دفاعاً عن الرأسمالية العالمية قراءة العنوان تدل بصورة لا لبس فيها عن المعنون. هي قصة تبرز في خضم الهجوم على الرأسمالية و«شبح» العولمة أراد منها صاحبها الدفاع بالأرقام. هذا ما قام به الاقتصادي الســـويدي يوهان نوربـــيرغ بتأليفه للكتاب الذي تُرجم إلى أكثر من عشرين لغة، ومنح جوائز عدة، واستخدم كمرجع لفيـــلم وثائـــقي بعـــنوان «العولمة جيدة» أنتــجته الـــقناة الرابعة في هيئة الإذاعـــة البريطـــانية (BBC). حاول نوربيرغ، الذي انجذب في شبابه إلى الحركة الفوضوية قبل أن «يكتشف» الليبرالية، أن يدافع عن الرأسمالية وتحديداً اقتصاد السوق الحر، قاصداً بذلك الحرية الرأسمالية للمضي قدماً بالتجربة والخطأ من دون الالتزام بطلب إذن من الحكام ومسؤولي الحدود. وقال: «أريد أن يكون لدى الجميع الكثير من الحرية. ولو كان منتقدو الرأسمالية يشعرون بأننا نملك فائضاً من تلك الحرية اليوم، فبودي أن نحصل على المزيد لا سيما الفقراء. ولهذا لم أتردد بتسمية كتابي (دفاعاً عن الرأسمالية العالمية)، حتى وإن كانت الرأسمالية التي أمجدها مستقبلاً محتملاً أكثر منه نظاماً قائماً حالياً». ولفت نوربيرغ إلى «أن ما يؤمن به أولاً وقبل كل شيء ليس الرأسمالية ولا العولمة، بل قدرة الإنسان على تحقيق أمور عظيمة، والقوة المضاعفة الناتجة عن التفاعل والتواصل الإنساني. فالإيمان بالرأسمالية لا يعني الإيمان في النمو وغيره. وبقدر ما تكون هذه الإنجازات مرغوبة فإنها لا تعدو كونها عبارة عن نتائج فقط. إن الإيمان بالرأسمالية هو جوهرياً الإيمان في البشرية، إذ إنه ليس المطلوب أن تحل الصفقات الاقتصادية محل العلاقات الإنسانية، بل أن تحل الحرية والعلاقات الطوعية في المجالات كافة». وأوضح نوربيرغ «أن الذين يؤمنون بأن الليبراليين يعتـــقدون أن الناس يعـــملون دائماً بهدف مضاعفة مدخولهم لا يعرفون شيئاً عن الطبيعة البشرية، وأي ليبرالي يفكر بهذه الطريقة لا يعرف شيئاً عن الطبيعة البشرية». «الراي» تنشر حلقات من هذا الكتاب بعدما طبع نسخته العربية «مصباح الحرية» بالتعاون مع معهد «كيتو» في واشنطن، ونُشر عبر الدار الأهلية في الأردن. العولمة ... خلاص لمشكلات الشعوب يفرد يوهان نوربيرغ الفصل الأول «كل يوم بكل الطرق» للحديث عن قضايا أساسية في حياة البشرية كالمرض والجوع والتعليم والديموقراطية من أجل ايضاح انعكاس الرأسمالية في العالم على هذه القضايا إيجابياً. نصف الحقيقة يناقش نوربيرغ مقولة ان العالم أصبح أكثر ظلما، وان الأغنياء يزدادون غنى، والفقراء يزدادون فقرا، فيقول: «لو نظرنا الى ما بعد الشعارات الجذابة ودرسنا ما حدث في العالم فعليا، فسنجد ان هذه الفرضية تمثل نصف الحقيقة. النصف الأول صحيح، فالاغنياء ازدادوا غنى حقا - ليس جميعهم في كل مكان - ولكن عموما، ومن حالفه الحظ منا للعيش في بلاد غنية ازداد غنى بشكل ملحوظ في العقود القليلة الماضية، وكذلك اغنياء العالم الثالث، ولكن النصف الثاني من الفرضية خاطئ ببساطة، لانه عموما لم يزدد الفقراء فقرا في العقود الاخيرة، بل على العكس، فان الفقر المدقع