تداعم الإسلام و الديمقراطية
السبت, 16-ديسمبر-2006بقلم/د.عبدالملك منصور - لعل من اهم المعضلات التي ظلت تواجه البشر منذ القدم معضلة تنظيم الاجتماع البشري بمختلف جوانبه. و مع استمرار المعضلة استمر العقل البشري في محاولة حلها من خلال تقديم اجتهادات عدة متتالية ربما كان من اهم سماتها- الايجابية- التطور عبر الزمن و – السلبية- الافتقار للنظرة الشمولية و، احيانا، التناقض الداخلي. ولم يكن تنظيم الاجتماع البشري هما بشريا فحسب بل ظل ايضا مقصدا الهيا ركزت عليه الرسالات السماوية المتتالية الى البشر. و قد تراوحت العلاقة ما بين الاجتهادات والجهود البشرية من جانب و الرسالات والمساعي الالهية من جانب اخر، في ما يتعلق بتنظيم الاجتماع البشري، ما بين التعاون و الاقرار و التغافل و التباين و التعارض و التصادم و الاقتتال.
و من بين مختلف جوانب الاجتماع البشري التي يلزم تنظيمها، مثّل تنظيم الجانب السياسي الامر الاكثر جذبا للاهتمام و ، في نفس الوقت، الاكثر اثارة للخلف و الجدل. و من بين انظمة الحكم العديدة و المتباينة التي بلورتها / جربتها البشرية برزت الديمقراطية في العصر الراهن باعتبارها النظام الاكثر جاذبية لدى عامة الناس و خاصتهم الا قليلا و ان لم تكن كذلك دائما في العصور الماضية حتى عند النخب الثقافية و الفلسفية التي عنيت بالتنظير السياسي.
اولا- مفهوم الديمقراطية:
تتعدد و تتباين مفاهيم الديمقراطية و خاصة مع تباين التصورات او النظرة الكلية للوجود/ الاجتماع البشري و– احيانا كثيرة– مع تباين الاهواء و المصالح الخاصة. و بينما يعود بعض هذا التباين الى تباين العقول و تباين زوايا و خلفيات النظر فان بعضه الاخر يعكس،اساسا، ميل البعض الى تبرير او ترويج تصوراتهم / اهوائهم و إن من خلال تحريف او تشويه مفهوم الديمقراطية. و عادة ما يلجأ هؤلاء الى تبني إما مفهوم انتقاصي للديمقراطية إن تعذر الجمع بينها وبين تصوراتهم/ اهوائهم و إما في المقابل- مفهوم انتقائي يتيح الجمع بينها وبين تصوراتهم/ اهوائهم. و قد يدعــــــي بعضهم التطابق الكامل بين الديمقراطية و تصوراتهم/ اهوائهم بينما يحاولون الايهام بالانفصال التام بينها و بين ما سوى تصوراتهم/ اهوائهم على نحو ينم عن رغبة دفينة في الاستئثار بالديمقراطية و ايثار تصوراتهم/ اهوائهم دون غيرها بما للديمقراطية من جاذبية و شرعية يقرهما و يهفوا اليهما السواد الاعظم من الناس.
و بدون الدخول في محاولة لاستقصاء و تقييم المفاهيم المتعددة للديمقراطية، نحسب انه يمكن تحديد المفهوم الموضوعي و المجرد للديمقراطية، من منظور قيمي وظيفي، بانه " تشارك الناس، أفرادا و شعوبا و تنظيمات ودولا، في تداول و تقرير و إدارة أمرهم العام أو المشترك و خاصة السياسي في حرية و على قدم المساواة ".
و يتضح من هذا المفهوم :
- تتأسس الديمقراطية على مراعاة قيمتين اساسيتين هما الحرية و المساواة و تُعنى الديمقراطية بالقيم الاخرى ، كالعدل و الحق ، فقط بقدر علاقتها بقيمتي الحرية و المساواة.
- تنظم الديمقراطية جانبا من الاجتماع البشري و ليس كل جوانبه و من الواضح انه ليس للديمقراطية شأن بما ليس امرا عاما او مشتركا.
- مقتضى الديمقراطية هو رفض استبداد البعض بالامر العام/ المشترك او بأمر الاخر و رفض اللامساواة التي تخل بالاشتراك في تقرير الامر العام/ المشترك
- علاقة أي من التصورات الكلية بما فيها الليبرالية و الاسلام و الماركسية و ...الخ بالديمقراطية تحددها مواقف هذه التصورات من تشارك الناس في تقرير الامر العام/ المشترك في حرية و مساواة و من – ضمنيا- الاستبداد و اللا مساواة و موقف الديمقراطية من اسس و ثوابت تلك التصورات.
ثانيا- تقييم الديمقراطية:
لعل من المتفق عليه على نطاق واسع ان الديمقراطية هي افضل نظام حكم طورته البشرية. و لا احسب ان المقام يستدعي استعراض ما للديمقراطية من محاسن و مفاخر ليس فقط لان هذا المحفل الكريم في غنى عن مثل ذلك و انما ايضا لانه لم تعد اشكالية الديمقراطية، في هذا العصر، هي الشك في او انكار محاسنها و ايجابياتها بقدر ما هي تضخيم البعض لتلك الايجابيات احيانا لدرجة الالتهاء بها عن ضرورة الاهتمام الفعال بتطوير الديمقراطية و احيانا لدرجة الافتتان بالديمقراطية على نحو يدفع الى محاولة فرضها ولو عن طريق "فتوحات ديمقراطية" تعيد للأذهان سير الفتوحات الدينية التي كلفت البشرية كثيرا ، و لجوء البعض الاخر الى "النفاق الديمقراطي" القائم على الاحتفاء المبالغ بتلك الايجابيات ظاهرا او نظريا و تجريد الديمقراطية منها باطنا او عمليا بدوافع و لاغراض شتى .
