المؤتمر والبناء الأخلاقي للممارسة الديمقراطية
الأربعاء, 27-أغسطس-2003المؤتمرنت: نزار خضير العبادي - إذا كانت الديمقراطية أبرز عناوين الدول الحديثة، فإن العمل الديمقراطي النزيه والصادق هو أرفع مراتب الوعي السياسي للقوى الوطنية الثورية، وأقصر مسافات حيازة السلطة الشرعية وأكثرها أماناً .. وحريُُّ بنا حين نكون على مسافة غير بعيدة من أي تجربة على صعيد البناء الديمقراطي للدولة أن نتذكر هذه الحقيقة ونستوعب مفاهيمها الأخلاقية، ونحصِّن عملنا الوطني بمحدداتها السلوكية، وممارستها الناضجة، إذا ما طالبنا الجماهير أن تجعلنا خيارها أو أحد خياراتها في تلبية إراداتها للمرحلة المقبلة.
فتلك المفاهيم كانت وظلت بمثابة المنهل الفلسفي العذب الذي تأصلت على موارده الأخلاقية انطلاقة المؤتمر الشعبي العام الأولى في 24-29 أغسطس 1982م، بعد أن أضحى خياره الشعب اليمني بمختلف قواه الوطنية، وبشتى أفكارها وتوجهاتها السياسية.
ففي الفترة التي قررت فيها قيادة الأخ الرئيس علي عبدالله صالح التحول بالعمل السياسي الوطني نحو الصيغ الأكثر نضوجاً واكتمالاً، والأنسب توافقاً مع ظرفها اليمني الخاص ومعضلتها السياسية المعقدة، لم يكن مجدياً_ آنذاك_ نسخ آليات العمل الديمقراطي لتجارب الغير من دون إعادة هيكلتها وجدولتها وفقاً لما يمليه الوضع اليمني، وما يكفل للتجربة أسباب النجاح ومقومات النمو والبلوغ.. وهو الأمر الذي اجتهد في إيجاد خياراته الدقيقة فخامة الأخ الرئيس، حين أضفى على أصول التأسيس الديمقراطي للدولة صبغة أخلاقية وبُعداً إنسانياً بالقدر الذي يمنحها تعريفاً موضوعياً وواقعياً مرتبط بقوة بضمير الأمة وعقيدتها وتراثها الحضاري العظيم.
لقد كانت الخطوة الأولى باتجاه المؤتمر الشعبي العام في 27 مايو 1980م حين أصدر الأخ الرئيس قراره الجمهوري رقم (5) لسنة 1980، والذي يشكل فيه لجنة الحوار الوطني، والمؤلفة من (50) عضواً. ولعل المتمعن بتلك اللجنة سرعان ما يدرك ما كان يرمي إليه الأخ رئيس الجمهورية إذْ حرص على تنويع فئاتها الاجتماعية بين علماء ومثقفين وعسكريين ورجال دين ومشائخ وغيرهم..
وسيدرك أيضاً معنى أن تصبح لجنة الحوار الوطني ملتقى يجمع ممثلين عن جميع القوى الوطنية والحركات السياسية اليمنية بما فيها عناصر ماركسية من الجبهة الوطنية التي كانت تخوض حرب عصابات ضد أبناء الشطر الشمالي. فلا شك أن ذلك الواقع وتلك الأرضية التي شهدت وقع الخطوة الأولى في طريق المؤتمر الشعبي العام حملت بين طياتها فلسفة البناء الأخلاقي لهذه التجربة الكبيرة. فالحرص على عدم التجاهل لأي شريحة أو توجه فكري سياسي هو بحد ذاته اعتراف بأهمية الكينونة الإنسانية لها، واحترام لرأي أصحابها، وتأكيد للشراكة الجماهيرية في قيادة مسئوليات الحكم، والبناء للمرحلة المقبلة، فضلاً عن ترسيخ قيم العمل الجماعي الموحد في أطر تجعل من الحوار الإيجابي، وتبادل وجها النظر أساساً لتوفيق الرؤى المتعددة والتوجهات السياسية المتباينة التي شهدتها تلك الفترة.
ومن هنا تتجلى حقيقة كون اللبنة الأولى في قاعدة المؤتمر هي لبنة القيم الأخلاقية والإنسانية التي تؤهل المشروع السياسي الديمقراطي لإقامة هياكله اللاحقة على أرضيتها الصلبة. وهو بالفعل ما تمت ترجمته في الصياغات الفكرية لمشروع "الميثاق الوطني" وما رافق ذلك من ممارسات جماهيرية حية ومباشرة عبرت عن إرادتها من خلال استمارات الاستبيان التي تم توزيعها في مختلف مناطق الجمهورية والتي منحتها لجنة الحوار الوطني قسطاً مضنياً من الجهود في الفرز والتبويب والتحليل والتعديل.
