المزيد من إستطلاعات وتقارير
|
|
اليمن بين عهدين.. البناء والهدم ( تقرير)
الأحد, 17-يوليو-2016 عبدالناصر المملوح - في 2010م، احتضنت عدن وأبين محفلاً كروياً دولياً (خليجي 20)، وكانت الترشيحات تقود اليمن إلى استضافة كأس العرب.. وفي 2015م تحول ملعبا 22 مايو في عدن، والوحدة في أبين إلى ركام جراء غارات العدوان السعودي الغاشم، بل وبات ملعب الوحدة الدولي في زنجبار يحتضن الأنشطة الرياضية والثقافية لتنظيمي القاعدة وداعش، وبتمويل ورعاية السلطة المحلية في المحافظة، الموالية لتحالف الاحتلال.
قد يبدو الأمر مختزلاً أمام أحداث جسام، لكن عمق دلالات المشهد تكفي للحكم على حقبتين؛ حقبة الرئيس علي عبدالله صالح، وحقبة سلفه عبدربه منصور هادي.. وكيف أن تحولات المجتمعات والبلدان تختلف من حيث تأثيرها، فمنها ما ينبني ويعزز الوحدة الوطنية ومنها ما يهدم.
يصادف اليوم 17 يوليو ذكرى تولي الرئيس السابق علي عبدالله صالح مقاليد الحكم عام 1978م، وفي كل مرة تحل الذكرى تتجدد التساؤلات حول فترة الحكم الأطول في تاريخنا الحديث، والأهم من حيث حجم الإنجازات والتحديات.. ولكننا هذا العام وفي ظل الوضع الذي آل إليه وطننا الحبيب وما يتعرض له من عدوان غاشم، أكثر حاجة من ذي قبل للتأمل في هذا اليوم 17 يوليو 78م في دلالته ومعانيه.. وكيف استطاع المقدم علي عبدالله صالح تولي مقاليد الحكم والانتقال باليمن المشطر إلى يمن موحد، وإلى مصاف دول الديمقراطية الناشئة.. قبل أن ينزلق بها خَلَفه عبدربه منصور هادي ومن معه من حزب الإصلاح –أركان النظام، وأرباب ما يسمى الربيع العربي- إلى الهاوية.. اقتتال داخلي، وعدوان خارجي، وتمكين للتنظيمات الإرهابية.
***
في عودة سريعة للتاريخ.. جاء المقدم علي عبدالله صالح في ظرف صعب، حيث كرسي الرئاسة ينزف؛ اغتيال الحمدي والغشمي في غضون 7 أشهر، والفراغ سيد الموقف والبدائل كلها أصعب من الآخر، والانقسامات على أشدها والإجماع على شخص أكثر من مستحيل.
***
كانت الساحة السياسية في الشطر الشمالي عشية اغتيال الرئيس أحمد الغشمي لا تزال تحت واقع وإفرازات ونتائج تلك الصراعات والأحداث الدامية التي شكلت المسار السياسي للبلد ما بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م بين قوى وتيارات سياسية واجتماعية وعسكرية وقبلية ومناطقية مختلفة.. وما أحداث 5 نوفمبر 1967م وأحداث أغسطس 1968م واغتيال الحمدي في 11 أكتوبر 1977م، واغتيال الغشمي في 24/6/1978م إلا محطات وعناوين لهذه الصراعات التي كانت تقود اليمن –الشطر الشمالي- إلى اللا دولة.
ووفقاً لدارسي التاريخ السياسي اليمني المعاصر، فقد كان الذهول والارتباك والحذر ليلة اغتيال الغشمي هو المسيطر على الموقف، وعلى القوى والشخصيات السياسية والقبلية والعسكرية على اختلاف توجهاتها، إلا أن الصحيح والفعلي هو أن جميع الفرقاء كانوا جميعاً يتسابقون نحو الوصول إلى الكرسي، وكان هذا السباق يتم بخطوات ومناورات وتكتيكات حذرة ومعقدة إلى درجة السرية".
