التنظيم الذي تلون بتراب اليمن
الخميس, 23-أغسطس-2007عبدالقادر باجمال-الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام - هذه مناسبة لها دلالاتها التاريخية العظيمة ولها أثرها الكبير على الحركة السياسية في اليمن، وعلى وجه الخصوص منذ اللحظة التي عرفت شخصية وطنية رائدة في مجال العمل السياسي والإداري، وهو الرئيس علي عبدالله صالح.
كانت الثورة اليمنية منذ البدء بحاجة إلى أداة تنظيمية تستطيع هذه الأداة أن تقود جموع الشعب نحو غاياته الثورية والوحدوية، تقوده نحو تقوية مداميك الجمهورية، ونحو تقوية عرى الإنسان اليمني الخلاق بينه وبين نفسه، وبينه وبين الآخرين.
كانت الساحة اليمنية ساحة محتشدة فيها كل أطياف العمل السياسي القومي والإسلامي واليساري الاشتراكي، على وجه الخصوص، هذه التيارات الثلاثة كانت هي نتاج طبيعي لعملية امتدادات فكرية وسياسية لكل قوى الثورة اليمنية منذ عام 1936 إلى اليوم، مروراً بثورة 48م ثم 55م، ثم 62م، ثم الاستقلال الوطني.. هذه كلها شكلت مجموعة كبيرة من تيارات العمل السياسي بكل تلاوينها السياسية والفكرية، جميعهم كانت مقاصدهم، وغاياتهم نحو تقوية أواصر الجمهورية وتعزيز حضورها ووجودها في الحياة، وجميعهم كان مقصدهم وغايتهم النهائية هي الوحدة اليمنية المظفرة.
وخلال هذه المسيرة للقوى السياسية جميعها كان هناك إشكاليات البناء التنظيمي داخل كل تنظيم، وعلى وجه الخصوص أنه سيطرت على فكر الثورة وعلى سياسات الثورة، بأن الانتماءات السياسية ليست لها صلة بالانتماء الوطني.
كان أمراً حذراً لما كان يجري في ساحاتنا العربية، ولما كان يجري في ساحات العالم الثالث، كان خوفاً من أن تؤدي التعددية السياسية أو التلاوين السياسية النهضوية الجديدة إلى تمزيق مجتمعي أو تمزيق سياسي في حياة الشعب؛ فبالتالي سوف يذهب كلٍ إلى مذهبٍ آخر، ولا زالت هذه النظرة ممتدة منذ أوائل الثورة حتى عشية الوحدة، إذْ كان هاجس التنظيم السياسي الموحد موجود بين الحزب الاشتراكي اليمني وبين المؤتمر الشعبي العام حتى شكلت لها لجنة سميت لجنة التنظيم السياسي الموحد.
كانت الفترة التي اعتملت فيها عملية البناء السياسي والتنظيمي الحزبي فترة كثيرة الحساسية، وكثيرة الارتباط، وخصوصاً عندما نأتي إلى مفاهيم تتعلق بمن ذا الذي سيقود الثورة، وسينهيها بالوحدة -الثورة الثانية في كيان الشعب اليمني التاريخي..
كان هناك رأيان أو أكثر من رأي، يمكن نقول إنه بمجرد أن تتخلى القيادات عن حكم أحد الشطرين تنشأ الدولة الواحدة.. هذا رأي.
والرأي الآخر يقول: إنه لن تقود الوحدة، ولن يقود الوحدة إلا تنظيم سياسي موحد من وجهة نظر اليسار –هذا التنظيم السياسي الموحد- هو ما أسماه بأداة الثورة اليمنية الواحدة.. ومن وجهة نظر التيارات الإسلامية إنه أيضاً إذا تحققت تيارات إسلامية في الحكم على مدى شطري الوطن، فإنه ستتحقق الوحدة تحت رايات الحركة الإسلامية.
وثالثاً: في الحركة القومية وعلى وجه الخصوص الناصرية وحركة القوميين العرب والبعث كان الأمر أيضاً له دواعيه إنه إذا تمكن القوميون من السيطرة على الشطرين فإنهم بذلك حققوا الوحدة.
