الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 11:31 م
ابحث ابحث عن:
عربي ودولي
السبت, 15-ديسمبر-2007
المؤتمرنت - الشرق الاوسط -
لماذا تمتلئ شاشاتنا بأمثال الزرقاوي؟
حين يكتب الصحافي الثقافي في السياسة، يكتب بطريقته، يتناول ما لم تستطع مجاهر المحللين السياسيين التقاطه، عينه تلحظ أبعاداً أخرى، وقلمه ينقط بغير فكرة. الحبر يختلف، لكنه يصب في محابر الآخرين ويمتزج ليكمل الصورة. بلال خبيز في كتابه الجديد المكتوب بالعربية والانجليزية، مع هوامش فادي العبد الله وهدى طه يتناول الوقائع اللبنانية لا ليسرد تاريخاً، بل ليفقأ المفارقات.


وسط مدينة بيروت كان ملتقى أوقات الفراغ، كان الناس يذهبون إليه للتمتع والتنزه والترفيه. وفي حين كانت الأحياء الأخرى من بيروت تسكن وترتاح ليلاً، كان وسط المدينة ينشط ويبلغ أقصى حرارته في هذا الوقت بالذّات. ملتقى كل الساهرين من كل المناطق، شرفة المدينة التي نستعملها للاتصال بالعالم الخارجي الذي حولنا. الشرفة التي لا مكان فيها للأسرار، لأن كل ما يجري فيها عرضة للمراقبة. لكنها تمتلك حيويتها المطلقة من تأكيد أنها امتداد لداخل ما.

من هذه الشرفة يطل بلال خبيز على قارئه ليعرض مشاهداته في زمن العواصف السياسية والأمنية، والتجاذبات التي أقفلت باب الشرفة، وطردت أهل بيروت عنها كما لو أن رشقة من الرصاص أقفلت أبواب الشرفات والنوافذ في حي من الأحياء.

لا يملك وسط بيروت زمناً للعيش بل زمناً للسياحة السريعة، ما ان نباشر الدخول إلى هذه المنطقة حتى يتم اكتناه خصائصها جميعاً. ليس ثمّة شارع أهم من شارع، وليس هناك مقهى أشهر من آخر، أمكنة مرصوفة أفقياً متشابهة لأنها مولودة في وقت واحد زمنياً. فالأحياء تنشأ بالتقسيط، على مراحل متعددة، بناء تلو آخر. لكن وسط بيروت يُبنى دفعة واحدة ويُفتتح دفعة واحدة، ويُهجر دفعة واحدة أيضاً. كما لو أن الزمن هو الذي يصنع نظرة العين لا الأحجام والأشكال والألوان. زمن وسط بيروت زمن آخر غير ذاك الذي أتيت منه، زمن يتيه عليك لأنه ليس زمن الداخل إليها والسائح فيها. فعلى الداخل أن يجترح التصرفات والسلوكيات التي تليق بزمن آت. فزمن الوسط يتحدّى، والناس الذين عليهم أن يعايشوا المستقبل والآتي وجدوا عودتهم إلى زمنهم الفعلي، وحاضرهم المعقّد سهلاً، ما إن يُقفل وسط المدينة ويجعله الواقع السياسي قفراً.

يتحرّك بلال خبيز وراء المشاهد الناتئة، ويعمل لتوصيف الاحتمالات، وتشخيص الواقع. فيرى أن وسط بيروت لا يستطيع الدفاع عن نفسه، لأنه لم يدخل في بواطن البلد وأهله، ليصبح جزءاً من حرمة البيوت. فالمدن الحديثة تشتبه بكل مختلف ومفارق. بل ان المختلف والمفارق في الزمن لا يلبث بعد إقامة في المدينة أن يجد نفسه أمام خيارين: إما الدخول في زمن المدينة والتماهي مع ما تفرضه من سلوكيات، وإما الشروع في محاولة إرهابها.

في متاهة المدن تصبح العين عضواً بعد أن تكون حاسّة، ترى عيوننا كل ما يجري أمامنا من غير أن نحكم على ما نرى أو نتأثر به. لا يفكّر المرء مرتين في معنى الإشارة الضوئية الخضراء. يعرف المعنى ويلتزم النظام الذي تدعو إليه، فالتزام النظام في المدن هو السبيل الأنسب لكي لا يموت المرء في حادث عرضي. لا تتقبل المدن الساهين طبعاً، لكنها أيضاً لا تستسيغ المنتبهين جداً، فاللحظة التي تصبح فيها العين حاسّة في المدن، هي لحظة الفاجعة.