وبهذا الصدد يقول أحد معارضيه اليوم، والقيادي في حزب الإصلاح، نصر طه مصطفى: "لقد كان المقدم علي عبدالله صالح حينها الرجل الأقوى في القوات المسلحة التي كانت ضعيفة ومفككة ومترهلة، إلا أن الطريق إلى الكرسي لم تكن مفروشة له بالورود، لقد كانت الاعتراضات على اختياره رئيساً للدولة بما يكفي لتعميق حالة الانقسام والتشرذم التي كانت موجودة فعلاً على أرض الواقع".
يضيف نصر طه: "تمكن صالح من إعادة الشرعية، وسد الفراغ وتوجيه الجبهة الداخلية، وتحقيق الإجماع الوطني على شخصه في غضون سنوات قليلة، وذلك هو التوفيق بعينه".
إلى ذلك يقول المفكر والمحلل السياسي المعروف أحمد الحبيشي:
"كان قبول الرئيس علي عبدالله صالح هذا التكليف ينطوي على استعداد لمواجهة مخاطر متوقعة على المدى القريب ما فتىء أن وجد نفسه أمامها بعد شهرين من تحمله مسئوليات الحكم، حيث وقع انقلاب عسكري فاشل في أكتوبر عام 1978م، ثم وجد نفسه بعد خمسة أشهر من ذلك الانقلاب أمام مخاطر جديدة تمثلت في حرب فبراير 1979م بين الشطرين، والتي نجح في إيقافها بواسطة الحوار السياسي الوطني مع قيادة الحزب الاشتراكي في الشطر الجنوبي من الوطن.
وفيما كان الرئيس علي عبدالله صالح يراهن على فسحة من الوقت تمكنه من تضميد الجراح التي نجمت عن انقلاب أكتوبر 1978م وحرب فبراير 1979م، ومعالجة المشاكل الموروثة عن سنوات الحرب الأهلية والصراع الداخلي منذ عام 1962م، وجد نفسه مرة أخرى في مواجهة اللعبة العمياء للصراع على السلطة باندلاع المعارك المسلحة في المناطق الوسطى، حيث شن الفرع الشمالي للحزب الاشتراكي اليمني حربا منظمة بهدف تغيير الأوضاع وإسقاط السلطة بالقوة، استمرت خلال الفترة بين عامي1980 - 1982م، على خلفية معقدة من موروث الصراعات الدامية والانقسامات الداخلية والحروب الشطرية والأهلية التي تركت آثارا سلبية على عملية الانتقال من الثورة إلى الدولة.
يضيف الحبيشي: "في ضوء ما تقدم يمكن القول إن الرئيس علي عبدالله صالح تسلم قيادة الشطر الشمالي من الوطن قبل الوحدة، فيما كان الشطر الآخر منضويـا في إطار دولة شطرية موازية.. كما ورث الرئيس في الشطر الشمالي الذي تسنم قيادته تركة ثقيلة من التخلف والحروب القبلية والأهلية والعجز المالي الحاد والمعارضة المسلحة، والأخطر من كل ذلك أنـه ورث دولة لم تكن قادرة على بسط سلطتها خارج العاصمة صنعاء، الأمر الذي يشير إلى حجم المصاعب التي واجهت ولا زالت تواجه مشروع بناء الدولة الوطنية الحديثة التي تضمن النمو الاقتصادي والحريات العامة والمواطنة المتساوية في عموم اليمن".
***
المكانة الفردية
بدراسة التاريخ السياسي في النظم المختلفة، نجد للفرد دوراً مهماً وحاسماً في صياغة مسار البناء السياسي، كما هو في عهد الرئيس السابق علي عبدالله صالح.. أو الهدم كما هو في عهد الرئيس المستقيل عبدربه منصور هادي.