لكن الحركة القومية أصابها ما أصابها في عام 1967م فأصبح هناك تحلل كيماوي داخل هذه الحركة، إذْ تراوحت هذه الكيمياء السياسية في الحركة القومية إلى من يذهب مذهب التيار الماركسي، كحركة القوميين العرب بشقيها الديمقراطي والشعبي، والجبهة القومية في الجنوب، وكذلك –أيضاً- التنافسات الشديدة في زعامة القطرين السوري والعراقي بين أخوتنا في البعث.
هكذا كانت التجربة واضحة أمام الرئيس علي عبدالله صالح ورفاقه الذين قادوا وأسسوا المؤتمر الشعبي العام.. صورة فسيفسائية لا شك فيها.. صورة مختلطة ليست واضحة الرموز، صورة انتقتها جزء مما يسمى بـ(السيرياليز) اللا معقولية في بعض الأحيان، لكنها صورة واقعية في كل الأحوال هي موجودة فوق الأرض ولا يمكن على الإطلاق أن نمحيها من الحياة السياسية الفاعلة.
ماذا حدث؟ حدث أنه من الصعب تجاوز فكرة أن وجود التنظيمات السياسية ربما تشكل خللاً في الوحدة بين الناس، وربما لا تضع الناس في مجرى العمل السياسي مجتمعين كما كان ينظر له من الزاوية الشمولية.
لكن الأمر كان يتطلب أولاً قبل كل شيء تجاوز مرحلة الإشكال، التنظيمات، الأطر، إلى الفكر، نذهب مباشرة إلى الفكر أولاً.. نجمع الناس إلى فكر أولاً، ثم بعد ذلك نظمه في تنظيم.
ولهذا بدأت عملية الحوار في عام 1982م، ربما هي بدأت قبل، لكن رسمياً تأطرت في ذلك الوقت، قبل لأنها أخذت أبعاد حوارية ليست مباشرة رسمية على طاولة واحدة، كانت لا زالت هناك ممهدات كثيرة للوصول إلى تجميع فكري يجعل الناس يدركون إلى أي مدى يستطيعون أن يقيموا تنظيماً له فكر واضح ومحدد.. فجاءت عملية الحوار حتى إنه ضُمَّ إلى هذا الحوار قوى سياسية في المعارضة –كما تعلمون- جاءوا من عدن مجموعة من الإخوان الذين كانوا في الجبهة وصدرت لهم صحيفة "الأمل" التي تمثل فكراً، الاعتراف بوجود فكر متنوع كان اعترافاً جيداً، وكان اعترافاً أصيلاً –بما معناه أصيلاً في الحياة الثقافية السياسية، أو في الثقافة السياسية للمجتمع اليمني وللسياسيين اليمنيين.
في (48م) اختلط الأمر بين تيار دستوري وتيار إسلامي ..الخ فإلى أي مدى نستطيع أن نقول إنه كان هناك فكراً واضحاً، لكن لعدم وجود الفكر الواضح تجاه حركة 48م؛ فقد شابتها الكثير من المشكلات أو على الأقل لم تكن مصممة تصميماً فكرياً وسياسياً كاملاً.
كانت فكرة الدستور معمولة على مقاسين مقاس نهضوي لا شك فيه، ولكنه أيضاً معمول على مقاس حجيات إسلامية كما هو معروف..
وبانتقالنا لعام 1982م والحوارات التي سبقت، انتهينا إلى إعلان الميثاق الوطني.. هنا تحددت معالم الفكرية تماماً في الفكر السياسي اليمني، تحددت الملامح تجاه قضايا وطنية كبرى، وأهم هذه القضايا الوطنية الكبرى فلسفة الحكم، فلسفة النظام، فلسفة الاقتصاد، فلسفة الاجتماع، أيضاً قضايا الوحدة كلها مجتمعة في داخل هذا المنظور الكلي، وكان هناك تجاذبات على الساحة اليمنية، إنه هل ننشئ نظيراً للحزب الاشتراكي في الجنوب حزب شمولي، أم أولاً وقبل كل شيء تتحدد ملامح العمل الفكري أما العمل السياسي فهو عمل أكثر اتساعاً من كونه عملاَ نهضوياًّ، ولهذا جاءت المؤتمرات وجاءت حلقات التثقيف ليوم الخميس، وجاءت حلقات التثقيف التي جاءت عبر معهد الميثاق ..الخ كل هذه أنتجت ما يمكن أن نسميه (فكر الوسط) الفكر الذي توصل إليه المؤتمر الشعبي العام بعد هذا الاحتكاك الكبير أو التمحور الكبير الداخلي والتفاعل الداخلي.
