المنهج الأمني في نهـج البلاغـة
الجمعة, 13-أكتوبر-2006.جريدة البينة - العمل الامني قانون كوني، وهو سنة الحياة في جوانبها التكوينية والتشريعية والعقلانية والعرفية، بدوافع الميزان الحق، او صون الامانة الكبرى، او حماية المصالح وقد جند الله سبحانه وتعالى لهذا المنهج مصادره وعيونه لا من جهل او عجز او غفلة وكيف وهو الخبير البصير ، الحاضر في كل شيء والمحيط بكل شيء وهو اقرب الى الانسان من شعوره وهو الذي يحول بينه وبين قلبه.. لكنها سنة من سننه جل ثناؤه ان يجري كونه ونظام هذا الوجود على الاسباب والقوانين الطبيعية، ونظام المعقول ، وشبكة العلل التي تترابط بعضها ببعض في التدبير والجذب والتفاعل.
ومنْ شعب الصبر المطلوب للعاملين في هذا الخط كدرع حصينة تقيهم المساوئ الاخروية: شعبة الصبر على الطاعة، وتقوى الله بالتزام منهجه المطلوب في عمل خطير ومهم ليس بينه وبين المحذور الشرعي الا كقيد أنملة أو اقل من ذلك، وهذا في الواقع من اقسى معاناة العاملين في هذا المنهج، فهم اضافة الى كونهم مع خط المحنة محنة التصورات القاسية عنهم، وقيامهم باثقل الاعمال في منتهى السر والخفاء، فانهم اقرب من غيرهم الى الورطةوالشرعية التي لا تتمثل في ذنب يغفر، أو سيئة تمحى، بل في ظلم تبقى اوزاره، وتبعات وحقوق لا تتسع لها ساحة العفو الالهي، ومن هنا كان صبر التقوى، والصبر على المعاصي بظلم العباد من الزم شعب الصبر لهم.
الدقة في العمل، والفطنة اللازمة فيه، حيث ان وظيفة العمل الامني مهمة شاقة يراد بها النفوذ الى محق الباطل والانحراف ومكائد الخصوم، وهذا النفوذ مع ملاحظة طبيعة كيدهم، ومكرهم، وحراستهم لاهدافهم ومساعيهم، يتطلب غاية الانتباه ومنتهى الفطنة والذكاء للتسلل الهادئ الرزين الى الواقع، وهذا يستدعي ايضا سعة الصدر
برحابة الهدف الكبير والتي تتسع حتى للمرارات والالام والمكابدات باتجاه الهدف، فلكل ساع الى هدفه آلامه والعقبات التي تقف امامه على الطريق، وتستلزم ايضا النفس الطويل في الملاحقة، وحسن المداراة للخطوات، والمعالجة للمواقف، وقدرة التخلص في المواطن الحرجة، وذكاء التبرير للتصرفات التي تثير شك الهدف، وهدوء الاعصاب ببرودة الثلج فيما يستفز من الموارد، والتظاهر بالمعية تظاهرا لا يرتاب معه الخصم المستهدف في انه يعتمد خير اعوانه وانصحهم له، وبدون التظاهر بها لا يمكن الوصول الى السر الكامن في القلب الذي لا ينفتح الا لمن امتلكه بالاحسان، والارضاء، واحتلال مكانة الحب المؤدي الى التسليم.
والتظاهر بالمعية يقدر بقدر الضرورة واهمية المطلوب، وقد يفسح فيه في مجالات معينة بما يتسع للغاية ويحقق المراد. وهذا خاضع لتشخيص الموضوع، والاجازة الشرعية المبتنية على ذلك التشخيص، وقد تتطلب المعية الهادفة حالة من الازدواجية المدروسة اذا توقف المبتغى عليها فان (الطعم) في الازدواجية أسرع تأثيرا، واقرب الى المنشود، لما يوجده من حالة الاطمئنان عند المستهدف، وعن طريق الاطمئنان يكون النفوذ. ومن هنا تنشأ مشكلة عمل المصدر في الاجواء الفاسدة التي لابد من كشفها، و لاتنكشف الا بعناصر نافذة في اوساطها، ولا تستطيع هذه النفوذ الا ان تكسب ود تلك الاجواء ورضاها، وهذان لا يتوفران الا بحسن التظاهر والانسجام معها من قبل المكلفين بالنفوذ فيها.