قل. وبما ان الفقر أكبر من ناحية الكم في آسيا فان مئات الملايين من الناس الذين كانوا بالكاد قبل عشرين عاما يكافحون من أجل تلقي النهايات، بدأوا في تحقيق وجود آمن وحتى درجة متواضعة من الغنى، وتبعا لذلك تضاءل الشقاء العالمي وبدأت الظلمات الكثيرة تتفكك». ويضيف نوربيرغ: «أحد أهم الكتب التي نشرت في السنوات الأخيرة هو كتاب (عن الزمن الآسيوي: الهند، والصين، واليابان 1966 - 1999) وهو كتاب مصور يصف فيه الكاتب السويدي لاس بيرغ والمصور ستيغ كارلسون زيارات جديدة لهما لبلاد آسيوية سافرا اليها خلال الستينات. عندها، لمسا الفقر، والشقاء المذل، والكارثة الوشيكة. ومثل كثير ممن يسافرون لهذه البلدان، لم يستطيعا تقديم كثير من الأمل للمستقبل، واعتقدا ان الثورة الاشتراكية يمكن ان تكون المخرج الوحيد، عندما عادا الى الهند والصين في التسعينات، لم يستطيعا الا رؤية كم كانا مخطئين. فلقد اخرج عدد متزايد من الناس انفسهم من الفقر، ومشكلة الجوع أخذت تتضاءل بثبات، والشوارع تبدو أنظف. وحلت مبان من قرميد مكان أكواخ من طين، وأصبحت المباني مزودة بأسلاك للكهرباء يعلو أسطحها هوائيات التلفاز. حين زار بيرغ وكارلسون كالكتا للمرة الأولى، كان عُشر سكانهامشردين، وكانت شاحنات من السلطات العامة أو الجمعيات التبشيرية تتجول كل صباح لتجمع جثث أولئك الذين ماتوا خلال الليل. وبعد ثلاثين عاما، حين سافرا للتصوير في الشوارع، وجدا صعوبة في ايجاد مثل أولئك الناس. كما كانت الريشكو، وهي مركبة خفيفة بعجلتين يجرها رجل حافي القدمين، مختفية من المدن والناس يتنقلون بدلا منها بالسيارات والدراجات النارية وقطارات الأنفاق. عندما عرض بيرغ وكارلسون على الشباب الهنود صورا لما كانت عليه الامور في زيارتهما الأخيرة، رفضوا ان يصدقوا ان المكان كان نفسه. أيعقل أن الأمور كانت بهذه الفظاعة؟ أحد الأدلة المثيرة للدهشة على التغيير يتمثل في صورتين منشورتين على صفحة 42 من كتابهما. في الصورة القديمة، التي أخذت في عام 1967، ترفع فتاة في 12 من عمرها، تدعي ساتو، يديها المنكمشتين والمهترئتين، وقد بانت عليهما علامات الكبر المبكرة بفعل السنوات الكثيرة من العمل الشاق. والصورة الحديثة تظهر ابنة ساتو وتدعى سيما التي تبلغ من العمر 13 عاما ويداها مرفوعتان، يافعتان وناعمتان، يدا طفلة لم تسلب منها طفولتها». الحد من الفقر يرى نوربيرغ ان متوسط دخل المواطن العادي في العالم تضاعف منذ عام 1965. ولذلك فان الفقر ما زال يتضاءل سريعا، و«عادة ما يعرف (الفقر المدقع) بأنه حال تقاضي دخل يقل عن دولار في اليوم. في عام 1820 كان نحو 85 في المئة من سكان العالم يعيشون على أقل من دولار في اليوم. ولكن مع حلول عام 1950، انخفضت هذه النسبة لما يعادل 50 في المئة وانخفضت الى 33 في المئة في اوائل الثمانينات. ووفقا لاحصائيات البنك الدولي، فان نسبة الفقر المدقع انخفضت لما يقارب النصف، من 40 إلي 21 في المئة، وهو ما يعني ان النسبة العالمية انخفضت من 33 إلى 18 في المئة ما بين عام 1981 وعام 2001. والخفض الشديد الذي تم على مدى العشرين عاما