وفي دراسة قدمها في وقت سابق الدكتور خالد عمر عبدالله باجنيد، العميد السابق لكلية الحقوق جامعة عدن "نجد أن اعتلاء الرئيس علي عبدالله صالح لسدة الحكم كان له الأثر في إعادة صياغة الواقع السياسي اليمني، وكذلك في الإمساك بقواعد البناء في واقع كاليمن يتسم بكل التناقضات والتعقيدات وتشابك المصالح والمخاطر.. وخروجه عن ذلك بقدرة فائقة، وقدرته أيضاً على استيعاب تعقيدات بناء الدولة الحدية في واقع تتشاك فيها التعقيدات واستمراره في قيادة هذه الدولة على مدى 33 عاماً وتغلبه على كل اللحظات الحرجة".
باجنيد حدد في دراسته القيمة 5 تحديات نجح الرئيس صالح في اجتيازها وصولاً إلى يمن موحد مستقر، وهي ذاتها التحديات التي أعاد هادي اليمن إليها وبشكل أكثر تعقيداً من ذي قبل.
أولاً: تحديات مسيرة البناء في اليمن
حين اعتلى المقدم علي عبدالله صالح سدة الحكم عام 1978م، بدأت مرحلة جديدة في بناء الواقع اليمني الجديد وصناعة الواقع السياسي الجديد، فاستطاع استيعاب الواقع اليمني بكل تعقيداته وتشعباته والنفاذ إلى قلب المشكلات والتمكن من قراءة الواقع وأفكار ورؤى الآخرين والتعامل معها، وإدراكه بأن عملية التغيير والتطور في الرؤية والسياسات والأساليب في بناء الدولة الحديثة كان طريقا لمواجهة التداعيات، فهو قبل كل شيء أدرك بخبرته أن المخاطر التي تعرضت وتتعرض لها اليمن كانت ولازالت أهم العوامل التي يمكن أن تقود إلى تلك التداعيات.
وبقراءته للواقع اليمني أدرك أن اليمن منذ قيام الجمهورية وجد نفسه أمام تحديات تتعلق بوجوده وهويته واختياراته وكل ما يمس جوهر تأمين كيانه، وهنا كان عمق التمعن والتأمل في منابع ومكامن مخاطر هذه التحديات والإدراك لمخاطر الاختراق التي كانت تنخر في جسم اليمن، فمن الحروب والأزمات السافرة والمستترة التي عاشتها اليمن، مروراً بالمشكلات التي كانت تحكم العلاقات مع العرب والآخرين، وصولا إلى واقع الفقر والتخلف وتشويه البنيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للواقع اليمني وتأزمه، وهي أمور أخذت تهدد المصالح والوجود وتزعزع الاستقرار وتؤزم الواقع والانحراف بالمسار التنموي وتفقد اليمن القدرة على أن تكون له مكانة بين الأمم. وهكذا أدرك طبيعة المخاطر التي تشكلت وحجم التداعيات التي كانت تهدد الوجود والمستقبل الآمن.
وقد أدرك الرئيس أن هناك تحديات جديدة ومحاولات لإدخال البلاد في أزمات وعواصف قد تهدد مستقبل اليمن، وهذا ما جعله يسعى للامساك بمفاصل التحديات، وذلك باعتماد السلم والحوار في إدارة الصراع والخلاف، وهكذا أضاف محطة جديدة من محطات تأمين الاستقرار العام في صوره السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتشريعي والمؤسسي، وذلك للحيلولة دون تمكن التداعيات من التحكم في الواقع السياسي في اليمن، فهذه المحطة شكلت حلقة هامة ومصيرية يمكن أن يلتف الجميع حولها باعتبارها مركز اندفاع مؤثر في عملية الحوار والتمسك بثوابت المجتمع السلمي لإرساء دعائم مجتمع سياسي مؤسسي وغرس ثقافة البناء السلمي والمؤسسي في وعي مجتمع اليوم والأجيال القادمة.
