الإثنين, 29-أبريل-2024 الساعة: 09:46 ص - آخر تحديث: 01:15 ص (15: 10) بتوقيت غرينتش      بحث متقدم
إقرأ في المؤتمر نت
المتوكل.. المناضل الإنسان
بقلم/ صادق بن أمين أبوراس رئيس المؤتمر الشعبي العام
المؤرخ العربي الكبير المشهداني يشيد بدور اليمن العظيم في مناصر الشعب الفلسطيني
أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
بنك عدن.. استهداف مُتعمَّد للشعب !!!
راسل القرشي
7 يناير.. مكسب مجيد لتاريخ تليد
عبدالعزيز محمد الشعيبي
المؤتمر بقيادة المناضل صادق أبو راس
د. محمد عبدالجبار أحمد المعلمي*
«الأحمر» بحر للعرب لا بحيرة لليهود
توفيق عثمان الشرعبي
‏خطاب الردع الاستراتيجي والنفس الطويل
علي القحوم
ست سنوات من التحديات والنجاحات
أحمد الزبيري
أبو راس منقذ سفينة المؤتمر
د. سعيد الغليسي
تطلعات‮ ‬تنظيمية‮ ‬للعام ‮‬2024م
إياد فاضل
عن هدف القضاء على حماس
يحيى علي نوري
14 ‬أكتوبر.. ‬الثورة ‬التي ‬عبـّرت ‬عن ‬إرادة ‬يمنية ‬جامعة ‬
فريق‮ ‬ركن‮ ‬الدكتور‮/ ‬قاسم‮ ‬لبوزة‮*
‬أكتوبر ‬ومسيرة ‬التحرر ‬الوطني
بقلم/ غازي أحمد علي*
قضايا وآراء
بقلم-الدكتور مروان الغفوري -
لان التاريخ ليس اكثر من قصة دين( رؤية مختلفة للتغيير)
لعلّ قول " زيد بن عمرو بن نفيل " حين وقف بين ظهراني القوم في مكّة معلناً : يا أهل قريش ، ما منكم من أحدٍ على دين إبراهيم غيري " تسلّط الكثير من الضوء على الحالة الاجتماعية و الروحية لمجتمع مكّة ـ و الجزيرة العربية جمعاء ، التي دفعت مثل هذا الرجل المتحنّث بعيداً عن معاشات مجتمعه بكل تنويعاتها .. بل لعلّها تقودُنا إلى تصوّر الوضع الروحاني ـ الانساني العالمي ، الذي بلغ ذروة انحطاطه في القرنين السادس و السابع الميلادي .فلم يكن حالُ الجزيرة العربيّة الانساني رغم قسوة الضمائر فيه و انعدام شبهِ كامل لمفهوم " إنسان " في ظل انتهاكٍ سادٍ لعلامات الفطرة ، بأسوأ من حال غيرها من شعوب الأرض " كما يقول أبو الحسن الندوي في " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " " بل على العكس ، مثّلت الجزيرة العربية المعقل الأخير لهشاشة الضمير الاجتماعي و الانساني ! كانت هناك بقايا الحنيفيّة تتمثّل في بعض دعاةِ الرشاد و التغيير في المجتمع المدني العربي ، أشار إليها القرآن في سورة الزمر .جاء في أسباب النزول ما أخرجه الواحد وأبوالفرج أن قوله تعالى : " والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عبادي. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب". سورة الزمر أية 17 - 18 . نزل في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يوحدون الله عز وجل هم : زيد بن عمرو بن نفيل ـ وأبو ذر الغفاري ـ وسلمان الفارسي ... أولئك الذين هداهم الله بغير كتاب ولا نبي !