الماضية نادر حدوثه، فقد تراجع وللمرة الأولى في التاريخ البشري عدد الناس الذي يعيشون في فقر مدقع وليس فقط من حيث النسبة. اذ زاد تعداد السكان بليونا ونصف البليون خلال هذين العقدين ومع ذلك فقد انخفض عدد الفقراء المعدمين بواقع 400 مليون شخص. وهذا الانخفاض متصل بالنمو الاقتصادي. ففي الأماكن التي نما فيها الازدهار على نحو أسرع، في شرق آسيا، والصين، والهند، تمت مكافحة الفقر بصورة أكثر فاعلية. ففي شرق آسيا خُفض الفقر المدقع من 58 إلى 16 في المئة خلال عقدين، وفي جنوب آسيا من 52 إلى 31 في المئة». ويوضح نوربيرغ «انه حتى تلك الاكتشافات المشجعة، فانها تبالغ بشكل كبير في تقدير الفقر في العالم لان البنك الدولي يستخدم بيانات سيئة السمعة، وغير موثوق بها، كأساس لتقديراته الخاصة. اذ نشر سورجيت إس. بالا، وهو اقتصادي سابق في البنك الدولي حساباته الخاصة أخيراً، مكملاً نتائج المسح ببيانات. حسابات وطنية، ويجادل، في صورة مقنعة، بأن هذه الطريقة توفر على الأرجح مقياساً دقيقاً. ووجد بالا ان الفقر قد انخفض بسرعة شديدة، من نسبة 44 في المئة في عام 1980 إلى نسبة 13 في المئة في نهاية عام 2002. ولو كانت هذه الأرقام صحيحة، فإن العشرين عاماً الأخيرة شهدت انخفاضاً غير عادي وغير مسبوق للفقر، وهو ضعف ما حقق في فترة عشرين عاماً تم تسجيلها. أي أن هدف الأمم المتحدة لخفض الفقر في العالم مع حلول عام 2015 لأقل من 15 في المئة قد تحقق وتم تجاوزه. ولكن المتشكك سيسأل ماذا ستفعل الشعوب في البلدان النامية بالاستهلاك والنمو؟ ولم يترتب علينا فرض طريقة حياتنا عليهم؟ والاجابة هي اننا لا يجب ان نفرض نمط حياة معينا على اي أحد. مهما كانت قيمهم، فإن الغالبية العظمى من شعوب العالم ترغب ظروفاً مادية أفضل، لسبب بسيط وهو انهم سيملكون خيارات أكثر. بغض النظر عن الكيفية التي سيقررون عندها استخدام ثرواتهم المتراكمة. وكما أكد الاقتصادي الهندي الحائز جائزة نوبل، أمارتيا سين، فإن الفقر ليس مجرد مشكلة مادية. إنه أمر أوسع: فهو يعبر عن الضعف، والحرمان من الفرص الأساسية وحرية الاختيار. والمداخيل القليلة هي غالباً تنتج عن أعراض غياب هذه الفرص وتهميش الناس او تعريضهم للإكراه. إن التنمية البشرية تعني الاستمتاع بحياة آمنة وصحية نسبياً،وبمستوى معيشة جيد والحرية في تشكيل حياة الإنسان الخاصة.ومن المهم ان نبحث ايضاً في التنمية المادية لأنها ستشير إلى كيفية صنع الثروة وتساهم في التنمية بمعناها الأوسع، إذا تمكن المصادر المادية الفردية والمجتمعية. الناس من تغذية وتعليم أنفسهم، والحصول على الرعاية الصحية، وتجنب عذاب مشاهدة أولادهم. يموتون أمام اعينهم. نجد ان تلك هي رغبات بشرية عالمية نسبياً: عندما يكون مسموحاً للناس الاختيار بأنفسهم. الجوع يعتبر نوربيرغ «ان التمتع بحياة أطول وصحة أفضل مرتبط بالحد من احد أقسى مظاهر التخلف وهو الجوع، ولقد ارتفع استهلاك السعرات في العالم الثالث بنسبة 30 في المئة لكل شخص منذ الستينات، ووفقاً لمنظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة، فإن 960 مليون شخص في البلدان النامية كانوا يعانون من نقص التغذية في عام 1970. في عام 1991 اصبح العدد 830 مليوناً، ومع حلول عام 2001 انخفض إلى اقل من 800 مليون. وبالنسبة للتعداد السكاني، يعد هذا تحسناً سريعاً. فقبل ثلاثين عاماً، كان نحو 37 في المئة من سكان البلدان النامية يعانون من الجوع. ورقم اليوم هو 17 في المئة. أهذا كثير؟ بالطبع، هو كثير جداً. ولكن الرقم يتناقص بسرعة. لقد احتاجت السويد اول عقدين من القرن العشرين لتعلن انها خالية من سوء التغذية المزمن. خلال ثلاثين عاماً فقط قلت نسبة الجياع في العالم، ومن المتوقع ان تقل اكثر إلى 10 في المئة مع حلول عام 2015. ولم يحدث ان كان هناك هذا الكم منا على الأرض، ولم يكن لدينا ابداً امدادات غذاء جيدة كهذه، فخلال التسعينات، قلت معدلات الجوع بمعدل 3 ملايين سنوياً، في الوقت الذي زاد فيه تعداد سكان العالم نحو 800 مليون. وتطورت الأمور في شرق وجنوب شرق آسيا، حيث قلت نسبة الجياع من 43 إلى 10 في المئة منذ عام 1970. وفي اميركا اللاتينية انخفضت من 19 إلى 11 في المئة، وفي شمال افريقيا والشرق الأوسط من 24 إلى 10 في المئة، وفي جنوب آسيا من 37 إلى 24 في المئة، والتطور الأسوأ كان في جنوب الصحراء الافريقية حيث زاد عدد الجياع من 92 مليوناً إلى نحو 200 مليون شخص، ولكن، حتى هناك قلت نسبة الناس الذين يعانون من الجوع، ولو كانت بشكل هامشي من 35 إلى 33 في المئة». ويؤكد نور بيرغ انه «قل وقوع كوارث كبيرة بشكل فاصل نتيجة لانتشار الديموقراطية، والمجاعات انتشرت في دول من كل طيف تقريباً، أي ذات انظمة شيوعية، وامبراطوريات مستعمرة، وديكتاتوريات تكنوقراطية، ومجتمعات قبلية قديمة. وفي جميع الحالات، كانت دول مركزية وسلطوية هي التي قمعت المناقشات الحرة واتجاهات السوق. وكما يلاحظ امارتيا سين، فلم يصدف ان وقعت ابداً كارثة مجاعة في بلد ديموقراطي. حتى الديموقراطيات الفقيرة مثل الهند وبوتسوانا، فقد تجنبت المجاعة، رغم انها تملك امدادات غذائية أقل من امدادات دول كثيرة اخرى عانت من المجاعة. وفي المقابل، عانت الدول الشيوعية مثل الصين والاتحاد السوفياتي وكمبوديا واثيوبيا وكوريا الشمالية ومستعمرات اخرى، مثل الهند التي كانت خاضعة للحكم البريطاني، من المجاعة. هذا يبين ان المجاعة تسببها الديكتاتورية وليس نقصاً في الغذاء. والمجاعة يولدها حكام يدمرون الانتاج والتجارة، ويشنون الحروب، غير آبهين بورطة الشعب الجائع». التعليم ويشير نوربيرغ إلى ان التعليم هو إحدى أكثر الطرق التي يعول عليها لتعزيز تطور الناس وإمكانات كسب عيشهم، مع ذلك، فإن كثيراً منهم محرومون من الحصول عليه. فالحصول على التعليم هو موضوع جذري لحد كبير، إذ ان 65 في المئة تقريباً ممن لا يسمح لهم بالذهاب الى المدرسة، والذين يظلون بالتالي جهلة، فتيات. وهي ايضاً مشكلة فقر، فأفقر الناس في كثير من البلدان غير متعلمين على الإطلاق. ولا تستطيع العائلات الفقيرة ارسال أولادها للمدرسة لأن الدراسة مكلفة جداً لهم أو لأن عائد التعليم غير كاف. في الهند يتلقى أولاد أغنى 15 في المئة من العائلات 