ثانياً: تحديات بناء الدولة الحديثة
اليمن مثله مثل العديد من الدول حديثة التكوين يقع تحت تأثير المورث العشائري والقبلي والمناطقي والطائفي، مما جعله يتعرض عند محاولته لبناء الدولة الحديثة ومؤسساتها لصراع بين التقليدية والحداثة. ومع كل المحاولات التي جرت وتجري لبناء دولة معاصرة على أساس مؤسسي ووفق أسس ومقومات وعناصر الحداثة، كان اليمن يواجه التحديات للتغلب على كل المحاولات المعيقة لبناء الدولة الحديثة، ومع ذلك تصطدم هذه المحاولات بممارسات يحركها المخزون الثقافي العشائري والطائفي والمناطقي واستخدامات تلك الأطروحات السياسية والدينية في الخطاب الديني والسياسي لتبرير رؤيتها المعيقة لبناء الدولة الحديثة، وهنا تكمن قوة التحدي والإصرار للاستمرار في تعزيز واقع يتطور سياسيا وثقافيا واقتصاديا باتجاه المعاصرة.
إن هذه المحاولات الهادفة إلى إرساء مقومات التحديث وإحداث انقلاب في بنية المجتمع وبناء مؤسسات تحمل كل مقومات وعناصر التحديث، كانت دوما في أولويات سياسية الرئيس علي عبدالله صالح، بل شكَّل الخيار الأساسي في سياسته لبناء الدولة الحديثة، وهذا ما جعل الصراع نحو التحديث على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي يشكل جوهر مسار الاختيار لبنيان الدولة ومؤسساتها الرسمية والمجتمع المدني.
وهكذا شكَّل الطريق نحو الحداثة والمعاصرة في مسيرة العمل السياسي والقيادي للرئيس علي عبدالله صالح التحدي الكبير في سيرورة بناء الدولة الحديثة المعاصرة وإرساء دعائم دولة معاصرة قادرة على استيعاب التاريخ وضرورات التطور باعتباره امتدادا من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، امتداد سيرورة وصيرورة وتغيير وتطور وتحول.
ثالثاً: تحديات مواجهة التعصب والعنف والتطرف
تشكل مظاهر العنف والتعصب منظومة من التحديات التاريخية التي تواجه المجتمعات الإنسانية والعقل الإنساني في العصر الحديث.. وإذا كان العنف بمظاهره المتنوعة والتعصب الاجتماعي بأشكاله المختلفة يشكلان الداء الذي ينخر في جسم المجتمع ويعبث في الوجود الثقافي، والتحدي الذي يعصف بقدرات المجتمع ومستقبله، وبنهوضه الحضاري، فالضرورة تقتضي التمعن في هذه الظواهر الخطيرة ومعرفة منابعها، وذلك للوصول إلى مكامن هذا الداء، من خلال دراسة الواقع وأثره في تكوين عقلية الإنسان وجذور ثقافته.
وخلال مسيرة تطور وتعرجات وتعقيدات الواقع السياسي، تطورت مفاهيم العنف والتعصب، بحيث أضحت خطورتهما تهدد مفاصل الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي، لدرجة أن مظاهر العنف والعدوان والتعصب أخذت تشكل منظومة من التحديات التاريخية التي تواجه المجتمع والعقل الإنساني في العصر الحديث. وتأتي التغذية المنظمة والموجهة لمظاهر التعصب والعنف، لتجعل من التطرف منهجا متميزاً للانغلاق والتصلب والوحشية، فتنتفي هنا إرادة الإقناع ويختفي منطق التسامح، وبمنطق هذه الثقافة ينزع المتعصبون إلى تحريف وتشويه وإساءة تفسير الوقائع التي تتعارض مع آرائهم المحددة سلفاً، وتتكون لديهم غالباً أحكام مسبقة عن الآخرين مصحوبة بسوء طوية عميقة وحقد شديدين تجاههم، واستشعارا بمخاطر العنف وما يشكله من تهديد للمجتمع، وحرصا على مواجهة هذا التحدي بمسؤولية وجدية مع قناعته في صياغته رؤية سلمية وسياسة تسامحية لمواجهة مخاطر العنف والتطرف والعمل على إزالة مكامن تلك المخاطر ليعيد الوئام والاستقرار، وتجسد ذلك بتشكيل المؤتمر الشعبي العام كحزب سياسي شكل مظلة لكل القوى السياسية، وكان لهذه الرؤية والسياسة أثرها على صعيد الواقع، حيث أخذت الساحة السياسية الرسمية والمدنية في اليمن مع كل محاولات رجال السياسة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والمثقفين والاقتصاد ورجال ومؤسسات الإعلام والكتاب، تدرك أن العنف يعتبر التحدي الخطير والأكبر أمام بناء الدولة الحديثة والمجتمع السلمي في اليمن، وهكذا أضحت المسؤولية جماعية وتهدف إلى تجنيد الإمكانات، وذلك للعمل وفق سياسات تهدف لإحداث تغيير في أساليب التربية للإنسان وفي وعيه ورؤيته للحياة، من خلال تأصيل روح التسامح والحوار وقبول الآخرين.