ان الاقرار بان الديمقراطية تمثل نظام الحكم الافضل لا يعني بالضرورة انه ليس للديمقراطية عيوب او نقاط ضعف، بعضها جوهرية. بيد ان هذه العيوب كثيرا ما يساء تحديدها اساسا- اذا ما تجاوزنا تعمد التشويه احيانا- إما بسبب سوء ادراك مفهوم الديمقراطية و الخلط بينه وبين مفاهيم اخرى وثيقة الصلة كالليبرالية و إما بسبب الغفلة عن اهمية التمييز بين جوهر الديمقراطية و تجاربها التطبيقية. على انه و لاسباب شبيهة و ربما بذات القدر الذي يخطئ به البعض تحديد عيوب الديمقراطية يخطئ البعض الآخر تحديد امتيازات و ايجابيات الديمقراطية. و على سبيل المثال، كثيرا ما يميل البعض، و خاصة في العالم الاسلامي و ربما في ما يسمى بالعالم الثالث عموما، الى تحميل الديمقراطية كل عيوب المجتمعات الغربية الديمقراطية بينما – في المقابل- يعجز البعض الاخر عن التمييز الدقيق بين ايجابيات الديمقراطية و انجازات التصورات الكلية المصاحبة لبعض تجارب الديمقراطية كالليبرالية و الراسمالية.
كذلك يتطلب التحديد الدقيق و العملي لعيوب أي نظام او تصور سياسي ما التمييز بين العيوب التي تعكس قصورا في فلسفة و فكر او تنظير ذلك النظام و بين العيوب او – بالأحرى- الاشكالات العائدة الى ما يفرضها الواقع احيانا من قيود قاهرة على تنفيذ او تطبيق ذلك النظام. اذ ليس من الحكمة الخلط بين عيوب جوهرية و عيوب ليس كذلك بالضرورة. و من امثلة النوع الاخير من العيوب الانتقاد الذائع لنيابية الانظمة الديمقراطية. فصحيح ان النيابية عيب كبير له مضاعفات سلبية عديدة و ينبغي استمرار البحث في سبل معالجتها و لكن ليس من الموضوعية افراد الديمقراطية بذلك العيب كما لا يبدو صائبا اعتباره- كما يحاول البعض تصويره- عيبا جوهريا في الديمقراطية طالما ان من المعلوم ان الديمقراطية لا تشترط النيابية و لا تمانع بل تسعى لان تكون ما امكن ديمقراطية مباشرة و لكن القيود الواقعية و العملية التي يتعذر التغلب عليها على الاقل في الوقت الحالي هي التي تفرض اللجوء الى النيابية.
و مع ذلك تبقى للديمقراطية عيوب اساسية معدودة يتعذر تبرئتها منها و ان كان يكفي الديمقراطية امتيازا و فخرا ان عيوبها معدودة. و من تلك العيوب:
1- المعيار الذي تحكم به الديمقراطية على مدى مشروعية / صواب القرار العام او التشريع القانوني هو اساسا معيار شكلي او اجرائي يقضي باعتبار القرار/ التشريع مشروعا او صائبا فقط اذا صدر عن اغلبية او اجماع او موافقة الجهة المفوضة. و لا تشترط الديمقراطية، في حد ذاتها، لمشروعية القرار او التشريع معايير مضمونية ، أي تتعلق بمضمون القرار او التشريع، سوى بعض القواعد المستمدة من، اساسا، قيمة الحرية و، الى حد ما، قيمة المساواة. و على اهميتهما الكبيرة فان قيمتي الحرية و المساواة و خاصة بمفهوميهما المعيبين الشائعين في الفكر الديمقراطي لا تكفيان لترجيح ما اذا كان مضمون قرار او تشريع ما يعد صائبا/ صالحا ام لا.
و لعل مما يبعث على التفاؤل ان وجود ادراك متنام لجسامة هذا العيب قد دفع الى العمل على معالجته من خلال اشتراط التزام القرار/ التشريع الديمقراطي بمراعاة عدم تعارض مضمونهما مع مضامين القانون الطبيعي و – لاحقا- مع مضامين بعض الوثائق المحلية ( كالدستور) او الدولية ( كالمعاهدات و العهود الدولية) لاستكمال شرعيته. بيد ان من الواضح ان هذا الاشتراط- اولا- ليس مستمدا من الديمقراطية بقدر ما هو مفروض عليها للحد من عيوبها و – ثانيا- يعيبه غموض فكرة او مفهوم القانون الطبيعي والخلاف الواسع حول مضامينه و كون الوثائق المشار اليها تتقرر و تعدل او تلغى الزاميتها او مشروعيتها في النظام الديمقراطي بذات المعيار الديمقراطي الشكلي المعيب.