10 سنوات تعليماً أكثر من الأولاد الذين ينتمون لأفقر 15 في المئة. ولذلك ليس من المفاجئ ان ينتشر التعليم بسرعة عندما يزدهر الاقتصاد. تبعاً لذلك، فإن ارتفاع مستويات التعليم يحفز النمو الاقتصادي. كادت نسبة المشاركة في التعليم الابتدائي في العالم تصل 100 في المئة. وكان الاستثناء الأكبر، مرة أخرى، هو جنوب الصحراء الافريقية الكبرى، وحتى هناك، فقد وصل التعليم الى ثلاثة أرباع السكان. وارتفعت المشاركة في التعليم الثانوي من نسبة 27 في المئة في عام 1960 الى 67 في المئة في عام 1995. وفي تلك الاثناء، ارتفعت نسبة الاطفال الذين يتاح لهم الذهاب الى المدرسة بواقع 80 في المئة. وهناك في الوقت الراهن 900 مليون أمي بالغ. هذا الرقم يبدو عالياً، ولكنه يعكس انخفاضاً كبيراً، من نسبة 70 في المئة من سكان العالم النامي في عام 1950 الى 23 في المئة اليوم وقد انخفضت الامية 10 في المئة منذ عام 1990، أي بواقع 75 مليون شخص. وتضيق فجوة الجندر باستمرار. كما ان انتشار القراءة السريع في العالم اليوم واضح للعيان من خلال دراسة معدلات القراءة والكتابة عبر الأجيال. أما فيما يتعلق بأصغر الناس سناً فإن الأمية آخذة في الاختفاء بسرعة». الدمقرطة يقول نوربي: «يحث انتشار المعلومات والأفكار المتسارع حول العالم، بالاضافة الى ارتفاع مستويات النمو والتعليم، على المطالبة بحقوق سياسية حقيقية. ويصر منتقدو العولمة على ان السوق الديناميكي ورأس المال الدولي يشكلان تهديداً للديموقراطية، ولكن لم يحدث ابداً في تاريخ البشرية ان كانت الديموقراطية وحق الاقتراع والتعبير عن الرأي الحر منتشرة كما هي اليوم. قبل مئة عام، لم يكن هناك في أي دولة في العالم حق عالمي ومتساو للاقتراع. فقد كانت تحكم العالم امبراطوريات ومملكات. وحتى في الغرب، كانت المرأة مستثناة من العملية الديموقراطية. وخلال القرن العشرين، كانت اجزاء كبيرة من العالم تخضع للشيوعية، أو الفاشية، أو الاشتراكية القومية، وهي ايديولوجيات قادت لحروب كبيرة ولقتل أكثر من مئة مليون شخص. وقد سقطت تلك الأنظمة باستثناء بضع من الحالات. ولقد انهارت الدول الشمولية، ودمقرطت الديكتاتوريات، وخلعت المملكات المطلقة. قبل 100 عام، كان يحكم ثلث السكان قوى استعمارية بعيدة. واليوم فككت الامبراطوريات الاستعمارية. وفي العقود الأخيرة الماضية فقط، تساقطت الديكتاتوريات مثل قوارير البولينغ خاصة بعد نزع الستار الحديدي الشيوعي. كما وضعت نهاية الحرب الباردة حداً للاستراتيجية الأميركية المقيتة بتأييد ديكتاتوريات العالم الثالث طالما انها كانت تعارض الكتلة السوفياتية. ووفقاً لمؤسسة «فريدوم هاوس»، كان هناك 121 ديموقراطية بأنظمة متعددة الاحزاب وحق عالمي ومتساو للاقتراع عام 2002. وفي تلك الديموقراطيات، يقيم نحو 3.5 مليار شخص، أو نحو 60 في المئة من سكان العالم. وتعتبر فريدوم هاوس 85 دولة، بمجموع سكان يبلغ 2.5 مليار شخص، «أحرارا» (ديموقراطيات فيها حقوق مدنية). وهذا يمثل، كأكبر نسبة على الاطلاق، أكثر من 40 في المئة من سكان العالم. أي ان هذا القدر من الناس يعيش في دول تضمن سيادة القانون وتسمح بالنقاش الحر والمعارضة الفعالة. ويضيف: «في عام 2002، كان هناك 47 دولة تنتهك حقوق الانسان الأساسية، وهي الدول الاقل تأثراً بالعولمة والأقل توجهاً نحو اقتصاد السوق والليبرالية. وبينما نحن ندين ونحارب اضطهادها وقمعها للاراء والاعلام الذي تتحكم به الحكومة ومراقبة الخطوط الهاتفية، ما زال علينا ان نتذكر انه هكذا كان الحال بالنسبة لمعظم سكان العالم قبل بضعة عقود مضت. ففي عام 1973، كانت 20 دولة، لا غير، يبلغ عدد سكان كل منها أكثر من مليون، تحكم بطريقة ديموقراطية. وخلال التسعينات زاد عدد الدول «الحرة» في العالم بمقدار 21 دولة، بينما قلت عدد الدول غير الحرة بمقدار ثلاث دول في الوقت ذاته. وقد جرى توسع الحرية بالتوازي مع قيام الكثير من الدول حديثة العهد، وذلك بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. والمسيرة الديموقراطية مستمرة، فليس هناك من سبب لنتوقع توقفها. ومن وقت لآخر، يزعم بأن من الصعب توفيق الديموقراطية مع الاسلام. لكن يجدر بنا ان نتذكر ان كثيراً من الباحثين قالوا الشيء ذاته عن الكاثوليكية في السبعينات، حين كانت الدول الكاثوليكية تضم، على سبيل المثال، أنظمة أميركا اللاتينية العسكرية، ودول أوروبا الشرقية الشيوعية، وديكتاتوريات مثل الفيليبين التي كانت تخضع لحكم فييرديناند ماركوس. وقد تراجع عدد الحروب للنصف خلال السنوات العشر الماضية، واليوم لا يتأثر بالنزاعات العسكرية مباشرة سوى أقل من 1 في المئة من سكان العالم. أحد الأسباب هو ان الديموقراطيات، ببساطة، لا تشن حروباً على بعضها البعض، والسبب الآخر هو ان التبادل الدولي يجعل من النزاع أقل فائدة. فمع حرية التنقل والتجارة الحرة، لا يهتم المواطنون كثيراً بحجم أو قوة بلادهم. كما ان الشعوب لا تصنع الازدهار بسلب الأراضي من دول أخرى، بل بالاتجار معها. ولو كان العالم، من جهة أخرى، يتألف من دول مكتفية ذاتيا، فلن يكون لأراضي البلدان الأخرى قيمة الى ان يتمكن بلد من الاستيلاء عليها». ويتابع: «(رسى الثور سلاما) هي مقولة من القرن السادس عشر، من المنطقة التي تقع على الحدود بين الدنمارك والسويد، حيث ارسى مزارعون بالقرب من الحدود السلام فيما بينهم ضد رغبة حكامهم لانهم كانوا يريدون ان يتاجروا باللحم والزبدة مقابل السمك والبهارات. وبكلمات فريدريك باستيا (الليبرالي الفرنسي من القرن التاسع عشر) اللاذعة: (لو لم تعبر البضائع الحدود، سيعبرها الجنود) ان الاعتماد المتبادل يعني اسباب نزاع اقل ما بين الدول. إذ تجعل الملكية المتبادلة، والشركات متعددة الجنسيات، والاستثمار، والمصادر الطبيعية الخاصة من الصعب معرفة اين ينتهي بلد واين يبدأ آخر. فمنذ عدة قرون، عندما نهب السويديون اوروبا، كانت المصادر التي حطمت وسرقت ملكا لشعوب اخرى. ولو كان السويديون سيفعلون الشيء نفسه اليوم، عندها سيكون من بين الضحايا عدد كبير من الشركات السويدية، ناهيك عن رأس المال السويدي واسواق التصدير السويدية. لقد تم التأكيد على ان التحدي العالمي الذي يواجه الامم يؤدي للتفرقة