مدننا على التلفزيونات لا تظهر إلاّ عندما تصيبها الزلازل، لا يجد المصورون الصحافيون سبباً كافياً في فرح العيش الذي يغمر المدن ليصوروه. لمَ لا يصوِّر المصورون أطفالنا الرائعين الذين يعرفون كيف يحولون هذا المقت من حولنا سبباً لسعادتنا، لماذا نخبئهم عن العيون والشاشات، ونسمح لأمثال الزرقاوي أن يحتل هذه المساحة القليلة التي ننعم بها في وصفها نافذة على العالم؟ لكن نافذتنا على العالم دائماً تطفح بالموت والقتلة والمحاكم. دائماً نريد أن نثبت أننا توقفنا عن العيش في انتظار الفراغ من هذه المحاكمات والملاحقات والقتل والتفجير.

أثناء حرب تموز/يوليو 2006 أرادت الطائرات والبوارج الحربية الإسرائيلية، وهي تنزع أعصاب الاقتصاد اللبناني الهشّة أن تصنع هوية. وكانت نشوة المقاومة في قدرتها على أذية الخصم. هذا المنحى يجاور الكارثة، فالكارثة تجعل الشعب ضحية، وتغوي أهله باعتماد رابطة الانتقام رابطة وحيدة، رابطة تقتل المواطنة وتبني المقاتل.

انها المرة الأولى التي يختبر فيها شعب من الشعوب معنى أن يتم احتلال أرضه من الجو. أن تحتلنا إسرائيل من الجو يعني أنها لا تطمع بثرواتنا في هذه الحرب، ولا تريد شيئاً من مياهنا. إسرائيل تريد أن تسمّم المياه وتنبش أحشاء التراب، وتطرد الموتى من مدافنهم، وتكسر إرادتنا، وتجعل الأحياء بلا مكان، مكدسين كالخضراوات في شاحنة في انتظار أن تستقبلهم أرض ما. حتّى لو تسنّى للعالم كلّه أن يدين إسرائيل وينصرنا كضحية، لن يتسنّى لنا أن ننتصر، لقد أفقدتنا الطائرات صفتنا كشعب ولم يعد لدينا إلاّ الأمل الكفيف بأن نجد فسحة من هواء لم تحتلها الطائرات، نستطيع أن نتنفس منها ونحن نقف فوق الركام.

رافق المصورون الصحافيون الأميركيون الدبابات الأميركية حين بدأت تقدمها داخل الأراضي العراقية. هؤلاء كانوا يبثون صوراً عالية التقنية لكنها غير واضحة على الاطلاق، بسبب ظروف التقدّم العسكري وزمنه وسرعته. لم يكن بوسع المصور الصحافي المرافق للقوات الأميركية أن يوازن بين الزمان والمكان لينتج صوراً واضحة المعالم. بالمقابل كانت صور الضحايا العراقيين، التي تبثها شبكات التلفزة العاملة في العراق بالغة الوضوح والنقاء. وكانت عين الناظر تعجز عن التقاط كافة تفاصيلها دفعة واحدة. التكرار كان ضرورياً للقبض على المشهد لجعل المشاهدين يظنون ويتخيلون أن هذه الصور بعض من ذكرياتهم أو كوابيسهم. فكان الغبش في صور القصف الذي يرافق التقدم الأميركي من دون أثر للضحايا. كانت القوات الأميركية تبني بناء لم تتضح معالمه بعد، فكانت الصور ضبابية. فيما كانت صور الضحية العراقية على يقين من الموت والدمار. فالوضوح كان الحد الذي يجعل الحرب إرهاباً على نحو غير مشكوك فيه. كان الغبش الأميركي غير واضح المعالم لكنه يملك كل وسائل اتصاله بالمستقبل. أما الوضوح العراقي فكان ينتمي إلى ماض ما، لا مستقبل له، وهو لذلك بالغ الوضوح، موت فحسب. لطالما عرفنا أن الموت ماضينا الذي لا يملك حق الإقامة في الحاضر. الموت في الماضي، لكن القوات الأميركية جعلته موتاً مستقبلياً، موتاً مستمراً يقع على الحد الفاصل بين السياسة والإرهاب.