كما أنّ الطبع العربي الرجولي و الانساني حفظ للمجتمع العربي البدائي ـ رغم انحطاطه الحضاري ـ بعض معالم " الانسان " ، فكان الكرم ، و النجدة ، و العفّة ، و الفروسية ، و الحميّة ، و غير تلك الوشمات الروحانية ... كانت تمثّلُ مفارز غير صقيلة ، و محاضن أو نويات محاضن لنشوء تغيير اجتماعي عالمي يبدأ من أرض العرب ـ الأكثر روحانية بين سائر بلدان الأرض . تلك الصفة الروحانية العربيّة نالت شهادة النبي الكريم فيما بعد حين قال " إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق " ..! فقد كان القرنُ السادس الميلادي " مخاضاً " لتغيير كبير ، يطال كل جزئيات الانسان ، و يعيد ترتيب أجندة الحضارة و الروح من الأبجديّة الأولى حتى منتهاها .. بمعنى أن التغييرَ كان مطلباً جماعيّاً ـ و حتميّةً حضارية تقتضي " نقض " كل عوالق الذهن و الممارسة ، و تبني " ميداناً " جديداً لانسانٍ جديدٍ في الروح و المادة . و يرفضُ التغيير ـ باعتباره منهجاً بديلاً ـ اعتبار التشوّه الحضاري جزءً " فكريّاً " أو اعتباراً " ماديّاً" ، بل أكثر من ذلـك .. إنهُ نقضُ الواقع المعاش ، و إعادة " خلقه " وفق البنية الأصلية الثابتة " الفطرة " ...
و لأنّ التأريخ ليس أكثر من قصةِ " دينٍ " و صراعٍ أزليٍّ حوله ، فقد ظلّت آثار تعاليم الأنبياء تربط العرب بالسماء عن طريق " وسائط " غير منطقية ، و تحكم شريعتهم ، حتى تلك التي انتهكت الحرمات ـ فهي من " الدين " ـ أيّاً كان لون هذا الدين و شكله ..و في الوقتِ نفسِه ، و حيثُ كانت الانسانية تلفظُ آخر أنفاسها ، و تضعُ حتميّة " التغيير " أمام أعين الرائي المصلح ـ كانت المجتمعات العالميّة تتخبطُ في " تديّنها " فتسفك ، و ترهبُ ، و تذبحُ " الآدمية " باسم الآلهة .. و قد مثّل القرن السادس ، و من خلفه ، القرن السابع الميلادي ذروة التصدّع الانساني ـ الحضاري ، و لعلّ التأريخ لا يبالغُ حين يذكرُ أن مئات الآلاف كانت تقتلُ في الهند كقرابين للآلهة و تموتُ من أجل البراهمة الذين تفرّدوا في الطبقة الأولى الناصبة باسم الإله القدير ، بينما تمايز الشعبُ من خلفهم إلى " شترا ـ ويش ـ شودر " ، و هم رجال الحرب ، و الزراعة و الخدمة ... حيثُ تمثّل طائفة الخدمة فصيل المنبوذين باسم " الآلهة " ـ وفق القانون الديني المرجعي " منوشاستر " ، و امتازت الآلهة بشرهٍ لا ينضب للدم ، و الخمر و النساء ، حتى كانت تمثّل في تصوّر المجتمع آنذاك واحدةً من الكوارث الطبيعيّة التي تأكل الأخضر و اليابس .. و في المجتمعات الأنجيليّة كان مؤتمر نيقيه " الديني " يحدِث شرخاً في طرح تصوّره الجديد عن المسيح ، الأمر الذي قاد المجتمعات القبطية إلى الاقتتال في المصاطب و الشوارع ـ و الأزقة .. باسم المسيح ، و " الدين " المسيحي . و أدل شاهدٍ على ذلك هو مأساة الأمبراطور البيزنطي الطيب " موريوس " في سلسلة الصراع على عرش المسيح ، و ما تلا ذلك من رعبٍ و قتلٍ حتى كانت الجثث ـ كما يقول "جيبون " ـ تملأ الشوارع ـ في الوقت الذي كان فيه النبي الكريم " محمد " عليه الصلاةُ و السلام شاباً يافعاً في طور المشاهدة و التشكّل ـ و الرعاية الإلهية ..و العالمُ من حلوه يصطخبُ من أقصاهُ إلى أقصاه ـ و يهدمُ ما تيسّر له من " الانسان" باسم " الدين ـ الآلهة ! و لم تسلم أمبراطوريات الأكاسرة من هذا الانحطاط ـ بل مثّلت هي الأخرى مرحلةً أشبه بالنضج اللإنساني المطلق ـ تحت ظلّ معبودهم " النار " ..!