ومن هنا يثار الكلام حول استخدام عناصر منحرفة في تلك الاوساط، وهي مستعدة لان تجند نفسها لكشف الحقيقة لمن يجندها لذلك بالطرق والوسائل الممكنة، وهي صادقة في عملها وتقدم فيه الادلة والبراهين. ويأتي الحديث في هذا المجال حول معالجة فساد الامة بفساد فرد او افراد، ومقابلة الضرر الاهم بالضرر المهم، والتغاضي عن انحراف عنصر من اجل قضية خطيرة، واستخدام شخص غاوي من اعماق الغواية لمعرفة خيوطها وذويلها، فان هذا طبعا ايسر من ترتيب مقدمات النفوذ الى محيط الانحراف من الخارج. هذه الاثارات وغيرها تعالج بالتكليف الشرعي المأخوذ من الولاية، التي تشخصه حسب تشخيص الموضوعات، حيث تسعفها الضرورات، والمصلحة العليا، والعناوين الثانوية، وقضية توقف القضايا الكبرى على بعض الامور الصغيرة، وفتح السبل امام الاهداف المهمة حتى بما ظاهره محاذير شرعية، تتسع حتى لقتل الابرياء عندما يتحصن بهم العدو، او أكل الميتة، وشرب الخمر، والغيبة، والكذب، وغير ذلك من المحذورات التي تبيحها الاجازة الشرعية في المطلوبات المهمة والضرورات.وهناك توجيهات ووصايا نافعة في هذه المجالات فيها من الوضوح في البيان، او الاشارة الواضحة، والفات النظر الحكيم ما ينفع السائرين على هذا الطريق الشاق حقا، والمستدعي لصفات وخصائص وطاقات وقدرات نفسية وعقلية خاصة به، وبها وحدها يمكنه ان ينجح، وان يصل الى الغاية المرجوة، وقد اوردنا بعضا منها في ما سبق لاسيما في موضوع (المتصدي للعمل الامني)، ومن المعلوم ان المتصدي والمصدر يشتركان في خصائص يجب ان يتحليا بها ليكونا قادرين على اداء المطلوب منهما.وهناك منها ما يخص المصدر نورد ماورد عن الامام بشأنه، قال عليه السلام في قضية النفوذ بالتزلف والمعية: (مقاربة الناس في اخلاقهم أمن من غوائلهم).
ومن المقطوع به ان مقاربة الشبكات المنحرفة، والخطوط الاجرامية، وخصوم الرسالة، للتعرف على مكائدها، والوقوف في وجهها هو امر مطلوب للامام، فاذا كانت المقاربة مع عموم الناس للامن من غوائلهم امراً مرضياً عنده فانها من اجل دفع الضرر عن الوجود الامة، تكون في اعلى مراتب المحبوبية والمطلوبية له عليه السلام (قارب عدوك بعض المقاربة تنل حاجتك).ومما نكاد نجزم به ان مصادره عليه السلام الذين بثهم في بلاده ما كانوا ليصبحوا له عيونا على الواقع ان لم يقاربوا الناس والولاة والخصوم ليتعرفوا على اوضاعهم ودخائلهم، ونجزم كذلك ان الذي سمح لعقيل ان يتظاهر بالمحبة لمعاوية ليتعرف دخائله كما سمح الرسول للعباس بن عبدالمطلب ان يتظاهر بها مع المشركين، ولا يصدر منه وهو مسلم ما يضر عقيدتهم وشركهم، بل يكون معهم كأنه واحد منهم، ويدخل معهم حتى في معمعة الحرب في بدر في صفهم، انه ليسمح ان تنفذ عناصر الخير في اوساط الشر لتجعل القيادة على بصيرة بالواقع الذي يحيط بها، وما يتهددها فيه من المخاطر والمحاذير، وقد رأى الامام بعينه كيف ان الرسول سمح (لنعيم بن مسعود) المسلم في وقعة الخندق ان يتظاهر بالمعية والموالاة لليهود والمشركين المتحالفين ضد المسلمين، ليكيد لهم بها اشد الكيد، ويفرق كلمتهم (خذل عنا ان استطعت فان الحرب خدعة). ومثل قضية نعيم بن مسعود، مبادرة (بريدة بن الحصيب الاسلمي) في غزوة بني المصطلق والذي جسد دور العنصر المخابراتي النافذ بكل ذكاء وفطنة، واستطاع من خلال ذلك التعرف على اوضاع العدو المتوثب المستعد للهجوم على دولة الرسول الفتية في المدينة المنورة، ويلاحظ في هذه القصة ان الرسول اباح لبريدة المسلم هذا ان يقول ما يراه مناسبا من الكلام لمخادعة العدو، وجلب رضاه كمقدمة لازمة وضرورة للنفوذ في عمق قلبه وسره، واهم لوازم هذا الكلام ان يكون كاذبا ومتملقا، وفيه من التظاهر بالحب والتأييد ما يؤدي الى الغرض المذكور.ومن هذه القواعد المتصلة مباشرة بالحرب الامنية، والتي جسدها الامام بالفعل الملموس (قاعدة التهديد والتخويف) لاجبار الطرف المتهم بالارتباط المخابراتي على الاعتراف، وهو ما قام به الامام عليه السلام في قضية حاطب بن ابي بلتعة، حيث لاحق الامام بعثته الى قريش، وهددها بالقتل ان لم تخرج الرسالة التي بعث بها حاطب الى مكة يخبر فيها قريشا مصانعة لها بعزم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على فتح مكة (لاقتلنك أو لتخرجن الكتاب) هذا على رواية، وفي رواية اخرى هددها بكشف ثيابها لمعرفة ما اخفته تحتها (لتخرجن لنا الكتاب او لنلقين الثياب).