لا يستقيم إرهاب حديث من دون صور، إذ عليه أن ينجح في دفع المصورين إلى إنتاج الصور. الصلة الوثيقة بين الإرهاب والصورة لا تتعلق بهذا الأمر فقط، بل بتعلقهما معاً بالماضي الواضح المعالم. هل يمكن أن ننتج صورة ما تعلن أنها صورة لما بعد؟ الأميركيون اقترحوا علينا صورة لما بعد تلك الحرب فجاءت غائمة تشبه إلى حد بعيد قراءة أبراج الحظ، صورة حبلى بالاحتمالات، لن نتأكد أين أخذت ولمن.

تكررت في لبنان هذه المعادلة، الجريمة تقع في المستقبل، وثمة صور فقط لما حلّ، حتّى أن إسرائيل لم تستثمر أمر تعرض مدنها الشمالية للقصف على نحو يدين القاصف ويجعله في نظر الرأي العام العالمي قاتلاً متوحشاً، وتنكر أمر وقوعها في موقع الضحية لما يترتب على هذا الموقع في المستقبل.لذا أصبح الدمار اللبناني عرضة لكاميرات الصحافيين الذين جذبتهم رائحة الدم والبارود، أنتجوا جميعاً صورة لما حدث، واستعصت صورة المستقبل على الجميع.

لم تستطع بيروت أن تتخفف مما جرى واستئناف عاداتها كما لو أن شيئاً لم يكن. فمنذ استشهاد الرئيس الحريري باتت هذه المدينة تعد الأيام التي تلت جريمة الاغتيال على شاشات رقمية تنتشر في شوارعها، كما لو أن الزمن الذي يعقب زمن الاغتيال الفاجعة هو زمن مؤقت، ويجدر بنا أن لا نحسب حسابه. وأصبح في هواء المدينة ما يشبه الرصاص الثقيل الذي يتهدد ساكنيها.

يستحضر المؤلف الوقائع ويرى فيها مقاربة غير مألوفة يعمل قلمه على سبرها، ما يراه الصحافي الثقافي يختلف عمّا يراه المحلل السياسي. فهو يرى أن اغتيال الرئيس الحريري لم يكن اغتيالاً لرجل سياسة وزعيم وطني كبير فقط، ولم يكن اعتداء على الكيان وصفعة للمنتمين إليه فقط، بل كان أيضاً اعتداء على المكان نفسه. هذا المكان الذي يعيش في زمن معلّق لا يستطيع الصمود أمام الاعتداءات. كان يستصرخنا للمحافظة عليه، لكننا لم نجد في بيروت المعاد اعمارها صورة مستقبلنا، بل صورة ندمنا، كنا نعيش في مستقبل سنوات الحرب الأهلية، لا في مستقبل سنوات نجاحنا في تجنبها. لذا ما إن دخل الوسط التجاري في طقوس الحداد حتّى غدا مشاعاً لكل عابر سبيل. لم تكن الحرب الأخيرة هي ما يدخل هذا المكان في طقس حداد طويل. تحاورُ المختلفين اللبنانيين في ما بينهم كان كافياً لجعل هذا الوسط رمادياً، وجعلنا نفزع من مناماتنا وندرك أن الحقائق أكبر سناً وأبطأ فرحاً من المنامات، وأن ما يجري من حولنا يجري من حولنا حقاً، وليس في بلد بعيد لا تصلنا أصداء عذاباته وحروبه وانقساماته المتجذرة.

أمام هذا الواقع الذي يشبه الحجر الصحّي، لا يرى بعضنا أمامه إلاّ خياراً من اثنين، إمّا أن يعلن، بمفرده وعلى كفالته الخاصة نجاته من الوباء الذي يصيب مواطنيه فيقرأ ويحلل ويناقش ويعرض فنوناً. وإما أن يقرأ ويحلل ويعرض، بوصفه واحداً من الذين أصيبوا بالوباء ويريد من العالم كله أن يساعده في التماثل للشفاء. إذاً إما نحن متنكرون لمرضنا وإما تائبون. لأنه لا تكفي الإقامة في البلاد ليكون المرء من هذه البلاد، فثمّة في بيروت مقيمون ـ مهاجرون.




أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر