مسؤولية رئيس مصر المنتخب في مواجهة بعض تطورات المشهد السياسي، لا يملك المرء سوى الدعاء والرجاء. الدعاء يتوجه به إلى الله أن يلطف بخلقه في ما يقضي به، والرجاء ان يتمكن من بيده الأمر من الوفاء باستحقاقات الأمانة التي يحملها. وإذ صرنا بصدد عهدة رئاسية جديدة في مصر، فقد فرغت لتوي من الدعاء، وأرجو أن نتوافق على مفردات الرجاء. (1) رغم أن الأمر شبه محسوم لصالح الرئيس مبارك في التصويت الذي يجري غداً، إلا أننا لن نستطيع أن نقطع بذلك إلا بعد الفرز النهائي والإعلان الرسمي للنتائج. بالتالي ليس بوسعنا أن نتحدث عن النتائج إلا من زاوية واحدة، هي مصير رؤساء الأحزاب الذين لن يحالفهم الحظ في المنافسة على المقعد الرئاسي. ذلك انه من التقاليد المستقرة في الديمقراطيات التي حاولنا تمثلها في الانتخابات الراهنة، أن رئيس الحزب الذي يخسر في الانتخابات، يقدم استقالته فور إعلان النتائج، كي يفسح المجال لمن هو اقدر منه على قيادة مسيرة الحزب وتحقيق النجاح المنشود له. وهو ما استبعد حدوثه في بلادنا، ليس فقط لان احتكار المناصب القيادية حتى في صفوف المعارضة تقليد راسخ، باعتبار أن القيادة السياسية في بلادنا قدر وليست اختياراً، ولكن لان بعض المرشحين الذين تنافسوا على مقعد الرئاسة كانوا هم رؤساء الأحزاب وأسرهم أعضاءها. ومنم من جمع بين الحسنيين، فكان القيادة والقاعدة في نفس الوقت، الأمر الذي يؤدي في حالة الاستقالة بعد الهزيمة إلى اندثار تلك الأحزاب واختفائها من الوجود تماماً. (لعلمك: لن يترتب على ذلك أي فراغ سياسي!) صحيح أن من هؤلاء من أضفى جواً من المرح على الحملة الانتخابية، بإعلان تعميم الطربوش في برنامجه مثلاً، مع فتح الباب لتفسير الأحلام بالمجان، إلا أن ترطيب الأجواء على ذلك النحو جاء خصماً من رصيد التجربة وليس إضافة إليها. إذا غضضنا الطرف عما هو فكاهي في المشهد، والتفتنا إلى ما هو جاد، فسنجد أن ثمة تحدياً كبيراً يواجه الفائز في الانتخابات، يتمثل في إحياء الأمل والثقة لدى الناس في المستقبل. وليس ثمة شك في أن البرنامج الذي قدمه الرئيس مبارك يغطي مساحة كبيرة من ذلك الأمل، مجيباً عن السؤال “ماذا”، إلا أن الصورة لن تكتمل والثقة المرجوة لن تتوفر إلا إذا تلقى المجتمع إجابة عن السؤال “كيف”؟. لقد رحبت قطاعات عريضة بالأفكار والإشارات التي وردت في إجابة السؤال ماذا، لكن النخبة المصرية وأهل الاختصاص في المقدمة منهم، اتفقت آراء أغلبيتهم على أن الوعود التي أطلقت أثناء الحملة تحتاج إلى “خريطة طريق” تحدد سبل الوفاء بها، وانصبت تساؤلاتهم على كيفية تدبير الموارد اللازمة لمضاعفة رواتب صغار الموظفين، وبناء آلاف المساكن وتشغيل مئات الآلاف من العاطلين. ثمة ردود واجتهادات مطمئنة يطلقها خبراء آخرون في هذا الصدد، إلا أن الممارسات العملية هي التي ستقنع الناس بصواب كلامهم أو خطئه. بل ازعم أن إجراء عملياً واحداً، يلبي بعضاً من أشواق الناس ويمس وتراً حساساً لديهم، من شأنه أن يحيي لديهم الأمل الذي نتحدث عنه. والنموذج الذي قدمه الملك عبد الله بن عبد العزيز عاهل السعودية، له دلالته في هذا الصدد، ذلك انه بدأ ولايته بإطلاق سراح سجناء الرأي والحق