ومن جهة أخرى، ربما يجهل البعض أن تقسيم أعضاء المؤتمر الشعبي العام (الألف)إلى حصتين: الأولى 70% يتم انتخابهم جماهيرياً، والثانية 30% يتم تعيينهم بقرار جمهوري.. لم يتخذ ذلك القرار عبثاً بل كان مبنياً على قراءة ذكية لواقع الظرف اليمني الذي كان يثير بعض قلق القيادة السياسية من احتمالية أن تبقى بعض القوى الوطنية خارج حلبة المؤتمر من غير أن يسعفها الخط في الفوز بممثلين عنها ضمن نسبة الـ70% المنتخبة. وعليه كانت القيادة السياسية ترى أن احتفاظها بنسبة 30% سيمكنها من موازنة ساحلة العمل الوطني والزج: بجميع القوى السياسية والوطنية من دون استثناء في ساحة المؤتمر للإسهام بقيادة وتخطيط برامج المرحلة المقبلة. ولعل هذا اللون من البناء والتأهيل الأخلاقي لمؤسسة الدولة يمثل حالة نادرة في مناهج العمل السياسي التي يمكن لنظام حكم أن يتبنى خياراتها.
إن من الخطأ بمكان الاعتقاد بأن ما سبق ذكره مجرد ظاهرة سياسية طارئة أو تصور مرحلي لتجاوز ظرف عصيب..لأن مثل ذلك الرأي سيصطدم بحالات لا حصر لها مما يجسد عناصر البناء الأخلاقي في الممارسة الديمقراطية عبر المؤتمر الشعبي العام، حيث وأن المؤتمر الشعبي العام منذ انبثاقه باشر مهمة كبيرة، يدور محورها في تأهيل القوى الوطنية وإنماء تجاربها في العمل السياسي الديمقراطي من أجل تمكينها من التحول من التعددية السياسية في إطار التنظيم الموحد للمؤتمر الشعبي العام إلى التعددية الحزبية التي يصبح المؤتمر في ضوئها واحداً من القوى الوطنية التي تعمل وتنافس وتضع برامج مستقلة بذاتها عن غيرها من الأحزاب والتنظيمات السياسية، في الوقت الذي كان بالإمكان أن تتبوأ منزلة المظلة الأم التي تمن على بقية القوى الوطنية بفضل حضانتها لها وإنما كوادرها ومهاراتها. وهذا هو موضع المفاضلة الأخلاقية في تجربة المؤتمر الشعبي العام في البناء الديمقراطي للدولة.
وربما كان حري بنا أن نستذكر الكثير من الصيغ التي عمل المؤتمر على تأسيس مؤسساتها الدستورية وصناعة آلياتها الخاصة بالكثير من المرونة والشفافية التي تنسجم مع انعكاسات الظرف السياسي السابق لعهد الرئيس علي عبدالله صالح الذي عرف بالفراغ السياسي، وانحسار الفرص الديمقراطية في العمل الوطني.
فقد عمل المؤتمر على نقل مفردات العمل السياسي إلى عمق الوسط الجماهيري بحيث تصبح آلياته متاحة لمتناول كل فرد من أبناء الشعب اليمني.. فصار منذ العام 1982م يتوغل في ربوع الوطن لنشر الوعي السياسي الوطني ولتعميق الممارسات الديمقراطية، سواء عبر انتخابات المؤتمر أو المجالس المحلية أو مجلس الشورى بجانب الكثير جداً من الاتحادات والنقابات والجمعيات التي تجاوز عددها (300) جمعية ونقابة عشية الإعلان عن قيام دولة الوحدة.. فلم تعد الهموم اليمنية مجرد هموم سلطوية، أو ذات خصوصية معينة تتحمل مسئولية البحث عن حلول لها أجهزة النظام الحاكم فحسب بل صار بإمكاننا بعد قيام المؤتمر الشعبي العام أن نقف على هموم وطنية مشتركة يتشاطر مسئولياتها كل من الحاكم والمحكوم كما رأينا ذلك يتجسد واقعاً في مواجهة أعوام الجفاف (82-1983م) وفي مواجهة آثار الزلزال، وكذلك في معارك المد الماركسي في مناطق الأطراف على حدود الشطرين التي لولا التلاحم الجماهيري الشعبي مع القيادة السياسية لما تمكن أحد من إطفاء أوارها. أضف إلى ذلك جهداً عظيماً وإنجازاً كبيراً كانت تقدمه جمعيات التطوير التعاوني على صعيد المشاريع التنموية والخدمية المختلفة.