2- تفترض الديمقراطية ان البشر يقررون او يشرعون ديمقراطيا ما هو صالح (لهم) او ما يتعين او ينبغي اتباعه بغض النظر عما اذا كان صالحا ام لا ولذلك يتعين ترك سلطة التقرير/ التشريع للبشر. و مما يعيب هذا الافتراض إغفاله للاثر السلبي لمحدودية المعرفة البشرية عموما و خضوع البشر، افرادا و جماعات، عادة لسلطان الهوى على صلاح القرار او التشريع البشري. ولا يخفى خطل و خطورة اطلاق القول بلزوم اتباع القرار او التشريع (البشري او غير البشري) و ان كان غير صالح. و بينما لا تنكر الديمقراطية ان صلاح أي قرار او تشريع يتطلب المعرفة الكافية بالموضوع محل القرار او التشريع و ما يتعلق به و التجرد الكامل من سلطان الهوى في اصدار القرار او التشريع الا انها لا تقدم لدعم تحرر القرار او التشريع البشري من سلطان الهوى البشري و من اشكالية محدودية المعرفة البشرية سوى ما تفترضه من ان من شأن آلية توازن المصالح في النظام الديمقراطي كبح سلطان الهوى او آثاره السلبية و ما تراه- بحق – من ان من شأن الحرية اثراء المعرفة البشرية.
3- ضعف اهتمام الفكر الديمقراطي بتأمين متطلبات و مقومات فعالية الديمقراطية على المستوى العملي. فمع ان من المؤكد ان نجاح و فعالية الممارسة الديمقراطية يعتمدان كثيرا على طبيعة البيئة التي تتم فيها الممارسة بما فيها البيئة التعليمية و الثقافية و الخلقية و الاقتصادية و الاجتماعية الا ان الديمقراطية لا تشترط تنظيرا و لا تؤمن عمليا خلق او ايجاد او الحفاظ على البيئة الاكثر تناسبا لانجاحها و تعظيم فعاليتها و كفاءتها. وعلى سبيل المثال بينما الديمقراطية تتأسس فكريا على مقولة ان الناس في الاصل متساوون و احرار و – في نفس الوقت- لا تنكر بانه قد تم و يتم عمليا الاخلال بالمساواة و الحرية الاصليتين الا انها ليس فقط لا تفعل الكثير لرفع او منع ذلك الاخلال بل تسهم نظريا وعمليا في تفاقم ذلك الاخلال بمبدأيها و قيمتيها الاساسيتين اي الحرية و المساواة. ففشل الديمقراطية في تقديم مبرر نظري او اساس فكري مستمد من فلسفتها لضبط الحرية الاقتصادية- حتى لا تمس قداسة الحرية في ما تقدر- تؤدي بالضرورة الى الاخلال بالمساواة و تقود في النهاية الى احتكار السلطة الاقتصادية و – بالتالي- السلطات الاخرى و بحيث لا تعد الحرية نفسها قيمة بل سلعة رخيصة تباع ( من قبل المحرومين) و تشترى ( من قبل الموسرين) و تقع الديمقراطية ذاتها عمليا تحت طائلة الاحتكار. و بالمثل بينما فعالية المشاركة، قوة و نوعا و استمرارية، من قبل عموم المواطنين ضرورية لتامين فعالية و استقامة الديمقراطية لا تقدم الديمقراطية كثيرا لتفعيل مشاركة المواطنين بل تؤكد حرية المشاركة و عدم المشاركة على السواء ربما اعتمادا على افتراضها بان من شأن آلية الاستفادة من المشاركة و التضرر من عدم المشاركة كفيلة بالدفع الى المشاركة و هو افتراض معيب نظريا و اثبت عدم كفاءتها عمليا الواقع المتدني للمشاركة في الانظمة الديمقراطية.
و نتيجة لما تمهد ذكر بعض أمثلتها من العيوب الكامنة في التنظير الديمقراطي، و ليس نتيجة فقط للخلل في الممارسة ، كان طبيعيا ان تسفر التجارب الديمقراطية عن شواهد عملية عديدة على :
- الفشل في منع الاستبداد من قبل انظمة/ برلمانات ديمقراطية او بمباركة منها و،احيانا، وفق اجراءات ديمقراطية.
- القصور احيانا عن - كما يفترض في الديمقراطية- حسن تمثيل الارادة العامة و حسن التعبير عن رغبات و مواقف الجمهور او اكثريته و الاسهام الفعال فى توجيه الموارد المتاحة الى ما يحقق المصلحة العامة و المتوافقة اكثر مع المبادئ العامة المتفق عليها دوليا و محليا
- تكريس نخبوية- بدلا عن جماهيرية- الحكم و احيانا من نخبة لا تمثل الاكثرية
- محدودية النجاح في تحقيق الشفافية الكافية و تامين عقلانية القرارات و التشريعات الديمقراطية و في منع فساد المسئولين/ الحكومة.
ثالثا: علاقة الاسلام - الديمقراطية:
العامل الاساسي، و ربما المحدد، في بيان مدى وطبيعة علاقة كل من الاسلام و الديمقراطية ببعضهما هو مفهوم المرء للديمقراطية و فهمه للاسلام. و حيث تتباين مفاهيم الديمقراطية، على نحو ما سبقت اليه الاشارة، كما يتعدد و يتباين فهم الناس للاسلام، على النحو المعلوم، لم يكن بد من ان تتباين بل و تتعارض احيانا التصورات السائدة لعلاقة الاسلام – الديمقراطية. و تتراوح ما وقفنا عليه من تصورات لهذه العلاقة ما بين نفي وجود أي علاقة بين الاسلام والديمقراطية، و اقرار وجود علاقة بينهما و لكن مع التشديد على تعارض الديمقراطية و الاسلام و ضرورة اقصاء كل منهما للاخر، او القول بجواز الجمع بينهما تكتيكيا او مرحليا او بشروط، او التأكيد على عدم تعارض الديمقراطية و الاسلام و إمكان و- عند البعض- وجوب / افضلية الجمع بينهما.
و في الامكان الوقوف على تفاصيل حجج كل فريق او موقف من مظانها المعروفة بغرض التقييم التفصيلي لها و هو ما لا يتسع له مثل هذا المقام . بيد ان مما يمكن قوله هنا بايجاز حول علاقة الاسلام- الديمقراطية اعتمادا على المفهوم المذكور سابقا للديمقراطية و بناء على ان المعني بالاسلام هنا – في ما يلي- هو البيان الشرعي أي نصوص القرآن الكريم و صحيح السنة:
- من الواضح تماما انه اذا ما افترضنا ان دينا ما هو من عند الله جل جلاله و ان المراد به هو بالضرورة اصلاح البشر لا يعد مقبولا او سليما منطقيا او عقليا القول بانه ليس لهذا الدين شأن باصلاح الاجتماع البشري!. فمثل هذا القول لا يخلو من سوء فهم وسوء تقدير- ان لم تقل انتقاص- واضح لقدر الله سبحانه و تعالى اذا ما اخذنا في الاعتبار ما اصبح معلوما بالضرورة، بفضل تطور المعرفة البشرية، بان من السذاجة و ضعف النظر الفصل بين اصلاح الانسان و اصلاح الاجتماع البشري او الظن بانه يمكن استكمال اصلاح الانسان دون، او مع اغفال، اصلاح الاجتماع البشري. وحيث ان اصلاح الجانب السياسي من الاجتماع البشري جزء لا يتجزأ من اصلاح الاجتماع البشري فان القول بانه ليس للاسلام علاقة بتنظيم الشأن السياسي او الحكم- وبالتالي الديمقراطية- يتعارض مع التسليم بان الاسلام دين الهي.
نحسب ان المرء ، حتى و ان لم يكن يسلّم بان الاسلام دين الهي، لو أحسن النظر في الاسلام ( البيان الشرعي) بموضوعية و تجرد و بدون موقف او رأي مسبق تمليه هوى او مصلحة غالبا ما تغنيه معاني الاسلام و مقاصده الكلية، عن البحث عن نصوص معينة من البيان الشرعي، في ادراك مدى اعتناء الاسلام باصلاح الاجتماع البشري بمختلف جوانبه بما فيها الجانب السياسي. و قد تكفي هنا الاشارة الى انه اذا لم يكن دارس الاسلام يحتاج الى كثير تمعن لتبين تبني الاسلام العدل ركنا من أركان التوحيد و تنصيبه له قيمة حاكمة و مقصدا اعلى في سائر علاقات هذا الوجود فانه لا يبدو مقبولا منطقيا الزعم بان هذا العدل لا يشمل العدل السياسي او الزعم بان الاسلام و إن اهتم بالعدل الشامل بما فيه العدل السياسي الا انه أغفل الاداة الاساسية لتحقيق هذا العدل في الاجتماع البشري أي تنظيم السلطة / الحكم . و حيث ان تنظيم السلطة / الحكم هو الموضوع الاساسي للديمقراطية لا يعد هناك مبرر عقلي مقبول لنفي العلاقة بين الاسلام و الديمقراطية بينما ثبت تقاطعهما موضوعا أي اشتراكهما في الاهتمام بذات الموضوع.
و إذا ما تأكد، في ضوء ما تمهد، وجود علاقة بين الاسلام و الديمقراطية فان طبيعة هذه العلاقة يحددها موقف الاسلام من ما سبقت اليه الاشارة من اسس الديمقراطية و موقف الديمقراطية من أسس الاسلام المتعلقة بالشان العام او المشترك و خاصة تنظيم السلطة السياسية/ الحكم.
و الذي يتأمل في موقف الاسلام من الحرية و المساواة، ومن نقيضيهما: الاستبداد و اللامساواة، و من إدارة الشأن العام/ المشترك لا يسعه الا ان يقر بالانسجام و التوافق الملحوظين بينه و بين موقف الديمقراطية من ذات المسائل. و – مرة اخرى- لا يتسع المقام لتفصيل القول في ذلك و لا لتناول الاعتراضات و الشبهات ذات الصلة.
و صحيح ان الموقفين ليسا متطابقين و لكن ليس من العسير- أولا- تفهم ذلك اللاتطابق في ضوء الاختلاف الواسع ما بين المصدر البشري للتنظير الديمقراطي و المصدر الالهي للتصور الاسلامي و- ثانيا- تبين ان هذا اللاتطابق ياتي لصالح تداعم الاسلام و الديمقراطية و تكامل الفقه / الفكر السياسي الاسلامي و الفكر الديمقراطي و ليس ، كما ذهب البعض، لصالح القول بتعارض او تناقض الاسلام و الديمقراطية.
و لن يخطئ المراقب الموضوعي ملاحظة وجود تنام ملحوظ في اتجاه إقرار إيجابية علاقة الاسلام بالديمقراطية ليس في اوساط جمهور المسلمين فقط و انما ايضا في اوساط الناشطين الاسلاميين. ولا ينبغي ان يشكل على مثل هذه الملاحظة وجود تنام ايضا في اللجوء الى استخدام القوة و العنف في اوساط بعض الناشطين الاسلاميين. فصحيح ان هذا العنف قد ارتكب جرائم ممقوتة يدينها الشرع قبل العقل وان من مرتكبيها مَن يرفضون الديمقراطية و خاصة في شكلها الغربي بيد انه ليس من الصواب القول بان ذلك يمثل موقف، او يحظى بدعم، جمهور الناشطين الاسلاميين أو جمهور المسلمين كما انه ليس من الموضوعية تعميم القول بان هذا العنف موجه كليا او حتى اساسا، كما يحاول البعض تصويره، ضد قيم الحرية و الديمقراطية و الحضارة و اغفال انه جاء في بعض حالاته دفعا لاستبداد او عنف محلي او خارجي او تنفيسا عن شعور عميق بالظلم و الغبن. و بالمثل لعله من الخطأ تفسير تنامي اتجاه اقرار ايجابية علاقة الاسلام بالديمقراطية في العالم الاسلامي على انه مجرد استسلام او مجاراة للضغوط الدولية او المحلية او انه يمثل خروجا على الاسلام او تطويعا غير مشروع لنصوصه من قبل – كما قد يسميهم البعض- الحداثويين او الليبراليين او – كما قد يسميهم البعض الاخر- الانهزاميين. و لعل الاقرب للواقع هو ان تنامي اتجاه اقرار ايجابية علاقة الاسلام بالديمقراطية هو حصيلة عوامل و تطورات عدة اسهمت في تطور فهم المسلمين للاسلام و شجعت على التحول الايجابي في مفهومهم للديمقراطية.
و اذا اتضح وجود تنام ملحوظ في اتجاه اقرار ايجابية علاقة الاسلام بالديمقراطية فان مواكبة هذا التطور و الحرص على دعمه يستدعيان من الدراسات النظرية التحول في تناول موضوع علاقة الاسلام – الديمقراطية من المقاربات التقليدية التي تمحورت حول نفي او اقرار هذه العلاقة و حكم كل من الاسلام و الديمقراطية في الاخر و الجدال حول تعارضهما الى البحث عن اوجه و فرص استفادة الديمقراطية و المجتمعات الديمقراطية من الاسلام و استفادة المسلمين و الفقه و الفكر الاسلاميين من الديمقراطية كما طورها الغرب.
وقد لا يكون القول بامكان استفادة الفقه الاسلامي و المسلمين من الديمقراطية محل انكار ممن يقرون بايجابية علاقة الاسلام- الديمقراطية بيد ان من هؤلاء من قد يستنكر او يستغرب القول بامكان استفادة الديمقراطية و النظم الديمقراطية المعاصرة من الاسلام او القول بامكان اسهام الاسلام في تقويم الديمقراطية.
رابعا- تقويم الاسلام للديمقراطية:
لا يجد من له معرفة كافية بالاسلام و الديمقراطية صعوبة في تبين ان الاسلام يمكن ان يقدم اسهاما مقدرا في معالجة الكثير من اوجه قصور الديمقراطية و بما يعظم من كفاءة الانظمة الديمقراطية و فعاليتها بدون الاخلال بجوهر الديمقراطية. و صحيح ان الاسلام لا يقدم حلولا نهائية و قاطعة لكل اوجه قصور او عيوب الديمقراطية و لكن من شأن المقارنة الموضوعية ان تكشف ان الاسلام يقدم من المقومات و الاساليب و الاليات و الضوابط التي يمكن ان تساهم بفعالية في الحد من تلك العيوب و في تعزيز و تقويم الديمقراطية عموما اكثر مما تقدم التصورات الكلية الاخرى السائدة كالليبرالية و الماركسية.
و لغرض التوضيح يمكن الاشارة في ما يلي الى بعض ما يمكن ان يسهم به الاسلام في دعم و تعزيز و تقويم الديمقراطية سواء على مستوى التنظير الفلسفي او مستوى التطبيق العملي. و يمكن تبين فرادة بعض هذه الاسهامات بمقارنتها بنظيراتها من اسهامات التصورات الكلية الاخرى :
مستوى التنظير الفلسفي:
فلسفيا تقوم الديمقراطية على- كما سبق الذكر- التاكيد على اصالة قيمتي الحرية و المساواة و ضرورة تأسيس نظام الحكم عليهما والاحتكام اليهما في ممارسة الحكم. و مما يسهم به الاسلام في دعم و تقويم هذه الفلسفة :
- دعم تأكيد اصالة قيمتي الحرية و المساواة و اضفاء الشرعية الدينية عليهما
- تقويم الا ساس القيمي للديمقراطية عن طريق:
· اعادة صياغة مفهومي قيمتي الحرية و المساواة على نحو يثري و يقوّم مفهوم الفكر الديمقراطي لهما
· دعم قيمتي الحرية و المساواة بقيم اخرى لا تقل اصالة و اهمية عنهما و لا تستقيم الحرية والمساواة و لا نظام الحكم القائم عليهما في غيابها او اغفالها. و في مقدمة تلك القيم قيمة العدل.
المستوى العملي:
يقدم الاسلام جملة من الاسهامات التي من شأنها تقويم الممارسة الديمقراطية عموما من خلال:
- تقويم مختلف عمليات الممارسة الديمقراطية بما فيها:
عملية التقرير و التشريع.
عمليات التطبيق بما فيها عملية اختيار الهيئات و السلطات و المسئولين وعملية تنفيذ القرارات و التشريعات و عملية المراقبة و المحاسبة.
خلق/ ايجاد او دعم البيئة الانسب لاستقامة الممارسة الديمقراطية.
و من تلك الاسهامات:
عملية التقرير و التشريع:
- دعم المعيار الديمقراطي الاجرائي/ الشكلي بمعيار مضموني . فالاسلام يقر المعيار الاجرائي الذي تتوقف عليه شرعية القرارات و التشريعات في النظام الديمقراطي و لكنه، و توخيا لرشاد و عقلانية و استقامة القرارات والتشريعات الديمقراطية، يعزز هذا المعيار الاجرائي بمعيار مضموني يستلزم لاستكمال شرعية تلك القرارات و التشريعات عدم مخالفة مضامينها للقيم و الاحكام التي اكد الاسلام على وجوب الالتزام بها وعدم مخالفتها. و تأتي اهمية هذا المعيار المضموني في ان من شأن مراعاته و الالتزام به الحد مما لا يمنعه المعيار الاجرائي فقط من احتمالات تنكب القرارات و التشريعات الديمقراطية الرشاد و العقلانية .
- توفير معلومات و توجيهات ارشادية من شأن استهداء سلطات التقرير و التشريع بها سد بعض ما قد يكون هناك احيانا من نقص خطير في ما تتطلبه سلامة بعض القرارات او التشريعات الديمقراطية من معرفة و معلومات قد لا تتوافر للعقل البشري او يتعسر عليه التيقن منها او يغلب عليه اغفالها بحكم ما هو معلوم من محدودية معرفته و قابليته للخطأ و الانسياق وراء الهوى.
- تأمين قدر اكبر او مستوى اعلى من الفصل بين السلطة التشريعية و السلطات الاخرى التنفيذية و القضائية. فالاسلام يوزع السلطة العامة/ السياسية على أساس:
· اختصاص الله بسلطة التشريع الاساسي والذي يحدد المبادئ و الموجهات العامة و بعض الاحكام الاساسية التي تنظم و تحكم علاقات الانسان بالله و علاقاته باخيه الانسان و علاقاته بالكون
· اختصاص البشر عموما بسلطة التشريع الإبتنائي والسلطتين التنفيذية والقضائية.
وليس من العسير ادراك ما يمكن ان يحققه هذا الفصل الملموس، والذي يجرد البشر من سلطة التشريع الاساسي، من ايجابيات تأتي في مقدمتها:
· كبح جماح الفئة الاقوى و الحد من فرص استغلالها للسلطة التشريعية، و التي عادة ما تكون تحت سيطرتها او نفوذها، سواء في النظام الديمقراطي او النظام اللاديمقراطي، لاضفاء الصبغة القانونية او الشرعية على اعمالها و اطماعها الاستبدادية سواء ضد الاقليات المحلية او الفئات الضعيفة او ضد شعوب و دول اخرى اضعف شأنا.
· الحد من احتمالات تبني الشعوب او الانظمة لقرارات او تشريعات اساسية ضارة بالبشر اتباعا للهوى او جهلا بحجم و خطورة آثارها.
عمليات التطبيق:
من اسهامات الاسلام في دعم الممارسة الديمقراطية، قدرة الاسلام على الاسهام في رفع مستوى مشاركة القاعدة/ المجتمع المدني و اعضاء و مسئولي المؤسسات الديمقراطية كل في ما يليه من مهام و مسئوليات تتعلق بعمليات حسن تطبيق الديمقراطية. و يتوسل الاسلام لرفع مستوى المشاركة بدعمه لحوافز المشاركة التي يوفرها أصلا النظام الديمقراطي، و التي كشفت التجارب الديمقراطية عن عدم كفايتها و خاصة على المستوى القاعدي، بحوافز و اجراءات اخرى ذاتية ذات طبيعة دينية . و من تلك الاجراءات و الحوافز:
- تخويل المواطن المكلف سلطة المشاركة، بما فيها المشاركة السياسية، في اصلاح المجتمع. فبموجب نصوص الشرع يملك كل مواطن مكلف سلطة انكار أي اعوجاج، سياسي او غبر سياسي، في المجتمع كله و، بالتالي، في النظام الديمقراطي و مؤسساته ايضا كما له سلطة حث الافراد و الجماعات و المؤسسات و المسئولين فيها على الالتزام بالواجبات و المهام المناطة بهم دينيا او دستوريا او قانونيا او عرفا. و حيث ان هذه السلطة المخولة من الله مباشرة للمواطن المكلف لا تقبل شرعا النزع او الالغاء ، و إن كانت تقبل التنظيم، فان من شأن ذلك ان يحمي الحق القانوني للمواطن في المشاركة السياسية من محاولات تقنين نزعها او تقليصها بمبرر او اخر.
- جعل المشاركة ليس مجرد خيار مرغوب، كما هو عادة في النظم الديمقراطية، و انما واجبا دينيا يتعين على المسلم الحرص على اتيانه كحرصه على اتيان شعائره التعبدية
- ترتيب جزاء رباني لا يتخلف ابدا على الموقف من المشاركة حيث يثاب الشخص ان شارك مشاركة ايجابية و يعاقب ان تقاعس كسلا او اهمالا او شارك مشاركة سلبية.
ايجاد/ دعم البيئة الايجابية:
يعد غياب البيئة الايجابية، كما سبقت الاشارة، احد اهم اسباب افراغ الممارسة الديمقراطية من معانيها و مقاصدها الايجابية لتصبح ممارسة شكلية قد لا تقل اضرارها على منافعها. ولذلك فان ما يمكن ان يقدمه الاسلام من اسهام في ايجاد او دعم البيئة الايجابية للنظام الديمقراطي يكتسب اهمية كبيرة خاصة و ان هذا الاسهام بأتي شاملا للبيئة بشقيها المعنوي و المادي.
ويسهم الاسلام في تحسين البيئة المادية للنظام الديمقراطي من خلال حرصه على منع تمركز السلطة، بمختلف انواعها و اشكالها. و يعد منع تمركز السلطة احد اهم الشروط الاساسية لنجاح الديمقراطية لأن في تنامي تمركز و احتكار السلطة افساد محقق للديمقراطية. فاحتكار السلطة يخلق بين من يحتكرها و من يفتقر اليها هوة واسعة و عميقة لا تقوى الديمقراطية على تجسيرها و الربط بين حافتيها ( طرفيها) و ربما، بدلا عن ذالك، هوت الى اسفل قاعها فلا يعد هناك من جسر لعبور تلك الهوة سوى جسر الاستبداد و الطغيان او جسر الثورة .
و لما للمال من دور في حياة الانسان و اثر على نفسه فقد برزت السلطة المالية كاقوى سلطة و غالبا ما يفضي احتكارها الى إحتكار السلطات الاخرى، بما فيها السلطة السياسية و السلطة الاعلامية و السلطة العسكرية، او اخضاعها لنفوذها. و ادراكا لهذه الحقيقة يعطى الاسلام اهمية خاصة لتوزيع المال بين مختلف افراد و فئات المجتمع ضمانا لتوزيع و بسط السلطة المالية و رفضا و منعا لتمركزها او احتكارها و تحوطا ضد ما قد يؤدي اليه تمركز او احتكار السلطة المالية من تمركز او احتكار السلطات الاخرى ايضا. و لا يتسع المقام لتفصيل القول عن نظام واليات توزيع الاسلام ليس للمال و السلطة المالية فقط و انما ايضا لسائر الموارد و السلطات، وقد سبقت الاشارة، مثلا، الى بعض ما يتبناه الاسلام لتوزيع السلطة العامة/ السياسية.
و بالاضافة الى اسهاماته في تحسين البيئة المادية، و الذي تشاركه فيه بقدر تصورات كلية اخرى، يولي الاسلام اهمية خاصة، و فريدة في بعض جوانبها، لتحسين البيئة المعنوية/ الثقافية للنظام الديمقراطي و ذلك من خلال ايجاد و تنمية اطر خلقية و شعورية و روحية و مفاهيمية وعقدية ادعى مما سواها لاستقامة الممارسة الديمقراطية وتنقيتها من كثير من الشوائب و العيوب التي عادة ما تصاحبها و تقلل من كفاءة و فعالية و، بالتالي، جاذبية النظام الديمقراطي.
و في تكامل و انسجام يميزان الاسلام، تتضافر مختلف النظم الاسلامية، بدءا بالنظام العقدى و مرورا بالنظام الشعائري التعبدي و النظام الخلقي و التربوى و غيرهما و انتهاء بالنظام السياسي، لخلق و تنمية البيئة المعنوية الانسب لاستقامة و تفعيل الممارسة الديمقراطية. و لا يدخل ضمن اهتمام هذه الورقة تتبع تفاصيل ذلك بيد انه قد يكون من المستحسن ذكر بعض الامثلة :
- على المستوى المفاهيمي و العقدي: مما عني به الاسلام على هذا المستوى اعادة صياغة و تشكيل ليس فقط ثقافة و مفهوم السلطة و الحكم و انما ايضا سائر الثقافات و المفاهيم العامة الاساسية و المؤثرة على سلوك الانسان السياسي بما يساعد على تعزيز و تقويم الممارسة الديمقراطية. و قد تبدو بعض الثقافات و المفاهيم عديمة او ضعيفة الصلة بالسلطة و الحكم و لكنها في الواقع تؤثر على الديمقراطية بدرجة او اخرى من خلال تاثيرها على السلوك السياسي. و على سبيل المثال فقط يمكن الاشارة هنا الى الاثر السلبي لما تروج له التصورات الكلية الاخرى من مفاهيم للسعادة توهم البشر بان الوصول اليها يتطلب اطلاق العنان للشهوات مما يدفعهم، طلبا للسعادة، الى التركيز على اشباع تلك الشهوات فيسخرون له مواردهم الخاصة التي غالبا ما لا تكفي لاشباعها- لانها لا تشبع اصلا- فيميلون الى توظيف كل ما قد يصلون اليه من الموارد و السلطات العامة بما فيها السلطة السياسية لاشباع ذات الشهوات بما فيها شهوات المال و السلطة و الشهرة و الجنس و...الخ و هو ما يترتب عليه بالضرورة الفساد السياسي الذي يفسد الممارسة الديمقراطية. في المقابل، نجد ان الاسلام يتبنى ثقافة و مفهوما مغايرين للسعادة يؤكدان على ان سعادة الانسان تكمن في رضى الله و ان الطريق الى هذه الرضى تمر عبر الزهد في الشهوات و الاكتفاء بالاشباع العقلاني لها و تجنب الطرق غير المشروعة في تحقيق ذلك الاشباع العقلاني و هو ما يمكن ان يسهم في دفع المواطنين و المسئولين المسلمين، او بعضهم، الى الزهد ليس فقط في توظيف السلطة السياسية لاشباع شهواتهم و انما، احيانا، في السلطة السياسية نفسها باعتبار انها يمكن ان تتحول الى شهوة فتقل بذلك لديهم دوافع الفساد السياسي بينما تتعزز دوافع الطهر السياسي فتتوافر للديمقراطية فرص اكبر للنجاح و الاستقامة.