العام، والعفو عن الذين تآمروا لاغتياله. ثم بعد أيام قليلة اصدر قراراً برفع الأجور والرواتب للعاملين في الدولة، وكان القرار الأول تجسيداً للرغبة في المصالحة الوطنية، أما القرار الثاني فقد جاء محملاً برسالة إيجابية أخرى، أوصلت بعضاً من عائدات النفط الذي تزايدت أسعاره، إلى كل بيت في المملكة. (2) إلى جانب الأسئلة الحائرة المثارة حول إمكانيات ترجمة الأقوال إلى أفعال، ثمة طائفة أخرى من أسئلة المستقبل مسكونة بالقلق، تنصب على دائرتين محددتين، الأولى تتعلق بخطى الإصلاح والانفراج السياسي المؤجلة التي لا تتطلب تدبير أية موارد مالية، ولا يفهم التردد في الإقدام عليها، الأمر الذي يؤثر سلباً في الثقة بصدق التوجه نحو الإصلاح. من ذلك القبيل مثلاً رفع وصاية السلطة التنفيذية إلى القضاء، وإلغاء عقوبة الحبس للصحافيين التي وعد بها منذ سنتين، وإلغاء الحبس الاحتياطي الذي أوصى به المجلس المصري لحقوق الإنسان. وقبل هذا كله وبعده، إلغاء قانون الطوارئ الذي انعقد الإجماع الوطني على رفضه.. الخ. الدائرة الثانية للأسئلة القلقة تشمل سقف حرية التعبير في مصر، الذي ارتفع في الآونة الأخيرة بشكل غير مألوف ولا مسبوق، على الأقل خلال الخمسين سنة الماضية، وأفادت منه كثيراً الصحف المستقلة والمعارضة بوجه أخص. في هذا الصدد فان أحداً لا ينكر أن ما تنشره تلك الصحف ذهب بعيداً في انتقاد الشخصيات العامة وتجريحها في بعض الأحيان، ومارست في ذلك جرأة غير معهودة. وهو ما فاجأ كثيرين في بلادنا، رغم انه أمر غير مستغرب في مختلف الدول الديمقراطية، التي تحفل صحفها بانتقادات لأهل الحكم أضعاف ما نقرأ في صحفنا، حيث يعد ذلك جزءاً من الثمن الذي يتعين دفعه في أي ممارسة ديمقراطية، لا تعرف الخطوط الحمر، ولا تضبطها سوى نصوص القانون وأعراف المهنة المتفق عليها بين أهلها. ولئن بلغ الأمر حد الشطط في بعض الأحيان، فان أهل الصنعة يحبذون غض الطرف عنه، ويعتبرون انه مما يحسن احتماله واغتفاره، استناداً إلى حداثة الممارسة من ناحية، وباعتبار أن الذين لا يخطئون لا يتعلمون من ناحية ثانية، ثم أن ذلك قد يعد من قبيل التنفيس عما هو محبوس في الصدور، الذي هو افضل بمراحل من حبس المشاعر وكتمانها. الرائج في أوساط النخب المصرية أن بعض الصدور ضاقت بما تنشره تلك الصحف. أيد ذلك الانطباع أن الضيق جرى التعبير عنه بأكثر من صيغة في حالات عدة، وان ثمة رسائل وجهت بهذا المضمون إلى الأطراف المعنية. الرائج أيضاً أن هناك وجهة نظر مقابلة آثرت إطالة حبال الصبر، وتأجيل التعامل مع المشهد إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية. واستند أصحاب هذا الرأي إلى أن ارتفاع سقف حرية التعبير في أجواء “المعركة” الانتخابية، من شأنه أن يضفي عليها حيوية مطلوبة، فضلاً عن أنها مرصودة في الداخل والخارج. ولذلك فلا بأس من احتمال تلك الممارسات بصورة مؤقتة. في مواجهة هذا الوضع، تباينت الآراء في شأن مستقبل ما بعد سبتمبر/أيلول، بين التشاؤم والحذر والتفاؤل. المتشائمون توقعوا أن يختلف الوضع، بحيث يتم التعامل مع تلك الصحف وكتابها بأسلوب آخر اقل تسامحاً واكثر شدة. أما الحذرون فقد استبعدوا ذلك الاحتمال استناداً إلى انه من المتعذر عملياً الهبوط بسقف الحرية إلا بتكلفة باهظة، لان ذلك بمثابة إعادة لعقارب الساعة إلى الوراء ومحاولة لتقزيم الجسم الصحافي الذي اشتد عوده واستطالت قامته خلال الأشهر الماضية. أما المتفائلون فقد احسنوا الظن بما يجري، واعتبروا أن ارتفاع سقف الحريات لن يتم التراجع عنه في الإصلاح السياسي المرتجى. ويبقى بعد ذلك السؤال: إلى أي ناحية ستميل ريح المستقبل؟ (3) لا يحتاج المحلل إلى بذل جهد يذكر لكي يدرك أن المشهد السياسي المصري سوف يشهد موجة عالية ل “تسونامي” التغيير بعد الانتخابات الرئاسية، الذي من أهم ملامحه أن جيلاً جديداً سوف يتقدم لتسلم مواقع القيادة في أبرز مجالات العمل العام. لاحظنا إرهاصات ذلك التغيير في تشكيل الوزارة الحالية، ثم في اختيار قيادات القطاع المصرفي والمالي، وكانت بصمات “التسونامي” اكثر وضوحاً في التغييرات الصحفية الأخيرة. وهذه المقدمات لا تدع مجالاً للشك في أن الإعصار سوف يتواصل، ليس فقط لأن ثمة خطى وقرائن دالة على ذلك، ولكن أيضاً لأن مصر مقبلة على فترة رئاسية جديدة تتزامن مع بدايتها انتخابات مجلس تشريعي جديد، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً لإحداث تغييرات جذرية في المشهد السياسي، من الطبيعي أن يشمل السلطة التنفيذية والحزب الوطني. تدلنا خبرة السنين على أن مدارس التغيير تتراوح بين ثلاث، واحدة تكتفي بالتغيير في الأشخاص والهياكل والأشكال، وثانية تغير في السياسات، وثالثة تجمع بين الاثنين بحيث تغير في السياسات بما تقتضيه المصلحة العليا، الأمر الذي يفرض تغيير الأشخاص، لأن مطالبة نفس العناصر بتنفيذ سياسات متباينة يعد من علائم عدم الجدية، فضلاً عن انه يسوغ استمرار الأشخاص المستعدين للقيام بكل الأدوار، بأكثر مما يطمئن إلى إمكانية تغيير السياسات. وجهة التغيير المرتقب ليست واضحة حتى الآن، وان لم تخل التغييرات التي حدثت في مجال الصحافة القومية من دلالة، تسهم في تسليط الضوء على حدود وطبيعة ما نحن مقبلون عليه. غير انه إذا كان لنا أن نبوح بالرجاء في هذا الصدد، فان ما نتمناه أن يكون النهج الثالث هو المعتمد، بحيث يتم تغيير السياسات بما يحقق تقدمها إلى الأمام، وفي الوقت ذاته يتم تغيير الأشخاص والواجهات بما يلبي استحقاقات التقدم المنشود. ثمة لغط يدور في أوساط الطبقة السياسية المصرية حول حظوظ ما يسمى بالحرس القديم والجديد داخل الحزب الوطني الحاكم، في ما يتعلق بسيناريوهات المستقبل. وقد استغربت إصرار بعض قيادات الحزب على نفي وجود تصنيفات من ذلك القبيل، رغم أنها ترجمة لفكرة تعاقب الأجيال، التي هي من سنن الحياة، فضلاً عن أنها من موجبات حيوية الأداء. لذلك ازعم انه لا مجال للتساؤل عما اذا كان التعاقب سيحدث أم لا، لأن المقدمات التي سبقت الإشارة إليها تدل على انه حاصل ما لم تحدث مفاجأة ليست على البال. وإنما الذي يستحق مناقشة وتمحيصاً هو معايير واليات التعاقب، والمقاصد التي يتحراها، وصلة ذلك كله بالمصالح العليا للوطن. (4) الذي يتابع برامج بعض المرشحين، وفي المقدمة منهم الرئيس مبارك، يدرك أن عبء النهوض بالمجتمع المصري واستعادته لعافيته بات مهمة تنوء بحملها الجبال. وان تراكم المشكلات وتعقيدها جعل بعضها عصياً على الحل في ظل الخرائط الراهنة. وهو ما يستدعي ضرورة إحداث تغييرات جذرية، ويبرر إطلاق موجة جديدة من “تسونامي” التغيير، تمس الأصول قبل الفروع. استطلعت آراء شريحة من الخبراء في شأن المشكلة رقم واحد التي يتعين على رئيس مصر المنتخب أن يركز عليها في “العهدة الرئاسية” الجديدة المصطلح متداول في الجزائر فخرجت بأربع ملاحظات مهمة، الأولى أن الجميع تحدثوا عن الشأن الداخلي، الأمر الذي يوحي بأن أوجاع الداخل طغت على ما عداها، وقد يستبطن إدراكا ضمنياً بأن استعادة الدور الإقليمي أو الدولي لمصر مرتبط بمدى العافية التي تتمتع بها على المستوى الوطني. الملاحظة الثانية انه ليس هناك إجماع، بين عناصر تلك الشريحة على الأقل، على مشكلة بذاتها، وهو ما بدا انعكاساً لأزمة غياب الإجماع حول القضايا الوطنية بين النخبة المصرية، من جراء ضيق قنوات الحوار المشترك، وانسدادها في بعض الأحيان. أما الملاحظة الثالثة فهي أن تعدد الآراء حول ماهية المشكلة الأولى جاء مؤشراً الى صعوبة تشخيص الحالة، من جراء تفشي مظاهر الوجع في جسد الوطن. وقد عبر واحد ممن سألتهم عن ذلك باعتذاره عن عدم استطاعته تحديد مشكلة بذاتها، وقوله أن ثمة مشكلات عدة من الجسامة بحيث ترشح جميعها لأن تحتل المرتبة الأولى من الاهتمام. الملاحظة الرابعة والأخيرة بدت مفاجئة، لان أحداً لم يتحدث عن “الإرهاب” كمشكلة ذات أولوية في مصر. البعض أعطوا الأولوية لقضية إطلاق الحريات العامة، معتبرين أن ذلك هو المفتاح الذي به يتم الدخول إلى حل بقية مشكلات البلد. ومن هؤلاء من قالوا أن تغيير المادة 76 من الدستور الذي سمح بتنافس المرشحين على منصب رئيس الجمهورية، اعتبر في حينه خطوة على طريق الإصلاح السياسي، ولكن الأمر ترك عائماً بعد ذلك، فلم نعرف ما هي الخطوات التالية ومتى يتم إنجازها، ومن يحدد أولوياتها. آخرون قالوا إن الفقر هو المشكلة الحقيقية، بعدما طحن قطاعات عريضة شملت ملايين الفلاحين والعمال في مصر، كما انه زحف على الطبقة الوسطى ما أدى إلى تآكلها، الأمر الذي احدث خللاً هائلاً في بنية المجتمع المصري. فريق ثالث تحدث عن الفساد وكيف انه استشرى كسرطان لم يترك خلية في جسم المجتمع إلا وضربها، وهو ما يجعل من مهمة اجتثاث الفساد مطلباً ملحاً لا يحتمل الانتظار. فئة رابعة ركزت على البطالة، التي تحولت إلى هم يعذب ملايين الأسر، فضلاً عن أنها باتت مصدراً لشرور كثيرة تهدد المجتمع. مجموعة خامسة أثارت قضية انهيار الخدمات العامة خصوصاً في المجالات الحيوية الثلاثة: التعليم والصحة والإسكان، حتى أن المواطن العادي ليس بمقدوره الإفادة من تلك الخدمات، في حين اصبح الأثرياء وحدهم القادرين على احتمال نفقاتها. لا يتصور عاقل أن علل المجتمع المصري أيا كانت أولوياتها يمكن أن تختفي بين يوم وليلة، أو حتى خلال ولاية رئاسية واحدة، ولكني اكرر ان المطلوب والمرجو بشكل عاجل أن يستعيد المجتمع ثقته بجدية الخطى الموصلة إلى الحل، وألا تظل حيوية المجتمع المصرية وعافيته من بين الأحلام المؤجلة التي تتوارثها الأجيال. إن تسجيل هدف صحيح واحد في مرمى العافية كفيل بكسب جولة الثقة التي نتطلع اليها. |