وبالتمعن في كل تلك المحاولات السياسية والاجتماعية والجهود العلمية، نجدها تحمل آمالا سامية، وإن كانت قد بدأت تحقق بعض التأثيرات الإيجابية ومع ذلك فإنها ظلت تصطدم بالمخاطر الخارجية مع سلوك البعض الذي لا يريد السلام والاستقرار لليمن، وهم من تتحكم في سلوكياتهم ثقافة العنف، وينزعون إلى التسلط ورفض الحوار ومخافة الرأي، وفي كل الأحوال ومع كل الجهود والمحاولات.
رابعاً: تحديات البناء الديمقراطي في الحياة السياسية والاجتماعية
الديمقراطية التي تقوم على مفهوم المشاركة الشعبية الواسعة هي التي لها مكامن التأثير الكبير في الإنسان وفي كافة مناحي الحياة السياسية والاجتماعية، لكونها تفتح المجال لطاقات المجتمع في أن تتفجر لتنتج ثمار المعرفة وترتقي بالمسؤوليات في البناء النهضوي وتوقظ لديهم الوعي السياسي والاجتماعي والتنموي.
واليمن بالرغم من صعوبات وتعقيدات الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أخذ يشق طريقه في صياغة تجربته السياسية، فالتعددية السياسية أضحت حقيقة دستورية وممارسة سياسية تتفاعل مع الواقع بكل إيجابياته وتعقيداته وتعثراته. وفي الواقع الاجتماعي السياسي أخذت منظمات المجتمع المدني تعبر عن ميلاد نفسها وأهلية وجودها وحركة تأثيرها.
وعلى صعيد الحكم بات محاولات جادة لوضع اللبنات الأساسية لفكرة التداول السلمي للسلطة، وكانت الانتخابات الرئاسية الأخيرة 2006م بداية تعبير هادف وجاد على صعيد الممارسة السياسية، وعلى صعيد الرأي العام أخذت حرية التعبير بكل وسائلها تسعى لتعبر عن ميلادها ووجودها وأهليتها. وهكذا وفي خضم هذا التفاعل السياسي يتم بناء تجربة تسعى لأن تعلن عن خروجها من الشعارات إلى المفاهيم.. وأن ترتقي إلى مستوى التحول النوعي في طبيعة الثقافة السياسية وأشكال الوعي السياسي وبمقتضيات التحول الذي يفعل فعله ويحقق تأثيره في هذا الواقع.
خامساً: تحديات التنمية في مسيرة بناء وتطور الدولة الحديثة
سعى الرئيس صالح في كل محاولاته إلى استيعاب حقيقة أن أساس نجاح التنمية المستدامة والشاملة هو تعبئه القدرات البشرية، ووسيلتها المعرفة، ومحور مرتكزاتها هو الإنسان، وأن ذلك لا يتحقق في صورته الواسعة والفاعلة، إلا بتأسيس البنيان السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الدولة على الديمقراطية بمفهومها الحقيقي القائم على سلطة الشعب . وأن تأثير الديمقراطية لابد وأن يخترق كل مستويات المجتمع، ليكون الشعب قادرا على المشاركة الفعالة في الحياة السياسية والتنموية، وتكون المعرفة في متناول كل القادرين على المشاركة الفاعلة في التنمية، حتى يجد الإنسان في هذا المناخ الفرصة لأن يجند كل الإمكانات لتنمية مستدامة، وأن توجه التنمية من أجله وبه. ومن هذا المنطلق جاء الدستور ليشكل عقدا اجتماعيا سلميا، ويؤسس نظاما سياسيا تعددياً، ويجعل مهمة تحقيق هذا البناء من مسؤولية الدولة بمؤسساتها الرسمية ومنظمات المجتمع المدني والمجتمع بأسره.