حالة الاحتضار كانت هي المعلَـمَ الوحيد لمجتمع الذروة المنحطة ! و من هنا كانت كل التباشير تدلل على أنّ اصلاحاً جذريّاً قد آن أوانه ، و جهر اليهود في جزيرة العرب بأن ميعاد نبيّ يأتي ، يتّبِعونه ... فيقتلون الناس معه قتل الشاة ، و البعير ... ! هنا اكتملت أجندة " مطالب التغيير " ، و أصبح الغدّ المغاير للأمس حتماً لا يقبلُ المواربة و التواري ـ حفاظاً على النوع البشري ، و وثاقه الانساني المحتضر !

و ماذا بعد ؟

لم تمضِ على نبوءة " ورقة بن نوفل " إلا أيامٌ قلائل ، و إذا بفتى قريش النقي يحملُ بين يديه حقائق الكون و الانسان ، و الآخرين ...فكانت ولادة مشروعٍ ضخمٍ يعيد ترتيب الانسانية وفق محددات عليا ، تحفظ حقوق الجميع ، و تسوق الانسانية نحو مهبطها الأول ، و تضع معالم الطريق الطويل واضحاً دون غبش أو رذاذ . قدّم المشروع الجديد أوراق تحرير الانسان من عبودية الانسان ، و صاغ في ذكاء مدهش أجندات تحمل في طياتها أسس المعاملات ، و منظومات العمل الاجتماعي و التعبّدي ـ الكهنوتي ، و العسكري ـ الحربي ، و علاقات الأجناس ببعضها .. بل تضع أحجار الاساس لبنية جديدة اسمها " الانسان " !
كان على النبي الكريم أن يخرج إلى الناس ـ بهذا المشروع ! يتحسس السؤال العريض : من أين أبدأ ، و كيف أبدأ ، وبمن أبدأ ؟ .. خيال مآتةِ العثرةِ الأولى يرجفُ تصوّره ـ فهو بين ثنائية غائرة الحواف ، التلّقي ـ و الواقع المعاش ! فكسر دائرة التساؤل و الحيرة ، و خرجَ بمنهجه الدعوي الذي صاغته قدرتُه اللامتناهية على إدارة الحوار ، و تكييف أدوات اليوم و الليلة من أجل الدعوة ، و صدق الضمير الحي الذي يحمله ، و كونه طبيباً للنفوس قبل أن يكونَ معلّماً دالاً على الجادة . و ما نطق عن هواهُ قط !
أصبحت قريشُ ـ المجتمع الذي وجد نفسه في مواجهةٍ لم يكن يحبّ التورط فيها ـ مع هذا النهج الجديد ، و الخطاب الفذ ، لتجد نفسها أخيراً أمام جيلٍ يولدُ من رحم الغيب ، قوياً ! أمام جيل من النسق الفكري و الذهني ، يخالِفها في كل شأنها ـ و إن لم تكن ولادة الصدور التي ستحملُ هذا النسق ، قد آنت بعد ... إلا أنها أدركت بمحض حساسية أمبراطوريتها المفرطة في رؤية الذات ، أن عقدها الاجتماعي سينفرط أمام هذا الخطاب الواسع الرحاب ، و المغدق بالطموحات و قيم التحرر ـ و المتلمّس لدخائل النفوس فلا يكاد يخطؤها في صغيرةٍ من شأنه و شأنها !
بدأ الخطاب الروحي و الاجتماعي الجديد يحقق نجاحاته في مجتمع مكة ، و انطلق من الصفوف الخلفية حيثُ طائفة المنبوذين ، و" شترا " ، ومن حيثُ تأكل زوجُ " شيفا" الصبايا قرابيناً للآلهة ! و بدأت علامات التصدّع في البنيان الأسري تظهر ـ و ليس لقريش أنْ تسمح بمثل هذه التململات ! فهي قبلة التجارة و المركز الديني للقبائل قاطبة ً ، كما أنّها تمثّل تجمعاً سياسياً و مقصداً ثقافيّاً مهماً ـ و أي حركة اضطراب أو تصدّعٍ ستصيبُ أول من ستصيب ـ أرباب المال ، و الاتحادات التجارية المتواجدة فيها ـ و قد تؤثر الحركة التغييريّة الجديدة على معدلات توافد الزائرين من تجار و غيرهم إلى مكة ، بسبب تفاقم القلاقل ، و الاضطرابات ..