وعلى هذا الأساس يمكن القول أن الممارسة الديمقراطية التي كان المؤتمر الشعبي العام يحاول إرساءها هي من نوع الديمقراطية البنائية التنموية والتطويرية لأساليب الحياة ومقوماتها الإنسانية الأساسية.. ولم تكن ديمقراطية سباق حزبي إلى مقاليد الحكم أو مراكز الوجاهة الطائفية والقبلية وغيرها.. وهو الأمر الذي تحققت في ظله نهضة سريعة وإنجازات عملاقة أضفت على الفترة صبغة الوصف بعهد الديمقراطية المنتجة، والتي قوامها تلك المثل الأخلاقية الرفيعة التي أسست لعمل وطني مشترك يُدمج الجماهير في مشروع تنموي نهضوي مسئول يجعل غاياته الأولى الارتقاء بكرامة الفرد، وأسباب عزته وازدهار حياته.
وكما ذكرنا -من قبل- أن ذلك لم يكن شأناً مرحلياً بقدر ما كان ثابتاً استراتيجياً يمنياً يتطور بتجدد المراحل، حيث أننا نجد المؤتمر الشعبي العام بعد إعلان الوحدة يجتهد كثيراً في إعطاء هذه المرحلة نفس الاستحقاقات السابقة من المسئوليات الأخلاقية في العمل السياسي الحزبي الذي طالما ظل يؤكده بوضوح كبير في أسلوبه السياسي في التعامل مع معطيات الأزمة التي نشبت خلال المرحلة الانتقالية مع الحزب الاشتراكي. ويقيناً أن سياسة النفس الطويل بكل ما رافقتها من حوار وتنازلات من جهة المؤتمر، وقبول على مضض بشروط مجحفة كانت جميعها ترسخ الإيمان والثقة بالحوار والمرونة والشفافية في العمل السياسي كخيارات أكيدة في فلسفة المؤتمر الشعبي العام لبناء الدولة.
وعلى كل حال كان الوقوف على هذه النقطة يعني استدعاء أمثلة لا حصر لها من تجربة المؤتمر الشعبي العام في العمل السياسي الوطني التي شأنها إجلاء حقيقة حرص المؤتمر على تأطير تجاربه بصيغ أخلاقية نبيلة قلما نجدها في تجارب سياسية أخرى.. فالعفو عن المشاركين في حرب الانفصال ثم عن قيادتهم السياسية العليا لا بد أن يصب في اتجاه قيم التسامح والحرص على عدم خسران أي جهد وطني، أو عنصر إنساني قد يكون له شأن كبير في خدمة الوطن إذا ما منح فرصة أخرى لإثبات الذات.
إلى جانب هذا كانت علاقة المؤتمر الشعبي العام بأحزاب المعارضة ليست علاقة حاكم ومحكوم بقدر ما هي علاقة شراكه وطنية_ بمنظور المؤتمر على أقل تقدير_ يمتلك على ضوئها الجميع حقوقاً متساوية وفرصاً عادلة في العمل السياسي الوطني.. فالمؤتمر لم يحاول استغلال موقعه في الحكم لإملاء شروط وضوابط على حركة أحزاب، وتنظيمات المعارضة؛ حيث أن حقيقة ما هو كائن، وماثل للعيان تؤكد بأن المؤتمر كان على الدوام يستجيب لكل دعوة حوار أو تفاهم تطلبها المعارضة، وخصوصاً تلك الدعوات التي اعتادت المعارضة على توجيهها قبل كل تجربة انتخابية لوضع أسس وضوابط تكفل نزاهة الانتخابات_ حسب تعريف المعارضة لأهداف تلك الدعوات_ وبطبيعة الحال كان الجميع يخرج باتفاق تنسيق لم يكن نصيب المؤتمر الشعبي من جلسات إقرار بنوده إلا صوتاً واحداً أسوة بأي حزب من تلك الأحزاب..مع أن لا مجال للمقارنة بين دور المؤتمر وإنجازاته في الساحة الوطنية، وبين عجز غيره عن تقديم شيء للحركة التنموية للدولة اليمنية.
ولاشك أن دعوة المؤتمر الشعبي العام للأحزاب والتنظيمات السياسية للالتقاء على وثيقة اصطفاف وطني هو أمر يصب في رصيد المؤتمر من آليات البناء الأخلاقي للممارسات الديمقراطية، والتي من شأنها أن تعيد القوى الوطنية إلى المنصة الحقيقية والصادقة للعمل الديمقراطي التي يجب أن يعيدوا النظر بمفاهيم هم للعمل الحزبي في الصف المعارض من قاعدتها.. حيث وأن الممارسة الديمقراطية لا تبيح لأحد تحويل الساحة الجماهيرية إلى مجرد منصات خطابية لتبادل الاتهامات، والشكوك، والسباب، في الوقت الذي يجب أن يجعل الجميع من ممارسة العمل الديمقراطي منهجاً أخلاقياً نبيلاً يمهد السبل لمزيد من العطاء، والبناء التنموي، وليس لتعقيد الحياة ومغالطة مفاهيم العمل السياسي.. وهو الأمر الذي ربما سيكون فيه بأمس الحاجة للوقوف ثانية متأملين في الدروس الأخلاقية التي ترجمها المؤتمر الشعبي العام في عمله السياسي خلال مسيرة 21 عاماً.