صنعاء في سهرة مع بتهوفن
الأربعاء, 03-مارس-2004القدس العربي - د. عبد العزيز المقالح -
لو كان بتهوفن قد زار صنعاء قبل اربعين عاما لما وجد له او لموسيقاه مكانا في مدينة يخيم عليها الرعب وتنام مع الغروب. لكنه عرف كيف ومتي يأتي اليها او بالاحري كيف ومتي تأتي اليها موسيقاه بعد ان اغتسلت المدينة من غبار قرنين من الزمن كان اليمن خلالهما تحت وطأة الاحتلال الاجنبي وانظمة الفوضي والتخلف.
وللحقيقة لم يكن بتهوفن وحده في الزيارة المفاجئة والمثيرة لصنعاء التي تتوج في هذا العام ـ عربيا ـ عاصمة للثقافة العربية، بل كان الي جواره اكثر من موسيقار عالمي تولت يوربا فيلهارموني الالمانية عزف اعمالها الخالدة في مسرح مفتوح، وفي قلب صنعاء القديمة حيث شكلت الموسيقي والاضواء والبيوت الصنعانية ذات الخصوصية المعمارية خلفية نادرة المثال، في ليلة ربيعية دافئة. كانت الفضائية اليمنية تبث الاحتفالية الي كل متابعيها في الداخل والخارج واستطاع الذين لم يسعدهم الحظ حضور الاحتفالية ان يتابعوها دقيقة بدقيقة، وهم في بيوتهم وان كانت الفضائية قد فشلت كعادتها في النقل الخارجي، الامر الذي جعل شكاوي الناس منها في ذلك المساء تصل الي عنان السماء فقد كانت كاميراتها الجامدة ـ كما يقول العشرات ممن تابعوا السهرة ـ تتركز علي بعض واجهات البيوت في اضاءة رديئة وصوتيات تعجز عن نقل هذا الحدث الفني الرفيع الذي بلغ مستوي الحلم وجمع بين موسيقي المعمار وموسيقي الاوتار في لحظة زمنية غير مسبوقة للقاء الشرق والغرب في حوار انساني ثقافي هو الارقي والاجمل والاقدر علي اقامة الجسور الثابتة لعلاقات لا تنفصم عراها.
كان لا بد ان يأتي بتهوفن الي صنعاء وان يأتي موزارت وآخرون، وان يخرجوا من قبورهم ويركبوا بساط الريح الجديد الذي لم يعرفوه في ازمانهم وان يشاركوا في تحية هذه المدينة العريقة التي حافظت علي تراثها الانساني ورفضت ان يكون الاسمنت بديلا عن الآجر والاحجار وان تساوم علي خصوصيتها التي تمثل في الحقيقة جوهر الخصوصية الوطنية لابناء هذا البلد الذين يسعون الي الجمع بين الاصالة والحداثة والي ان يكونوا جزءا من العالم المعاصر من دون ان يتخلوا عن قيمهم وتقاليدهم الكريمة او يفقدوا التواصل الحميم مع الانجازات والتجارب المضيئة في تاريخهم الضاربة جذوره في اعماق الزمن التي ترجعها احدث الحفريات الي خمسة آلاف عام.
ولعل ابرز ما في هذه الاحتفالية من الناحية السياسية ان رئيس البرلمان الالماني بكل ماله من مكانة قد اختار ان يرافق الفرقة الموسيقية وان يحرص علي حضور جميع فعاليتها وان يري بعينيه ما تتميز به صنعاء التاريخية من حضور ساحر وما يحتفظ به ابناؤها من دماثة خلق وحضور انساني ينفي عنهم وعن جميع ابناء اليمن ما تشيعه الاطراف المعادية من اقاويل كاذبة ومغرضة عن بدائيتهم وتخلفهم وقسوتهم في التعامل مع الآخر.
وقد همس في اذني احد مرافقي رئيس البرلمان انه سبق له ان شهد عشرات العروض الموسيقية في ألمانيا وفي غيرها من الدول الاوروبية لكنه يعترف بمحبة وصدق انه لم يشهد ما هو اروع من هذا العرض الذي يقام في الهواء الطلق وعلي خلفية من بيوت هذه المدينة الفاتنة. وقد وعد ان يعود اليها ثانية وثالثة مع افراد عائلته وعدد من اصدقائه.
وفي هذا القول اشارة غير مباشرة الي هؤلاء الذين يشغلون انفسهم بالحديث عن التكاليف المادية وكم خسرت البلاد او كم ربحت وكأن الحياة تجارة وشطارة.. ولا مكان فيها للعلاقات الدولية المتقدمة او للفن الرفيع الخالي من الابتذال وهز البطون والنهود. ومن المحزن ان هناك من ابناء هذه البلاد من يستكثرون علي وطنهم الموصوف من اعدائه بالتخلف والتعصب ان يدخل عصر الاوركسترا والسيمفونيات بموسيقاها الرائعة النظيفة والخالية من كل ما يخدش الحياء او يثير الغرائز.
تأملات شعرية:
لم يعد في فمي ما يقول
لم يعد في يدي ما تقول
لم يعد في الكلام الذي كان اطول من عمر احزاننا وفواجعنا
ما يقول!
ايها الزمن ـ اللغز
والبشر ـ اللغز
هذا اوان البكاء علي طلل الكلمات
اوان الافوال!