إن أمبراطورية التجارة لا تسمح بوقتٍ و لو هامشيّ في مراجعة الذات ، أو استجلاء ما تخفيه " مواعظ " مجموعة من الدراويش يعيشون عالماً حالماً من المثل دون أدنى رؤية لخطورة ما يمكن أن يجنيه تصوّرهم الساذج للتعاملات البشريّة الكبرى على أمن المجتمع و بنائه الاقتصادي الشامل ، بل و مركزيّته الروحية ـ من صدوعٍ و شروخ ! لم تبرح قريش تردد هذا المنطق التليد ـ الحديث ، و في سبيل تشكّل هذه الرؤية بمناطاتها الذاتية ، و أبعادها الأمبراطوريّة ، قطعت السبيل على كلّ من يمكن أن يقلق الحلف التجاري الأكبر ، و جماعات الضغط في مجتمع مكّة ـ فحرصت على إقامة تحالفٍ كبير يضم القوى الفاعلة في المجتمع المكّي ، و التي يمكن أن تتضرر مباشرةً بفعلِ هذه المنظومات الفكرية الجديدة ،ليس بسبب قوة أصحابها المعدودين في درجة " الأراذل ـ المنبوذين " ، و إنما بسبب ما تحويه هذه المنظومة من " مغالطات " برّاقة ـ وفق تعبيراتها ـ قد يلتف حولها الناسُ غير واعين للخطورات الكبرى التي ستنجمُ عنها !

و لأن العنصر " الخارجي " لاعبٌ مهم في القضايا التي يكون ميدانها الفكر أولاً و أخيراً ، لذا كان لا بدّ من استدعائه ثم استعدائه ـ خشية أن تتسرب إليه بعض الأجندات الواقعية لهذه الجماعة ، مما قد يشكّل و لو جزئيّاً رافداً خارجيّاً ، و إن لم يكن حقيقياً ، فهو على الأقل إعلامي ... و لأن هذا الفتى المكّي يجيد " تسويق "منتوجه الفكري بطريقة ساحرةٍ ، مدعّماً بقدرة بيانيّة فريدة ، و مستخدماً أهم وسيط معرفي لنقْل نتاجه ، و معتمداً على الأداة الأكثر عمقاً في الوجدان " الخطاب البليغ " ، أو على حد تعبير الوليد بن المغيرة ( سحرٌ يؤثر ) بمعنى يفضّل في الذاكرة السمعية و الوجدانية على غيره من الخطابات ( السحر ) ـ و هو الاعتراف الذي قاد الرجل الأكثر كفاءةً ماليةً و تجاريةفي مكة " الوليد " إلى الانسحاب و الانزلاق عن غير وعي إلى درجة الـ " الشرود " أو " التسامي " مع محتويات النص القرآنية الحامل للوعي الجديد . هنا كان على سائر أقطاب الحلفِ الدار ـ ندويّ أن يتداركوا مثل هذا الانقلاب الوشيك و التغير الطارئ في تصوّر الحليف التجاري الأكبر المسمّى عند مكة و العرب بـ " الوحيد " ..فقد كان يكسو الكعبة لوحده ! ... و بدت أولى خطوات انهيار الحلف في الظهور ... لولا أن تداركوها !