- على المستوى الخلقي- التربوي: يركز الاسلام على اعتماد النظام الخلقي - التربوي موجها و ضابطا اساسيا لسلوك الافراد و الجماعات و لكن بدون اغفال او اهمال الضوابط الاخرى . ولأنه ينبع من الذات يعد الضابط/ الموجه الخلقي- التربوي اكثر فاعلية في توجيه و ضبط السلوك، بما فيه السلوك السياسي، من الضوابط الاخرى الخارجية مثل الضابط القانوني و الضابط العرفي. و بينما الديمقراطية، و الممارسة السياسية عموما، احوج ما تكون الى مثل هذا الضابط الذاتي فانه لا الديمقراطية في حد ذاتها و لا التصورات الكلية الاخرى السائدة التى قد تختار لتشكيل و توجيه البيئة العامة للديمقراطية من مثل الليبرالية و الماركسية بقادرة على ان ترتقي مرتقى الاسلام في القدرة على تعزيز هذا الضابط الذاتي كما و نوعا و تجذرا و انتشارا في المجتمع و بما يحقق الالتزام الذاتي بتزكية الممارسة الديمقراطية.
خامسا - دعم الديمقراطية للاسلام:
كما يساهم الاسلام في تعزيز و تقويم الديمقراطية على النحو الذي تمهدت الاشارة الى بعض ملامحه، اسهمت و تساهم الديمقراطية، بدورها، في دعم الاسلام و ترسيخه على المستويين الفكري/ الفقهي و العملي و خاصة في النطاق السياسي.
على المستوى الفكري تمثل الديمقراطية تقدما كبيرا في الفكر البشري السياسي بالنظر الى ما تدعو اليه من قيم و مبادئ الحرية و المساواة و التداول السلمي للسلطة و التي طالما قاومها الفكر البشري التقليدي تاريخيا. وحيث ان هذه القيم والمبادئ تمثل بعض قيم و مبادئ الاسلام فان تبني الديمقراطية لها و ترويجها لها في الفكر البشري لا شك يمثل دعما قيما و ترسيخا للفكر/ الفقه الاسلامي الراشد و تقويما لما اعوج منه.
على المستوى العملي ايضا قدمت وتقدم الديمقراطية دعما اكبر للاسلام من نواح عدة منها:
- ابتكرت او طورت الممارسة الديمقراطية نظما و آليات متطورة في مقدمتها النظم الانتخابية، و مأسسة السلطات العامة ، و الفصل العضوي بين السلطات، و تأقيت مدة ولاية السلطات، و اشاعة حق الاقتراع العام و غير ذلك مما يمثل تجارب ثرة تفيد كثيرا في التطبيق العملي لما يأمر به الاسلام من تنظيم الامر العام و ممارسة الشورى السياسية.
و من الحقائق التي يتعذر اغفالها او انكارها ما يشهد به الواقع من ان كل تجارب الحكم الاسلامي التاريخية التي فشلت في حسن تمثل الشورى و تجارب الحكم الاسلامي المعاصرة التي فشلت في حسن تمثل الديمقراطية أثبتت فشلا مماثلا في حسن تجسيد الحكم الاسلامي وانتهت، حيث تدنت حظوظها من الشورى او الديمقراطية عن الحد الادنى منهما، الى صراعات مسلحة داخلية شكلت وبالا على الاسلام و المسلمين.
- يعد النظام الديمقراطي افضل انظمة الحكم المعروفة توفيرا للبيئة السياسية الانسب لتمكن و تمكين الاسلام في المجتمع و تنافسه سلميا مع التصورات الكلية الاخرى على كسب عقول الناس و ارادة الشعوب. و لعله من السنن التي تتضح اكثر فاكثر يوما بعد يوم ان الاسلام اقدر على كسب التنافس الحر السلمي منه على كسب الصراع الدامي مع أي تصور كلي او كيان اخر و في أي مجتمع كان، و ربما كان ادراك هذه الحقيقة احد اسباب تردد البعض في اقامة ديمقراطيات حقيقية و حرص البعض الاخر على اقصاء العمل السياسي الاسلامي الوجهة، مهما كان سلميا و ملتزما بالديمقراطية، من الممارسة الديمقراطية الكاملة.
*محاضرة منقولة عن مؤسسة المنصور