يضيف من جهته أحمد الحبيشي، في ما يتعلق بالتنمية قائلاً: "بصرف النظر عن النجاح الكبير الذي حققته حقبة الرئيس علي عبدالله صالح على امتداد (33 عامـا) من عمر الثورة اليمنية في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبناء البنية التحتية للدولة الوطنية الموحدة في مجالات الصحة والكهرباء والطرق والجسور والنفط والغاز والمعادن والاتصالات والتعليم والمياه والصناعات التحويلية والاستخراجية والملاحة البحرية والنقل البحري والجوي والموانئ والمطارات وهو ما يحتاج إلى حيز مستقل، إلا أن الرئيس علي عبدالله صالح نجح في رفد المقومات الاقتصادية للدولة الحديثة بمقومات أساسية أخرى ذات قواعد دستورية وقانونية مرنة ومتطورة، انطلاقـا من الإدراك العميق لأهمية خضوع الدولة الحديثة لحكم القانون، بعيدا عن حكم وسلطة أشكال المجتمع القبلي الموروثة عن مرحلة ما قبل الدولة".
وتفنيدا لتوجيهات الرئيس علي عبدالله صالح، فقد بذلت الحكومات المتعاقبة جهودا كبيرة في تحسين بيئة الاستثمار، من خلال تقليص تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية وتطبيق مبدأ النافدة الواحدة للتعامل مع كافة المشاريع والأنشطة الاستثمارية عبر جهة واحدة هي الهيئة العامة للاستثمار، حيث تم التوقيع على العديد من اتفاقيات التفاهم بين الهيئة وكافة الجهات الحكومية ذات الارتباط بالنشاط الاستثماري، حيث حددت تلك الاتفاقيات كافة الاختصاصات والمهارات التي تقوم بها مكاتب الجهات المعينة لدى الهيئة العامة للاستثمار.
كما صدر قرار مجلس الوزراء في نهاية العام 2007 بشأن إنشاء الهيئة العامة القابضة للتنمية العقارية والاستثمارية والتي تم تسليمها كافة أراضي الدولة الصالحة للأنشطة الاستثمارية لتقوم بإدارتها والترويج لها والدخول بها كشريك مساهم في المشاريع الاستثمارية مقابل قيمة الأراضي.
وقامت الحكومة بإقرار مصفوفة تحرير مناخ الاستثمار وإصدار القرارات اللازمة لتنفيذها وتفعيل دور المحاكم التجارية وتخصيص قاض فيها للبت في قضايا الاستثمارية.
وشهد العام 2007 حدثا استثماريا كبيرا تمثل في انعقاد مؤتمر فرص الاستثمار في الجمهورية اليمنية، بمشاركة واسعة من الشركات والمؤسسات الخاصة في اليمن ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وقد أسفر المؤتمر عن توقيع العديد من الاتفاقيات لمشاريع استثمارية واعدة وكبيرة بقيمة إجمالية تصل إلى (7‘3) مليار دولار.
وفي إطار جهود الحكومة لتحسين البيئة الاستثمارية وتعزيز وتطوير نتائج هذا المؤتمر شهدت مدينة المكلا بمحافظة حضرموت، في بداية عام 2008 التظاهرة الاستثمارية والاقتصادية الممثلة في مؤتمر الاستثمار السياحي والعقاري الذي نظمته غرفة تجارة وصناعة حضرموت بالتعاون مع الهيئة العامة للاستثمار ووزارة السياحة يومي 26 و27 مارس من ذلك العام، عُرضت فيه فرص استثمارية حقيقية وجاهزة على رجال الأعمال بتكلفة استثمارية بلغت (3) مليارات دولار.