النبي الكريم ُ يرى أنّ أدوات الخطاب الروحي و الاجتماعي الذي ينتهجه قد اكتملت ، و أنّ حقائقه مشروحةٌ بتفصيلٍ فيه من الذكاء و العلْميّة ما يكفي لاحداث انقلاب فكريّ عالمي ـ فقد استطاع البيان القرآني و التفصيل النبوي أن يطارد كل تلكُّآتهم و اعتذاراتهم عن الاتباع ، و ناقشهم بكل هدوء و علميّة عارضاً حيثيات رفضهم ، و سارداً في أسلوب عبقريٍّ حججهم و فلسفاتهم ، حتى أوصلهم في نهاية كل خطابٍ إلى واحدةٍ من حقيقتين تتمترسان خلف هذا الجحود و الانكار ، بل و الرغبة في اقتلاع الآخر المخالف عقديّاً و من حيث المبدأ ـ و هاتان الحقيقتان هما : ـ

1- " إنّا وجدنا آباءنا على أمّة و إنا على آثارهم مقتدون " ...فحين تسيطر ثقافة التقليد و التبعيّة على ذهنية مجتمع ما ، كما هو الحال في مجتمع مكة ـ قريش يصبحُ التغيير جنيناً مشوّهاً ، و ضريبةً في ثياب مكوس ـ و تطالُ المغالاة طرفي النقيض ، فالتغيير يتحوّل من مقام النبيّ الحنون ، طبيب القوم ، إلى المجالد المستميت ، الناقض لكل شيئ ـ و قد يستهلك نظريته التغييرية في الرغبة في إلغاء الآخر كليّة ـ كما حدث حين تحوّلت الفلسفات الليبرالية العقلانية للمعتزلة إلى أيادي جزّارين على أيدي مستشاري المأمون ، و مقربيه ، في مسيرةٍ مقيتةٍ في تأريخ الفكر الاسلامي .

و إذا كان الاسلام ـ في تصوّري ـ قد استطاع أن يبنى امبراطوريته الكبيرة في القلوب و على الأرض ، فإنه في الوقت نفسه لم يسطع أن يكيّف الفهوم التي واجهها بادئ الأمر في مجتمع " مكة ـ المنكفئ على مصالحه الذاتية ، و فلسفته العقديّة الدراغماتية " حسب منهجه المطلق ، و أن يفتح عقولهم على آفاقه الكبيرة التي أوجدت من المعتنقين الأولين عدّائين يقطعون المسافات الطويلة في لمح العين عندما تحققوه كما ينبغي ... بل أكثر من ذلك ، فلقد ظلّت " التقليدية " مسيطرةً على تفكير ـ حتى ـ المجموع المسلم نفسه فيما بعد ، حتى أوشكت أن تكون سمةَ المجتمع الناطقةِ باسمه ، إلى الحد الذي مكّن المستشرق "رينان " أن ينال جهاراً من الذهنية المسلمة حين وصفها أنها غير علمية و غير جادة ، و أنها تتواصل مع الثقافات الأخرى تواصلاً صراعيّاً ، و إذا تلقّت ثقافةً عقلية فلا تقدر على هضمها ..و أنا هنا لا أشد قبضتي لأهوي بها على جبهته كما فعل كل دارسي التأريخ الاسلامي الفكري ، بل أقفُ إلى جوار " رينان " في بعض ما ذهب أليه ، و يطيبُ لي أن اذكر في هذا المقام ما جاء في " مقابسات " أبي حيّان التوحيدي ، إذ يعرضُ في ذلك إلى الذهنية التقليدية الكهنوتية ، تلك التي تفتعل مقدمات شكلية للصراع مع الجديد ، و ترفضه بالمجمل .. فقد نقل عن ابن ثوابة ، أحد كتاب الدولة العباسية ، أنه قال : قيل لي أنت ذو عقلٍ و فطنة ، فلو قرأت المنطق و الهندسة ، و تدبّرت إقليدس ... قال : فجيئَ إليّ بمهندسين أحدهما مسلمٌ و الآخر نصراني ، فقلت للمسلم : اخطط ! فذهب يخطّ غير متعاظمٍ ، و هو يقول : هذا خطّ مستقيم لا عرض له ! فقلت له : اتقِ الله ، إنما الصراط المستقيم طريقُ الله ، و والله ما أردت بقولتك هذه إلا ضلّتي عن الدينِ والجادّة ِ ،و تالله لا أتعلمُ الهندسة و الكفر ما حييت ـ و هذه وصيتي لأولادي من بعدي ألا يقربوها ما دامت تدعوهم إلى الشرك بالله ..!
