلسوف الاجتماعي، الفرنسي، جان جاك روسو (Jacques Rousseau) (1712-1778)، اذ يفتتح بها كتابه (العقد الاجتماعي) (The Social Contract) الذي ألفه العام 1762م، وكأنها بديهة لا تحتاج الى عناء البرهنة او التدليل عليها: "يولد الانسان حرا، لكنا نراه مكبلا بالاغلال في كل مكان.."(15)، وهو المعنى نفسه الذي يذهب اليه الفيلسوف الوجودي الروسي(*) نيقولاي الكسندرفيتش برديائيف (Aleksandrovich Berdyaev Nikolai)(1874-1948م)، فالحرية عنده: "شيء اصلي وأولي وليس موضوع برهان، انها مسلّمة يفترضها العقل السليم، وهي موجودة كشرط لتواجدنا، وان أية محاولة لفهم فعل من افعالها بطريقة عقلية تعني جعل هذا الفعل مثل ظواهر الطبيعة"(16).
فالحرية وجه آخر من أوجه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فهي كما يقول الباحث الايراني المتخصص بالقانون الدستوري الدكتور حبيبي: "أمر نابع من الفطرة البشرية وقد اهتم بها الاسلام اهتماما بالغا"(17). ولا يمكن ان تتخلف الحرية عن الانسان، له ان يتصرف بها ايجابا او سلبا، وبفعلها يقع الأجر له او الوزرعليه، لكون الفطرة السليمة حاكية عن سمو الحرية، فانه لا يختلف في قيمتها، الشرقي والغربي، الامي والمتعلم، الابيض والاسود، الرجل والمرأة، الكبير والصغير، بل ان الصغير والمراهق يحاولان تقمص الحرية وممارستها الى حد التمرد على الحدود، ولذلك يجد الاباء والمربون ورجال القانون صعوبة في كسر جماح الصغير او المراهق الساعي الى تجاوز حريات الاخرين تحت ضغط تصور خاطئ انه يمارس الحرية الحقيقية، أو أن من يقدم له النصح انما يسعى لمنعه من ممارسة الحرية المرسومة في ذهنه.
اذن، ان الحرية كما هي قيمة وأصل، فإنها متأصلة ومتجذرة في كينونة الانسان لا تنفك عنه، وهي لازمة الوجود الانساني على وجه الارض ابتداءاً وانتهاءاَ.
المصادر والهوامش:
(1) انظر: المظفر، محمد رضا، عقائد الامامية في ثوبه الجديد، (صياغة: فارس علي العامري)، ص55.
(2) للمزيد، راجع: عضيمة، د. صالح، مصطلحات قرانية (لندن، الجامعة العالمية للعلوم الاسلامية، ط1، 1414هـ/1994م) ص308 وما بعدها.
(3) لجنة تأليف، دروس في العقيدة .. العدل الالهي (الكويت، دار التوحيد، ط1، 1414هـ/1993م) ص8.
(4) العوا، د. محمد سليم "الحرية في اصولها الاسلامية" كتاب: حقوق الانسان في الاسلام (طهران، العلاقات الدولية في منظمة الاعلام الاسلامي، 1408هـ/1988م) ص100.
(5) حيدري، حميد "الحرية في رؤية الفلسفة السياسية للامام الخميني" كتاب: الاسلام والفكر السياسي .. الديمقراطية، الغرب، ايران. تحرير وتقديم: د. رضوان زيادة (الدار البيضاء وبيروت، المركز الثقافي العربي، 2000م) ص121.
(6) رياض، محمد "الحرية وآراء في جدلية الدلالة" مجلة النبأ (بيروت، المستقبل للثقافة والاعلام، السنة 7، العدد 62، 1422هـ/2001م) ص21.
(7) أيوب، محمد غالب، ملامح النظرية السياسية في فكر الامام الشيرازي (بيروت، دار المنهل للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1411هـ/1991م) ص20-21.
(8) معاش، مرتضى "الحرية .. المدخل لحياة أفضل" مجلة النبأ (بيروت، المستقبل للثقافة والاعلام، السنة 6، العدد 46، 1421هـ/2000م) ص22-23.
(9) حيدري، حميد "الحرية في رؤية الفلسفة السياسية للامام الخميني" (مصدر سابق) ص118.
(10) بن حاج، علي، من وراء القضبان (لندن، الجبهة الاسلامية للانقاذ، 1421هـ/2000م) ص13.
(11) عبد الجبار، محمد، الديمقراطية بين العلمانية والاسلام (دمشق وبيروت، دار الفكر ودار الفكر المعاصر، ط1، 1420هـ/1999م) ص126.
(12) الصفار، فاضل، ضد الاستبداد (بيروت، دار الخليج العربي للطباعة والنشر، ط1، 1418هـ/1997م) ص17.
(13) العوا، د. محمد سليم "التعددية السياسية من منظور اسلامي" مجلة منبر الحوار (بيروت، دار الكوثر، السنة 6، العدد 20، 1411هـ/1991م) ص133.
(14) حيدري، حميد "الحرية في رؤية الفلسفة السياسية للامام الخميني" (مصدر سابق) ص117.
(15) إمام، د. إمام عبد الفتاح، الطاغية .. دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب، ط2، 1996م) ص277.
(*) كان برديائيف سياسيا ايضا، نفي من الاتحاد السوفيتي السابق عام 1922م، واستقر في باريس، من مصنفاته: (الحرية والروح – Freedom and The Spirit) و (قدر الانسان – The Desting of Man).
(16) رياض، محمد "الحرية وآراء في جدلية الدلالة" (مصدر سابق) ص21.
(17) حبيبي، د. نجفقلي "آلية المشاركة الشعبية في النظام السياسي في ايران" كتاب: الاسلام والفكر السياسي .. الديمقراطية، الغرب، ايران (مصدر سابق) ص102.
* إعلامي وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات – لندن
[email protected]