والنزاعات المحلية والعرقية. وهناك فعليا احتمال وقوع اعمال تفرقة في حال التشكيك في النفوذ القومي. وتقف مأساة يوغوسلافيا السابقة دليلا على النزاعات الدموية التي يمكن ان تتبع. ولكن عدد النزاعات الدموية، اي تلك التي تكلف اكثر من 1000 روح، تراجع من 20 الى 13 ما بين عام 1991 وعام 1998، (9 من هذه النزاعات وقعت في افريقيا، القارة الاقل دمقرطة، والاقل عولمة والاقل رأسمالية). والنزاعات التي تعقب انهيار الدول الشمولية هي اساسا صراعات على النفوذ في الاماكن التي توجد فيها موقتا فراغات في السلطة. ولقد حالت المركزية في عدة بلدان دون قيام مجتمع مدني او مؤسسات مستقرة وديموقراطية. وحين تختفي المركزية، تعم الفوضى إلى حين قيام مؤسسات جديدة. وليس هناك سبب للاعتقاد بان هذا اتجاه جديد في عالم اكثر تدويلا وديموقراطية». لا مساواة عالمية وبعد ان يتحدث عن مسألة اضطهاد النساء، والتي تقف العولمة بوجهها إذ بات بمقدور المرأة ان تنظر إلى مستقبلها، وبعد ان استدل بالاوضاع الاقتصادية في الصين والهند وقصة الديموقراطية في البلدين، ينتقل نوربيرغ إلى مناقشة ما يقوله منتقدو العولمة من «ان التقدم امر حسن جدا، الا ان الفجوات اتسعت، حتى وان اصبحت الاغلبية في وضع افضل، وان شعوبا ودولا ثرية قد حسنت من اوضاعها بسرعة اكثر من غيرها. وعليه فإن اللامساواة قد اتسعت رقعتها. وسيدعم المنتقدون للعولمة ذلك بالاشارة الى حقيقة ان اجمالي الناتج المحلي للفرد الواحد في اغنى 20 بلدا كان اكبر 15 مرة من مثيله في افقر 20 دولة قبل 40 عاما. اما الآن فهو اكبر بنحو 30 مرة. هناك سببان لعدم صحة هذا الاعتراض. اولا، حتى وان كانت احوال كل فرد تتحسن، فهل هناك فرق ان طرأ تحسن على بعض الناس اسرع من على الآخرين؟ المهم في الامر هو بالطبع ان يتحسن وضع كل فرد قدر الامكان، لا ان يكون حال مجموعة ما افضل من اخرى. وقد لا تروق للبعض - فقط للذين يعتبرون الثراء مشكلة اكبر من الفقر - حقيقة ان يصبحوا من اصحاب الملايين بينما الآخرون يصبحون اكثر ثراء منهم. ومن الافضل ان يكون المرء فقيرا في الولايات المتحدة غير المساواتية، حيث كان خط الفقر للفرد في عام 2001 نحو 9039 دولارا، من ان يكون متساويا في بلاد مثل رواندا، حيث كان الناتج المحلي الاجمالي (مقاسا بتعادل القوة الشرائية) 1000 دولار للفرد في عام 2001، او بنغلاديش (1750 دولارا)، او اوزبكستان (2500 دولار). وغالبا ما يكون سبب توسع الفجوة في بعض الدول التي تخضع للاصلاح، مثل الصين، هو ان البلدات والمدن نمت بخطى اسرع من الريف. ولكن على ضوء خفض الفقر غير المسبوق الذي انطوى عليه هذا التطور في كل من المدن والريف، هل لاحد ان يتمنى لو انه لم يحدث؟ ثانيا، الزعم بان اللامساواة قد ازدادت خاطأ من الاصل. فهو مبني، في جزء كبير منه، على ارقام اصدرها برنامج الامم المتحدة الانمائي، وعلى الاخص تقرير التنمية البشرية لعام 1999. ان مشكلة هذه الارقام تكمن في انها غير معدلة حسب القوة الشرائية. اي ان ارقام برنامج الامم المتحدة الانمائي لا تأخذ في الاعتبار ما يستطيع الناس شراءه بما يملكون من نقود. ومن دون هذا التعديل، تبين الارقام في المقام الاول سعر الصرف الرسمي للدولة وقيمة عملتها في السوق العالمي، وهذا مقياس ضعيف للفقر. وغني عن القول ان مستوى معيشة الفقراء الفعلي متوقف اكثر على تكلفة طعامهم، وملابسهم، ومسكنهم منه على الذي سيحصلون عليه بأموالهم وهم يقضون العطلة في اوروبا. والغريب في الامر هو ان برنامج الامم المتحدة الانمائي نفسه يستخدم ارقاما معدّلة بالقوة الشرائية في مؤشر التنمية البشرية، وهو مقياسها العالمي لمستويات المعيشة ويستعين فقط بالارقام غير المعدلة من اجل اثبات فرضية اللامساواة». ملاحظات ويختم نوربيرغ الفصل الاول بجملة من الملاحظات، فيقول: «لا يعني كل ما تقدم ان كل شيء على ما يرام. ان نحو ثلاثة ملايين شخص في العالم يموتون من الايدز كل عام. واحدى نتائج هذا الوباء القاسية هو انه يسلب الاولاد اهاليهم: فقد تيتم اكثر من 13 مليون طفل بسبب الايدز، والاغلبية العظمى منهم من جنوب الصحراء الافريقية. كما يعاني اكثر من 15 في المئة من سكان افريقيا البالغين من الايدز. ويعيش حوالي 20 مليون شخص حاليا كهاربين من الاضطهاد او النزاعات او الكوارث الطبيعية. وعلى الرغم من ان التنبؤات فيما يخص مصادر المياه في العالم قد اصبحت اكثر تفاؤلا، فاننا لا نزال نواجه خطر ان يحدث نقص كبير في المياه العذبة، وهو ما سيؤدي ربما للامراض والنزاعات. كما ان نحو 20 دولة، معظمها في جنوب افريقيا، ازدادت فقرا منذ عام 1965. وقد تكون الامية، والجوع، والفقر آخذة في التدني، لكن مازال مئات الملايين من الناس يتأثرون بها. اما النزاعات المسلحة فهي إلى انخفاض، ولكن ذلك لا يشكل مواساة لمئات الالوف من الناس الذين مازالو يضربون ويغتصبون ويقتلون. وتصبح المشاكل المتبقية غير محتملة مع معرفتنا بانه يمكننا فعليا القيام بشيء حيالها. فعندما يبدو التخلف جزءا طبيعيا وحتميا من الحالة الانسانية، فانه يعد قدرا مأسويا. ولكن عندما ندرك انه ليس ضروريا على الاطلاق، فهو يصبح مشكلة يمكن، بل يجب، حلها. وهذه الظاهرة ليست بغير مألوفة: والشيء ذاته حدث عندما بدأت الثورة الصناعية بتحسين مستويات المعيشة في الغرب قبل 200 عام. حين يكون البؤس متفشيا في كل مكان، يمكننا تجاهله بسهولة. فحين يقارن بشيء آخر، بالوفرة والازدهار، تتفتح عيوننا عليه - وهو امر جيد لان وعينا الجديد يحرك جهودنا للقيام بشيء ما حيال المشاكل المتبقية. ولكن يجب الا يوهمنا هذا بان العالم قد ساء فعليا، لان ذلك لم يحدث قط. لا يمكن لاحد ان يشك في ان العالم لديه ما يكفي من المشاكل الخطيرة. بيد ان الامر الرائع هو ان انتشار الديموقراطية والرأسمالية قد حدّ منها بصورة كبيرة. فقد جعل هذا الانتشار الواسع من الفقر والحرمان استثناء، بدلا من قاعدة، في شتى الاماكن التي سُمح للسياسات الليبرالية بان تسري فيها لمدة اطول. تنتظرنا جميعا تغيرات ضخمة، ولكن اعيننا في الوقت ذاته قد تفتحت على الحلول السياسية والتقنية المتوفرة لدينا. وهكذا، ومع اخذ كل شيء في الحسبان، ليس هناك من سبب يدعونا للتشاؤم». الرأي العام |