الماكر " أبو حيّان " عرض بذكاء الثقافة السائدة في عصره ـ تلك التبعية التي تمثّل العائق الأول أمام دعوات التجديد و الاصلاح ، و هي من ترسبات المجتمع الأول في " مكّة " ـ لم يستطع الذهن المسلم أن يتخطّاها ، مما كان سبباً في حدوث انتكاساتٍ كبيرةٍ في صيرورة المدّ الاسلامي الحضاري ، و تجنّسه الواقعي بضرورات و إصابات المجتمع . فالتبعيّةُ تلغي الحدود الدنيا من الاستعداد الداخلي لخوض غمار تجربة جديدة وليدة ـ أو التعامل معها بمنطقيّة و حسم ..كما تحوّل المجتمع إلى مسطّحاتٍ بشريّة تعيشُ على صورة مكررة نمطيّة . و هذه الظاهرة ، هي الأخرى ، بحاجةٍ إلى تقصٍّ ذكيٍّ ، فالعقل البشري هو كائن تساؤلي ، لا يؤمن بالركود مالم يكن هذا الركودُ ديناً تفرضه سلطات خارجية ، و أخرى داخليه من مادة العقل الثقافية نفسه ، و تحرسه نظريات ارتقت بفعلِ فاعلٍ إلى مستوى الحقائق . إنّ غياب المفاهيم العليا للضرورات و الحتميّات ، و تعويم " التقشّف " المعرفي ، و انحسار مدى التحدّي عن مستوى الدافع الميكانيكي المحرّك ـ و تقهقر معادلات الحركة من أجل بقاءٍ أفضل ، كل هذه العوامل تساعدُ بطريقةٍ ديناميّةٍ في تجذير مبدء " السلبيةِ" ، و تسهمُ بفاعليةٍِ في طرح النموذج النمطي كـ " نهاية لشكل الحياة الاجتماعي و الروحي و الثقافي " .. و من هنا ، فإنه لحقيقٌ بأن تضع الحركات الاصلاحية التغييرية في اعتبارها إعادة صياغة التحدّي أمام المجموع المتلقّي للخطاب ، و عرض السائد المتبّع كمقدمة منطقية للهزيمة ـ و لا بأس من تسويق " غولَ " الآخر ككائنٍ يرابط بالمجتمع ليقتلعه ـ و هو في حالة مجتمعاتنا المعاصرة يتمثّل في فلسفة " العدو الخارجي المتربّص " و " التحدّي الصناعي المادي ... كل هذا قد يساعدُ في احداث اضطرابٍ في الواعية الجماعية ـ، مما يمكّن لاحقاً و تحت سطوة التوعيّة الجماعية من إيجاد جيلٍ جديد مقاوم تحت لواء " مشيئة النخبة " ..!
2- أما الحقيقةُ الثانية فتتمثل في ثقافة: ـ " لولا أنزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم .."..!إذن ، فهنا المعنى الحقيق لرفضهم المطلق و مناهضتهم الأبديّة /، الدافع الاقتصادي المادي لجماعات الضغط على صانعي القرار من كبار قريش و المحيطات المجاورة ، أولئك الذين يمتلكون تكييف و توجيه المجتمع نحو المشيئة العليا للارادة السياسية في سبيل خدمة رأس المال و حركته . و هو دافعٌ مهم لا يقلّ أهميّةً عن الدافعِ التحنيطي انكفائي ، الذي لا يقبل التغيير .. ليس لأن التغيير خطرٌ عليه ، بل لأن الدافع الاقتصادي هو الجدير بالاتباع و التقصّي ، و الاعتناق . فالتعامل المادي يعرضُ كل منتوج على ميزان الربحيّة والنفعيّة ، و من هنا كان التحوّل الثقافي محض " ترف " هم في غنى عنه .