كما تم تشكيل لجنة فنية بقرار من مجلس الوزراء تتولى الإعداد والتحضير لعقد منتديات اقتصادية دورية للترويج للاستثمار على مستوى القطاعات الاقتصادية ومنها مؤتمر الصناعة مستقبل اليمن الذي عقد في مدينة المكلا بومي 22و23 ديسمبر من عام 2008 والذي نظمته غرفة تجارة وصناعة حضرموت ووزارة الصناعة والتجارة.
أهم المنجزات: الوحدة اليمنية
تعد الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990م والحفاظ عليها عام 1994م أهم منجزات الرئيس علي عبدالله صالح.. بعد أن ظلت على مدى ثلاثة عقود ونيف منذ قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر و14 أكتوبر، الاستقلال عام 67م، مجرد مشروع تاريخي واجتماعي وسياسي طويل الأمد.
ولعل أهمية هذا المنجز تكمن في تجاوز الرئيس صالح كل الخطوط الحمراء التي وضعتها السعودية ودول أخرى.
لقد كان إدراك الرئيس صالح لالتقاط اللحظة التاريخية المواتية للنجاح كبير، وهي لحظة وفقاً للواء علي حسن الشاطر "يمكن أن يكون النجاح قبلها غير ممكن، وبعدها سيغدو مستحيلاً.. وقد جاء تحديد هذه اللحظة التاريخية الحاسمة بمثابة نتاج الاستقرار التاريخي للمتغيرات الكونية المعتملة حينها، واستشفاف صائب لأبعادها وآفاقها المستقبلية، والقدرة في الوقت ذاته على التعاطي الإيجابي المثمر معها، وبما يخدم مصالح الشعب اليمني، وتحقيق أعظم أهدافه الثورية النضالية وأغلى أمنياته التاريخية.
تميزت هذه الوحدة بأنها أعظم وأكبر الثورات اليمنية السلمية من حيث المتغيرات الجذرية الشاملة والاستراتيجية التي أحدثتها في الخارطة الجغرافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، وفي طبيعة العلاقات وتوازن المصالح على الساحة الوطنية والإقليمية.
حقبة الهدم
مطلع 2012م وجراء أزمة 2011م، سلَّم الرئيس صالح السلطة لخَلَفه عبدربه منصور هادي، ولعل ما جعل المراقبين للمشهد السياسي اليمني يشيدون بالتجربة اليمنية في نقل السلطة، هو الدعم غير المسبوق إقليمياً ودولياً للرئيس الانتقالي هادي، والالتفاف الشعبي حوله، وبما يضمن الابتعاد باليمن كلياً من مرحلة الخطر، وإعادة اليمن إلى مساره الطبيعي لاستكمال ما تم بناؤه في عهد سلفه الرئيس علي عبدالله صالح.. ولكن سرعان ما اتضح حجم الكارثة المتمثلة في شخص الرئيس الجديد (هادي) الذي استعدى مختلف القوى الفاعلة، وضرب بعضها ببعض، بالتزامن مع تفكيك المؤسستين العسكرية والأمنية تحت مسمى (الهيكلة) وبدلاً من الالتزام بفترته كرئيس انتقالي المحددة بعامين، والدعوة إلى انتخابات تضمن ترشحه لولاية رئاسية بانتخابات تنافسية، سخر كل إمكانيات الدولة والدعم الخارجي لإجهاض مؤتمر الحوار الوطني والتمديد لنفسه، وخرج بقاعدة صاغها مستشاره أمين عام الحزب الاشتراكي اليمني حينها الدكتور ياسين سعيد نعمان "الفترة الانتقالية مهام وليست زمناً، وطالما أن المهام لم تتحقق فإن الفترة الانتقالية باقية حتى تحقيقها".. وأما النتيجة التي وصلنا إليها اليوم فلا تحتاج لمن يعرفها.. وطن ممزق، احتراب داخلي، عدوان خارجي غاشم، تمكين التنظيمات الإرهابية (القاعدة وداعش) وإحلال المليشيات محل الجيش والأمن، وغياب الأفق لأي حلول تعيد اليمن إلى مساره الصحيح.