دور المؤسسات التربوية في مواجهة مظاهر العنف
الأربعاء, 11-يوليو-2007الدكتور/ أحمد محمد الدغشي - (مركزية الدور المدرسي)
تمثل المؤسسات التربوية وسيطاً أساسياً بين المتعلِّم وعملية التعلّم، لما لها من أدوار جدّ مؤثرة في سلوك النشء. ومن الخطأ الشائع أن يظل بعض المشتغلين بالعمل التربوي يُرادِف بين هذه المؤسسات بما لها من سمات كلية كبرى وبين الوسائل أو الأساليب التربوية التي لا تمثِّل سوى جزء يسير من البناء الكلي لتلك المؤسسات، وإن كان الناظم المشترك الأبرز بينها جميعاً هو العمل على مساعدة الناشئ والأخذ بيده نحو تحقيق أهداف التربية، بيد أن بعض المؤسسات التربوية ترسم لها أهدافاً تربوية معلنة وغير معلنة حيناً، مدرَكة وغير مدرَكة حيناً آخر، مستعينة ببعض تلك الوسائل والأساليب لتحقيق تلك الأهداف المؤسسية.أي أن الوسائل والأساليب ليست بأكثر من أجزاء صغيرة محدودة- على أهميتها- داخل تلك المؤسسات الكبرى، بحيث تمثل أدوات لها، لا أنها على ندّية معها. ومن هنا فلابد من إعادة النظر في بعض الإطلاقات التربوية، ومراجعة بعض المسلّمات، ومنها هذا الاعتقاد بالترادف بين المؤسسات والوسائل أو الأساليب، ذلك أن بقاءها على ذلك النحو من شأنه أن يسهم في (تقزيم) أدوار المؤسسات التربوية!
المدرسة هي المحور:
وإذا رُمنا تحديداً مقارباً لأدوار المؤسسات التربوية في مكافحة ظاهرة العنف -سواءً تلك المؤسسات المقصودة مثل المدرسة وما في حكمها من معاهد وجامعات ونحوها، أم غير المقصودة غالبا مثل الأسرة والمسجد والإعلام بقنواته الثلاث: المرئية والمسموعة والمقرؤة، عدا المعلوماتية بتقنياتها المعقّدة المتطورة، أم تلك التي لا تلتفت عادة إلى بُعد القصد من عدمه – رغم تأثيرها البعيد في أحيان كثيرة- كجماعة الرفاق أو التنظيمات والأحزاب السياسية، وكذا ما يُعرف بمؤسسات المجتمع المدني- إذا رُمنا ذلك فلا بد أن نعي أن دور كل واحدة منها ينبثق من طبيعة الفلسفة والأهداف والسياسات والاستراتيجيات والخًطط المعلنة و غير المعلنة، التي تقوم عليها هذه المؤسسة أو تلك.
وإذا افترضنا أن المدرسة - وهي المؤسسة الأبرز من حيث القصد والتوجيه ووضوح الأهداف عادة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية تستهدف في فلسفتها الكلية عبر جميع مراحل الدراسة ومستوياتها ومقرراتها وأنشطتها: إخراج الشخصية الحضارية السويّة المتوازنة، البعيدة عن جانبي الإفراط أو التفريط في التفكير أو السلوك؛ فإن هذا يقتضي أن تتضافر جميع عناصرها بدءًا من المناهج بعناصرها الأربعة ( الأهداف والمحتوى والأنشطة والتقويم) ،مروراً بالمعلم والمتعلّم، والسلّم التعليمي، والتمويل، والإدارة، وانتهاء بعمال المدرسة وحراسها،ومزارعيها، وكل من له صلة بها على نحو مباشر أو غير مباشر، إذ التربية عملية نظام متكامل متعاضد، يؤثر فيه الكل على الجزء، كما يتأثر فيه الكل بالجزء، على نحو تبادل تفاعلي شبكي منظّم.
دور المدرسة من خلال وظائفها:
إن من أبرز وظائف المدرسة اليوم القيام بجملة وظائف لعل من أبرزها فيما نحم بصدده :
1- تطهير المناهج وتصفيتها
أي أن تعمل المدرسة – وهي رمز وزارة التربية وما في حكمها هنا- على تطهير المناهج من الانحرافات والخطايا الكبرى التي قد تتضمنها بعض المناهج، وتصفيتها من أي شوائب أو أخطاء وقعت فيها،أيّاً كانت أسباب ذلك أو دوافعه. ومن أبرز الانحرافات ذات الصلة بالعنف ما قد يسوّق لهذا المسلك متلبِّساً بالدين أو بالتاريخ الوطني أو القومي أو العام الهادف إلى تسويغ مسلك العنف وأساليبه ووسائله، استنادا إلى قداسة الدين ومن ثم حتمية الدفاع عنه، حتى لو لم يكن لذلك دواعيه الشرعية والمنطقية والواقعية الموضوعية، كحصول اعتداء من عدو خارجي، أو قيام فتنة في المجتمع غير الإسلامي إزاء أناس مضطهدين، تحول دون أن تبلغهم كلمة الإسلام وعقيدته- مع ما يستلزمه ذلك من توافر الشروط وانتفاء الموانع الخاصة بإعلان ما يُعرف بجهاد الطلب- أو الوقوع تحت نير عدوان صائل داخلي يستبيح الدين أو النفس أو الأرض أو العرض، أو وقوع سلب للمال، أو تهديد يطال أيّاً من ثوابت الدين أو الوطن أو الانتماء القومي، أو الإسلامي، أو انتهاك للكرامة بأي معنى كلّي يقتضي رفع السلاح أو التلويح بذلك، دون أن يجد له سنداً مكيناً من الشرع والمنطق والواقع الموضوعي . وعلى ذلك فإن المناهج الدراسية الظاهرة أو الخفيّة لابد أن تطهّر من أي متضمنات تصرِّ ح بالعنف أو تلوِح به، سواء مما حمله التراث بتجارب بعض السابقين، التي تحتمل القبول والرفض، والصواب والخطأ، أو ما تسلل إليها اليوم من بعض الثقافات المعاصرة كالهوبزية أو الفاشية أو الميكافلية أو سواها، في سياق ردود الأفعال التي تعمي وتصم أحياناً.
2- صهر أفكار المتعلمين وإيجاد التجانس بينهم
وهنا يبرز الدور التربوي لمؤسسة المدرسة أكثر ما يكون، إذ إن بيئات المتعلمين ليست سواء، فبعضها مليئة بأفكار العنف، سواء ظهر ذلك في شكل استعلاء طبقي، أم اعتداد عنصري متطرِّف بالسلالة، أم الثقافة، أم الجاه، أم الجهة، أم الانتماء الخاص بأي معنى.
إن هذا الاستعلاء وذاك الاعتداد الذين يمارسهما طرف ممن التحق بالمدرسة؛ ينعكس كراهية وانتقاماً وحسداً على الطرف الآخر الذي تمارس ضده تلك المسلكيات، إذ هو ينتمي إلى مؤسسة المدرسة نفسها.
وهنا يُفترض أن تسعى المدرسة عبر مناهجها، وأساتذتها، وموجهيها، وإدارتها،وأنشطتها متعددة الوجوه؛ إلى خلق وحدة نفسية وفكرية بين كل أبناء البيئة المدرسية، تذوب فيه انتماءاتهم الضيقة، واستعلاءهم الموهوم،وتنصهر جميعها في بوتقة البيئة الجديدة (بيئة المدرسة)، ليصبح الشعور بالانتماء إلى هذه البيئة(المجتمع المدرسي المصغّر) هو التغير التربوي الإيجابي الجديد، حيث علاقة الدراسة والزمالة والهموم المشتركة داخلها يمثل المقدمة الأساس للانتماء المجتمعي، مع زوال تلك الفوارق الجاهلية شيئاً فشيئاً ، على أساس من الأخوة بكل دوائرها وأبعادها، تلك التي وضعت المدرسة لبناتها الأولى ومداميكها الأساس. وهنا يتحتّم على المدرسة القيام بدورها الفعّال في التصحيح لذلك الوضع غير السوي حين تعمد إلى تغيير تلك الثقافة استنادا إلى مناهج التربية الإسلامية الداعية إلى قيم المساواة والكرامة الإنسانية والتآخي، واعتماد التقوى والاستقامة أساساً في التفاضل، والحكم لأحد بحيازتهما بيقين أمر دونه خرط القتاد، إذ يصعب التحقق من حقيقة ذلك، أو الجزم لأحد بأنه ناجٍ أو هالك، فذلك حكم الله وحده، وإنما نشهد بظاهر السلوك لا بدوافعه وخلفياته الخفيّة على البشر.وتأتي بعد ذلك التربية الاجتماعية معالجة لتلك المزالق والأخطاء السائدة في الواقع شرحا وإيضاحاً وضرباً للأمثلة، بتوجيهات القيم الإسلامية العليا.
3- استكمال الدور التربوي للأسرة وتصحيحه
إن كل فرد إنساني وُلِد عادة في أحضان أسرته، تلك التي تبذل قدراً من العناية والاهتمام، كي يستطيع وليدها أن يتجاوز مرحلة العجز والاعتماد على الآخرين. ويأتي اهتمامه الأسرة ورعايتها في ضوء ظروفها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وهنا تصبح وظيفة المدرسة استكمالاً واضحاً لتلك الجهود في الاتجاه الإيجابي العام، لكن من الوارد كذلك أن تنشئ بعض الأسر أفرادها على مسلك العنف على نحو غير مقصود غالباً، ولذلك أسبابه الموضوعية المكتسبة من وحي معاناة الأسرة في أغلبية مجتمعاتنا. فغياب العدالة الاجتماعية، واستئثار فئة من ذوي النفوذ في المجتمع بالمال والثروة والتسلط السياسي والاجتماعي، وضعف أو انعدام تكافؤ الفرص في المشاريع والحقوق الاجتماعية الطبيعية والمدنية المتمثلة في التعليم الجيد، والعمل المناسب، والعلاج الصحي السليم، والسكن الملائم، والزواج الشرعي. هذا مع انتشار ظواهر التمييز الطبقي الاجتماعي، وبروز العنصرية بألوانها المختلفة، وغلاء المهور، في مقابل ازدياد طابور العزاب، وغلاء الأسعار على نحو مضطرد، وانتشار صور التعصب بين الأفراد والجماعات والأحزاب والقبائل وبعضها، وما يستتبع ذلك من ظواهر الكراهية والثأر والحسد والانتقام، والخلافات الداخلية بين الآباء والأبناء والأزواج وزوجاتهم والأقارب وبعضهم. أضف إلى ذلك مظاهر البطالة الصريحة، وتفشي ظاهرة التسول، في مقابل نهب المال العام والخاص أحيانا- من قِبَل بعض ذوي النفوذ السياسي والاجتماعي- مع قلة في الدخل، أو انعدامه أحيانا لدى فئة واسعة من أبناء المجتمع.
ومع تعقد الحياة الاجتماعية المعاصرة، وتزايد أعبائها، وارتفاع تكاليف المعيشة، وكثرة الالتزامات المادية تجاه جهات عدة حكومية (ضرائب – أجور مياه وكهرباء وهاتف – ورسوم أخرى لا نهاية لها) وغير حكومية (التزامات أسرية وعائلية وقرابية عدة) فإن تربة العنف تجد خصوبتها في نفسية ربّ الأسرة الذي يواجه وحده –غالباُ- كل هذه الألوان من المصاعب، وهو ما ينعكس على نفسيته أولاُ، ثم ينتقل إلى الزوجة وبقية أفراد الأسرة شيئاً فشيئاً. ذلك كله يمثل مُناخاً ملائماً لتجذّر أفكار العنف وتبنّي ثقافتها، في نفوس الكبار، ومن ثمّ ينتقل تلقائياً عبر أساليب التنشئة الاجتماعية إلى الناشئة الصغار . وهنا يبرز تأثير البيئة الاجتماعية السلبي في أوضح صوره، حيث ينعكس على الأساليب التربوية القاسية، ويغدو العقاب البدني هو الأسلوب المفضّل في حالات كثيرة، لا فرق في ذلك بين الأولاد والبنات، فطبيعة الصنف الأول تفرض فيهم الاخشوشان والجَلَد الذي قد يخرج عن طوره الطبيعي إلى ضرب من الاسترقاق والإذلال، سرعان ما يتحول إلى مركّب نقص في شخصية الناشئ، فيزرع فيه الاعتقاد أن إثبات الفحولة لا يتحقق إلا بممارسته للدور ذاته الذي نُشِّئ عليه في طفولته، وهو ممارسة العنف بشقيه المادي والمعنوي تجاه أسرته ابتداءً، وتجاه من اؤتمن على تنشئتهم ورعايتهم في أي موقع بعد ذلك، وتلك هي نفسية العبيد وطبيعة القطيع التي وصف بها الجاحظ مجتمعه منذ القرن الثالث الهجري.
أما الفتاة أو البنت فالاتجاه القاسي في تنشئتها يجد له من المسوّغات أضعاف ما يجده مع الولد، حيث المحافظة المفرِطة أحياناً؛ تقتضي اتخاذ الأساليب الوقائية العنيفة المادية أو المعنوية، بما يضمن عدم وقوعها في المحظور الأخلاقي أو الاجتماعي، ومن ثم فإن قائمة الممنوعات لا تنتهي، وأساليب العنف في تزايد مستمر، تحت تأثير ثقافة العيب! التي قد تتلبس أحياناً بدثار الدين وتعاليمه وتوجيهاته.
وإذا كان ذلك كلّه انعكاساً تلقائياً لتأثير البيئة الاجتماعية فإن للبيئة الطبيعية تأثيرها الآخر في تعميق مسلك العنف،بفارق جوهري فحواه، أن لا علاقة للقصد والتوجيه في ذلك، إذ إن للتضاريس والمُناخ، والموقع الجغرافي، ونحو ذلك من العوامل البيئية أثرها المباشر وغير المباشر في تشكيل ثقافة النشء ومسلكياتهم من الجنسين. وهنا يقل التركيز على الفوارق العضوية بينهما، إذ الخشونة والمجالدة للبيئة القاسية بكل مفرداتها متطلبات ضرورية للتكيّف معها بصرف النظر- إلى حد ما- عن الطبيعة العضوية للولد أو البنت. وهذا هو المعنى العام الذي أشار إليه ابن خلدون في القرن الثامن الهجري في مقدّمته الشهيرة( مقدِّمة ابن خلدون)، حيث عنون في المقدِّمة الثالثة بقوله:"في المعتدل من الأقاليم والمنحرف، وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم". وأوضح فيها مدى التأثير السلوكي المباشر لذلك . ولا غرابة أن يؤثر سلوك أبناء البيئة الجبلية الوعرة في سلوكهم خشونة وقسوة، لكثرة معاناتهم في الصعود والهبوط، وهو ما قد يستحيل إلى ضرب من العنف المسلكي في نمط الحياة، أكلا وشرباً وتخاطباً، ولبساً وغيره، مع تقادم السنين، وتطاول الآماد. هذا مع ما يُعلم من مظاهر إيجابية تسهم فيها أمثال هذه البيئات من مثل حدّة الذكاء، والتخلص من مظاهر الضعف والعجز والاتكالية. وذلك بخلاف البيئة السهلية أو الساحلية، حيث البساطة في المسلك الحياتي، أكلا وشرباً وتخاطباً ولبساً كذلك، نظراً لتعاملهم المباشر التلقائي مع الطبيعة الممتدة السهلة، حيث الجهد أقل وفق المنطق الطبيعي للبيئة، لكن مع ضعف وعجز وتكاسل وتواكل كسمت عام في مثل تلك البيئات، وفق المنطق ذاته.
وهنا يكمن الدور التصحيحي للمدرسة فيما يتصل بالبيئة الاجتماعية، في ضرورة تضمين مناهج التربية الإسلامية والتربية الاجتماعية- على وجه الخصوص- تلك المشكلات صراحة حيناً وضمناً حيناً آخر، بحسب حضورها وتفشيها في المجتمع المحلي أو العام، مع الاستناد إلى النصوص الصحيحة الصريحة ذات الصلة بها. ولا شك أن الإسلام جاء وبعض من تلك المشكلات قائم، وعمل على معالجته بالجملة. وقد أسهمت عصور الانحطاط الثقافي في إعادة بعضها جذعاً اليوم، كما تضخّمت بعض تلك المشكلات مع تقادم الزمن،، وتطاول الآماد. ولعل مناهج التربية الاجتماعية هي الأنسب في سرد قائمة من تلك المشكلات، مع تقديم معالجات مناسبة لها، عبر جميع المراحل والتخصصات، بما ينسجم وسن المتعلّم وواقعه البيئي .
أما بالنسبة للبيئة الطبيعية فإن بسط مناهج التربية الإسلامية – على وجه الخصوص- القيم الإسلامية المتمثلة في فضائل الاحتساب والابتلاء والصبر والتسامح والتواضع ولين الجانب، في مقابل التنفير القرآني والنبوي من مسلكيات الجزع والغلظة، والتهوّر والعنف، وكذا الاتكالية والعجز من شأنه أن يسهم إلى حدّ مقدّر في التخفيف من حدّة تلك التأثيرات السلبية.
4- تنسيق الجهود بين المدرسة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى
و تمثل هذه الوظيفة مرحلة أشبه بمرحلة الإشراف والمتابعة للتأكّد من مخرجات المدرسة، وفي هذه المرحلة تعمل المدرسة على متابعة أداء مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى ولا سيما الأسرة والمسجد والإعلام وسواها، من حيث مدى الانسجام والتناغم بينها، ولا شك أن التنسيق والتكامل بين المدرسة وبقية المؤسسات الأخرى يُعدّ صمام أمان نجاح العملية التربوية بصورة عامة، كما أن تحقق ذلك التنسيق والتكامل المأمولين رهن بمدى تفعيل ذلك الدور الإشرافي للمدرسة ومتابعته، حتى يؤتي ثماره. ومن المؤكّد أن دور المدرسة فيما يتصل بمشكلة العنف ليس بالأمر الهيّن، فالأسرة – كما سبق القول- قد تمارس من مسالك العنف تجاه أفرادها أو بعضهم-نظراً للأسباب المشار إلى بعضها فيما تقدّم-؛ ما يستدعي التواصل معها، للبحث عن أسباب ذلك المسلك في سلوك الناشئ لتغيير ذلك المسلك، أو تعديله على الأقل، عبر الرسائل المكتوبة والزيارات المتبادلة، مع ما يتطلبه ذلك من إيلاء جانب الزيارات، ما يستحق من حسن الترتيب شكلاً وموضوعاً، وانتظام انعقاد مجالس الآباء، ومجالس الأمهات، شريطة أن تُعدِّل المدرسة في بعض مجتمعاتنا من سياستها، التي أحالت الوظيفة الأساس لهذه المجالس إلى (الجباية) بالدرجة الأولى، ولعلّ ذلك أحد الأسباب الرئيسة لفشل انتظامها، فضلاً عن تحقيق أدوارها المأمولة في تلك المجتمعات!
وإذا سلطنا الضوء على علاقة مؤسسة المدرسة بمؤسسة المسجد؛ فإن المفترض أن تكون علاقة تنسيق وتكامل على نحو يميزها عن بقية مؤسسات التنشئة الأخرى، ذلك أن ظاهرة العنف التي باتت اليوم مؤرقة للمسجد قبل المدرسة! لا يمكن عزل بعض من يتولى شئون التوعية والخطابة والوعظ والتدريس المسجدي عن الإسهام أحياناً في صناعتها؛ حين يعتلي المنبر بعض من يؤمن بسلامة منهج العنف، وإن لم تكن تداعيات ذلك المنهج ومآلاته الخطرة حاضرة -بالضرورة- في ذهنه؛ وذلك حين ظل لسنوات -وربما عقود- يشحن أفئدة الجمهور ونفسياتهم – ولاسيما الناشئة منهم- بضرورة استعمال العنف في تغيير المنكرات الظاهرة والباطنة، و خاصة حين تُغلق في وجوه الدعاة والمصلحين السبل السلمية في التغيير. ومن هنا كانت عملية التواصل بين مؤسستي المدرسة والمسجد في غاية الأهمية والضرورة، بحيث لا تعمل أي منهما ، وكأنها في جزيرة نائية معزولة عن الأخرى، بل إن آليات التواصل خصبة ومثمرة، إذا أحسن إدارة ذلك، عن طريق دعوة خطباء المساجد- مثلاً- إلى المدرسة لأداء محاضرات، والإسهام في أنشطة، تُحدّدها المدرسة، بناء على إدراكها للموضوعات ذات الصلة بظاهرة العنف وملابساتها.كما أن الخطباء والوعاظ والدعاة الواعين لابد أن يتفاعلوا مع المدرسة في تقويم مسارها فيما يتصل بهذه الظاهرة- على سبيل المثال- عن طريق تبصير القائمين عليها بالتوجيهات والأساليب الدعوية والتربوية الناجحة، وأن يعرضوا خبراتهم عليها، بحيث يغدون أشبه بأعضاء- غير رسميين- في الهيئة التدريسية للمدرسة، من حيث تقديم المشورة، والإسهام مع جهود الإدارة والموجّهين والمدرسين في حل مشكلات النشء -ومنها مشكلة العنف-.