الدينار لوحده هو الذي يصنع المصير ! .. فالنبوّة ـ التغيير في عرف سادة "قريش" تتشكّل في معنى آخر غير ذهني . فهي " سلطةٌ" مهمّة ، و " حصانةً " بالغة الخطورة ، تتيح لـ " منتهجها ـ النبي " الفرصة لتحقيق فتوحات اقتصاديّةٍ مهمّة في دوائر الربح ـ ثم هي تمنحُ إضافةً فاعلةً إلى السلطة الروحية لقريش على سائر الأعراب ، و بناءً عليه فظهور هذا الانتصار الثقافي و العلمي المهم على يد فقيرٍ من مكّة ـ و من دائرة " المعارضين " لنموذج السادة السياسي الأخلاقي ، سيجهضُ الفكرة في مهدها ، بل قد يكون مدعاةً للمحاكاة و من ثم المنافسة القوية ّ في حال اتباع هذه الوسيلة العبقرية في السيطرة الروحية و الثقافية على العقول من قبَل التكتلات الثقافية و الاقتصادية المجاورة ، مثل يثرب التي تعيشُ نظاماً مجتمعيّاً متنوّعاً و متمايزاً من الأوس و الخزرج ، و النصارى و اليهود ـ حيثُ كانت أكثر رحابةً سوسيولوجيّة ، فقلد كان نظام التعاملات المدنية في يثرب يخضعُ في كثيرٍ من بنوده إلى القانون الروماني ، و كذلك الفلسفة اليهودية ـ والأخيرة كانت تسيطر على التوجّهات اللاهوتية العليا في ذهنية المجموع اليثربي ..!
في " شروط نهضة المسلمين " استعرض روجيه جارودي تداعيات " التبعيّة " الذهنيّة و الفكرية ، و عرضها بطريقةٍ مجسّدةٍ لحالةٍ واقعيةٍ فعلاً ، حاصراً أسباب التدنّي الحضاري العربي ـ الاسلامي إلى ( تبعية الماضي ، تبعيّة الغرب ) .فالنموذج المقدّس المقدّم بأعين الذين ماتوا يحوّلُ الاسلام بأهليته الحضارية إلى بركةٍ آسنةٍ ليس فيها موطئ قدمٍ للعطاشى الجدد . كما أنّ تبعية الغرب تبرزُ جيلاً مسخاً فاقداً لمقومات التأهيل الذاتي ، يسيرُ وفق هوى قشور الآخرين ...و من هنا فقد حدد رؤيته في العملية التغييرية كفلسفةٍ منشؤُها المجتمع ، بحاجةٍ إلى روّاد عرضٍ ليسو من فصيلٍ أيٍّ من الجماعتين الأوليين " الماض ـ الغرب " ..
هذه النظرية الحصرية ، رغم منطقيّتها ، تنبع من المجتمع باعتباره محكّ التغيير ، و أداته و غايته . ملغيةً الدوافع الجماعية العليا ، و المسببات الخارجة الغالبة ، ذات التوجّه المناهض للتغيير ، خدمةً لمشروعها و فلسفتها . ففي مجتمع مكّة ، لعبت " التبعيّة " و عبادة الماضيِ دوراً مهماً في تحديد نوعية الوعي الجماعي المكّي، إلا أنّ مثالية عرض المنهج الاسلامي التغييري ، و ذكاء ملامسة الأداة الخطابية للمشترك العام و ردّه إلى الفطرة ، بما يحقق خلق حالةٍ عامة من الشعور بالانتماء و لو جزئيّاً إلى مادة هذا المنهج التغييري ، بل و الحاجة الحتميّة إليه ..كل هذا كان كفيلاً بإحداث انقلابٍ لصالح الفطرة العامة المعنيّة ابتداءً بالخطاب التغييري . لكن ما نلحظه من تتبعنا لحالة المجتمع المكّي في فصول مصادماته ، حتى مستوى الرفض المسلّح ، لهذا المنهج الجديد يجعلنا نفكّر بمسببات أخرى غير التبعيّة ، و لا يصنعها الوعي الجماعي العام . و لنا ذلك ، حين نجد الآلة الاقتصادية ، و من خلفها الدافع السياسي البحت ، تحرّك دفّة الصراع و المواجهة لمصالحَ غير تلك المعلنة في قولهم " ما نعبدُ إلا ما يعبدُ آباؤنا " .. فالأمر إذن لا يتعلّقُ البتةَ بفلسفة عبادة ٍ، أو اعتناق شديد الحنوّ على قلوبهم ، فحالة المجتمع الروحانية آنذاك ، تلك التي وصلت إلى أدنى مستوى إنساني تردّ على هذه الاعتذارات الدبلوماسية . و هنا تبرزُ أمام أعيننا مواسمُ التجارة الضخمةِ ، يتولى إدارة شأنها كبار المقاومين لهذا الدين الجديد . فحين نقرأُ أنّهم حرّموا على الوفود التي تزور مكّة أن يطوفوا بالكعبةِ إلا بثيابٍ قرشيّة الصنع ، ندركُ كيف تستخدمُ كل الوسائل الاستثمارية المتاحة ، و حتى " المقدّس " نفسه ، يصبحُ على أيدي صنّـاع القرار إلى صفقةٍ تجارية تجري إدارتُها بذكاءٍ .. هذا الشرهُ الأمبراطوري ـ الكمبرادوري لا يمكن مواجهته بخطابٍ مثالي طوبويّ و حسب ، بل قد يجعل الرهان على تغيير الوعي ، كوسيلةٍ لتغيير نوع المجتمع كلّه ، مستحيلاً أو محاربةً لطواحين الهواء .