إذاً المؤتمر الشعبي العام جاء بهذا الفكر وانطلق منه فكر ميثاقي كان فكراً وسطاً مثل الأمة التي جاءت وسطاً.. لم تكن تخرج عن أبعادها الدينية، والوطنية، والقومية.. لم تكن منحازة على الإطلاق تجاه قضية من قضايا الصراع في ذلك الوقت التي كانت أصلاً مظللة بظلال الحرب الباردة، وبالتالي فإن تلوين الصراع الاشتراكي يعني الاتحاد السوفيتي ومجموعته، رأسمالي يعني أمريكا ومجموعتها، تلون بتلون القوى الكبرى المتحكمة في مصائر الشعوب، لكن التنظيم الوحيد الذي تلون بلون التراب الوطني اليمني والإنسان اليمني هو المؤتمر الشعبي العام فقط، وأقلها بوضوح، أولاً لسببين: السبب الأول إنه جاء نتيجة عملية كبرى في الحوار، ثانياً إنه ضم جميع القوى التي كانت منظوية في هذا الفكر أو ذاك تحت رايات مختلفة، سواءً كانت قومية، أو إسلامية أو ماركسية، أو يسار بصورة عامة، هذه كلها جعلتهم يخوضون معركة فكرية ليست عادية على الإطلاق، حتى عندما جاءت الوحدة وكان المؤتمر الشعبي العام حاسماً في هذه القضية. ونقول بكل وضوح إن الميثاق الوطني كان أكثر الوسائل لجميع الأحزاب وضوحاً في موضوع الوحدة اليمنية، ليس في موضوع الوحدة ككل، البعثيون لهم رأي في هذه القضية، الناصريون لهم رأي في هذه القضية، من ناحية فكرة الوحدة القومية.. لكن كوحدة وطنية يمنية كان واضح تماماً أن الميثاق الوطني كان واضحاً فيها وضوحاً تاماً.
وكذلك أيضاً كنا في الاشتراكي وكنا نعاني من خلل في فكر الوحدة، كيف نذهب إلى الوحدة والذي طغت فيه لفترة كبيرة جداً فكرة إن الوحدة سوف تقاد من قبل أدوات الثورة اليمنية، أي الماركسيين اليسار بصورة عامة، فإذا توحدوا –وهذا حصل في عام 1979م- بعد حرب 79م فإن الوحدة سوف تنجز مهامها وسوف توتي أُكلها وهذا كان في لحظة بدأ فيه أيضاً الانهيار في الجناح الدولي لهذه الحركة .. بدأت المشكلات الموجودة في بولندا، وبدأت حركة التضامن البولندية وبدأت المشكلات في ألمانيا، في داخل ألمانيا الشرقية حول مفاهيم الوحدة..
هكذا القومية الوطنية تفرض نفسها بقوة أكثر من أن تفرضها قضية نظرية الحزب الشمولي الواحد الذي يقود العملية.
أرجو أن أكون قد أوضحت الصورة التي ينبغي أن توضح حول مفهوم المؤتمر الشعبي العام وحول قيادته وإدارته للعملية السياسية عبر هذا الفكر، فكر يمزج مزجاً راقياً بين الفكر الديني والقومي، والوطني، والأصالة والمعاصرة، بما فيها الاتجاهات الليبرالية والاشتراكية، لكن الاشتراكية في مفهومها الاجتماعي العدلي وليس بالمفهوم الفلسفي، هكذا ينبغي أن يكون واضحاً تماماً عندما نناقش هذه القضية، وهي مجردة على كل حال في جميع محتويات الفكر الإنساني بصورة عامة، وموضوع العدالة الاجتماعية وغيرها.
* كلمة تمهيدية للمؤتمر الصحفي الذي عقده الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام.. الخميس 23 أغسطس بمناسبة ذكرى مرور 25 عاماً على تأسيس المؤتمر الشعبي العام.