أما فيما يتعلق بعلاقة المدرسة بمؤسسة الإعلام بقنواته الثلاث، فيبدو الأمر أعقد مما يتصور، تجاه ظاهرة العنف- على وجه التحديد-. ولابد من التصريح في هذا السياق أن
الوسيط الإعلامي الذي يفترض أن يكون الرديف والرافد القوي للمدرسة يعمل في الغالب،
-وخاصة عبر قنواته الرسمية- في الاتجاه المضاد، حيث يشايع التنشئة المنحرفة من خلال عرضه لأفلام العنف، حين يركز على الرجل الحديدي والخارق والآلي، والسوبرمان الذي لا يهزم.. إلخ وكذا بعض المسلسلات المتلفزة فإن بعضها لا يخلو من إيحاء وربما سفور بأن البطولة إنما هي لمن درج على العنف وسلك مسلك "القبضايات"!
أما ما يسمى بأفلام الكرتون التي تشغل الحيز الأكبر من فراغ الأطفال وحتى الناشئة الكبار فإن سوقها رائجة في الوسائل المرئية. وتهتم هذه الأفلام غالبا بحكايات المغامرات، وزرع الخرافة في نفوس الناشئة، إلى جانب غرس مسلك العنف كنمط سلوكي يرمز إلى معاني العظمة والتفوق والنجومية. وذلك كله يعني تنشئة مبكرة على تقبل هذه الظاهرة وسلوك مسلكها.
والتحدي الأصعب أمام مؤسستي المدرسة والإعلام معاً يتمثّل في إمكان تجاوز حالة الجفاء أو القطيعة التي لا تزال تطبع نمط العلاقة بينهما . ولا يمكن تحقيق ذلك إلا باستشعار المسئولية المشتركة بينهما . ومع انتشار القنوات الفضائية وصعوبة السيطرة المنضبطة على ما تنشره المؤسسات الخاصة- إذا لم يكن ثمّة وازع أخلاقي أو ديني أو وطني داخلي - يتجِّه التركيز على المؤسسات الإعلامية الرسمية في ضرورة تغيير نمط العلاقة مع المؤسسة (الأم) وهي المدرسة، بحيث لا يُُبث، أو يُذاع ، أو يُنشر إلا ما كان معزّزا لدورها ورسالتها، داعماً لبرامجها، وأنشطتها. وآلية ذلك: التواصل الفعلي بين القائمين على المؤسستين؛ بحيث تتجسّد التربية الإعلامية عملياً، عبر معرفة كل طرف لواجبه تجاه الطرف الآخر،وصولاً إلى تحقيق حالتي التنسيق والتكامل المأمولتين. وما لم يحدث ذلك فإن المتعلّم – كما يصفه الأستاذ الدكتور سعيد إسماعيل علي – سيصبح أشبه بالعربة لتي يجرّها حصانان: أحدهما ينطلق به ذات اليمين والآخر ذات اليسار، والنتيجة لا تستأهل كبير فطنة!
* أستاذ أصول التربية المشارك- جامعة صنعاء