استنفد الخطاب الاسلامي التغييري كل وسائله ، و كان الحصادُ بعد أكثر عشرمن سنينَ مرّاً ! فلا يمكن لحريّة فكرية و ثقافيّة أن تنشأ في ظل سيطرة رؤوس الأموال على مقاليد الأمور ، و تحكّم السياسة في صناعة التوجه الفكري ـ و تداخل السلطات ، و تكأكُؤها ، و سيادة ثقافة " التقليد " باسم " المقدّس . إن حالة قريش تلك أشبه بحالة مجتمع معاصر مغلق ـ وما أكثر الأمثلة فالصورة هي هي ، لم تتغير قط . و لنا أن نتصوّر أنه في ظل تلك الكهنوتية السياسية التي تتحكم في مصائر العباد لا يمكن أن يشهد النوعُ الانساني تطوّراً أيديولوجيّاً أو ثقافيّاَ ـ بل يصبحُ بعد حين من الزمان في حسابات الموتى . فالتصادم و التدافعُ هو المحدد الأكثر أهميّةٍِ لنشوء حضارة على أرضيةٍ ثقافية خليقةٍ بأن تكون لبِناتٍ في تكوين الجسد الاجتماعي النهائي . و في ظلّ القمع ، يكونُ الحديث عن أي تحديثٍ أو تغيير محض هراءٍ و شنشنات لا تسمنُ و لا تغني !

إنّ قليلاً من الوعي في العقليات التي تصنعُ القرار الثقافي أو السياسي هو ضرورةٌ ملحّة . لأن لغة " لا تسمعوا لهذا القرآن " التي اتخذتها قريشٌ يافطةً في مداخل مكّة ، و نشرتها في إذاعاتاتها المتنوعة على رؤوس الملأ في مواسم الحج و التجارة ، كل تلك اللغات لم تستطع أن تلغيَ وجود هذا النموذج الفكريّ المخالف ـ للعرف و السائد . و كان أن خرج اللاجئون الأولون إلى المساحات الأكثر حريّة في دول الجوار مثل " يثرب " ، و " الحبشة " .. و عادوا بعد ردحٍ من الزمن فاتحين ، و منتصرين ـ ليس بقوة السلاح و الاتباع ، و إنما بجذريّة الحقيقة التي يحملون ، و نوعية التغيير الذي يبشّرون به ، و اعتمادهم على صدق الضمير لديهم ، و تضعضع المخالف لهم من الداخل ـ و مستندين إلى الخارطة الإنسانية العليا التي تتيحُ لهم تقديم المشترك العام من أجل الانسان العام بعيداً عن لونه و طبقته الاجتماعية ـ و فقط ، لكونه " إنسان " !












أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد
معجب بهذا الخبر
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر
المزيد من "قضايا وآراء"

عناوين أخرى متفرقة
جميع حقوق النشر محفوظة 2003-2024